تسبب التعديل الوزاري الذي أُجري في تونس الثلاثاء 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 في اندلاع أزمة سياسية بين رئيس الوزراء يوسف الشاهد ورئيس البلاد الباجي قايد السبسي، لكنه أثار أيضاً استغراب البعض من إسناد الشاهد وزارة السياحة إلى رجل الأعمال اليهودي التونسي روني الطرابلسي.
وبالنظر إلى هجرة معظم اليهود العرب إلى إسرائيل منذ إعلانها دولةً في العام 1967، قد يظن كثيرون أن أعداد أتباع الديانة السماوية في الدول العربية تراجع إلى حد العدم. إلا أن هذا الانطباع ليس دقيقاً، على الأقل في تونس!
ففي تونس أقلية يهودية ما زالت تعيش بسلام حتى الآن، فماذا تعرف عنها؟ وإلى متى يعود التواجد اليهودي في تونس؟
وجود قديم يمتد إلى ما قبل عصر الرومان
اختلف المؤرخون حول بداية تواجد اليهود في أرض تونس؛ فبينما يُرجع البعض وجودهم إلى القرن السادس قبل الميلاد عقب خراب هيكل سليمان الأول في بيت المقدس على يد البابليين، يُرجع آخرون تواجدهم إلى ثلاثة قرون قبل الميلادفقط.
وفي العموم، لا يوجد خلاف في أن اليهود كان لهم وجود في تونس منذ عصر الدولة القرطاجية (814 – 146 ق. م)، وتزايدت أعدادهم بشكل كبير خلال الحقبة الرومانية، بعدما نفى الإمبراطور تيتوس، في القرن الأول الميلادي، نحو 30 ألف يهودي من بيت المقدس إلى تونس بسبب تمردهم.
يستدل المؤرخون على ذلك بذكر العديد من الحاخامات القرطاجيين (نسبة إلى مدينة قرطاج التونسية) في التلمود، وفي أعمال المؤرخ اليهودي يوسفوس فلافيوس الذي عاش في القرن الأول الميلادي. كما عُثر على مقبرة يهودية في مدينة حمام الأنف تعود إلى القرن الثالث الميلادي.
عمل يهود تونس في الزراعة وتربية الماشية والتجارة، وكانوا مقسمين في عشائر وقبائل ويدفعون ضرائب ثابتة للدولة الرومانية.
ورغم التزامهم بقوانين الدولة، عانى اليهود من الاضطهاد الديني في بعض الحقب؛ خاصة خلال عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول (527 – 565 م)، الذي اعتبرهم مثل الوثنيين، فحظر عليهم ممارسة شعائرهم الدينية، وصادر كنائسهم.
في القرن السابع الميلادي، زادت أعدادهم كثيرًا بعدما نزح كثيرٌ من يهود إسبانيا فرارًا من اضطهاد ملك القوط الغربي سيسيبوت وخلفائه.
يهود تونس في العهد الإسلامي
دخل المسلمون أرض تونس في أواخر القرن السابع الميلادي، واعتبر اليهود أهل ذمة فخضعوا لـ «العهدة العمرية» التي أصدرها القائد الإسلامي الخليفة عمر بن الخطاب، والتي ضمنت لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية مقابل دفع الجزية.
عاش يهود تونس حياةً مستقرةً في مطلع العهد الإسلامي، وانضم إليهم آخرين من مختلف أنحاء الدولة، فازدهر مجتمعهم في مدينة القيروان. عملوا في التجارة والحرف ولعبوا دورًا هامًا في الاقتصاد، خاصة في العلاقات التجارية بين إفريقية وإسبانيا وصقلية ومصر والهند.
شاركوا في الحياة الثقافية والعلمية، فبرز منهم أسماء عدة مثل الطبيبين إسحاق بن سليمان وإسحاق بن عمران، الذين أسسا المدرسة الطبية القيروانية، والأديب نسيم بن يعقوب، الذي تعتبر أعماله أول كتابات نثرية في الأدب اليهودي في القرون الوسطى.
تقول المصادر اليهودية، إن دولة الموحدين (1121- 1269) فرضت على اليهود بعض القوانين الجديدة، مثل ارتداء علامة وملابس خاصة تميزهم عن المسلمين، إلى جانب حظر إقامة مهرجاناتهم الدينية.
تحسنت أحوالهم بشكل كبير خلال عهد الدولة الحفصية (1229-1574)، ونمت مجتماعتهم وازدهرت في مختلف المدن التونسية كالمهدية والقلعة والقيروان وجزيرة جربة ومدينة تونس، وشاركوا بقوة في الحياة الاقتصادية، فكان لهم دور هام في التجارة، واستعانت بهم الحكومة لتنظيم أمور الضرائب.
استمرت أوضاع يهود تونس في التحسن خلال العهد العثماني (1574 – 1881) فتمتعوا بالأمن، وضمنوا حرية ممارسة دينهم، وحرية إدارة شؤونهم الخاصة.
منذ مطلع القرن الـ 18 بات يهود تونس يتمتعون بنفوذ عظيم وأضحت تجارة البلاد وأمورها الإدارية بإيديهم، على خلفية ضعف الدولة العثمانية وتزايد أدوار الوكلاء السياسيين للقوى الأوروبية الكبرى.
كيف غيّرت الحماية الفرنسية المجتمع التونسي؟
كانت أوضاع يهود تونس أواخر العصر العثماني ممتازة، وتمتعوا بعلاقات جيدة للغاية مع الباي محمد الصادق – آخر الحاكمين باسم السلطنة العثمانية -، وحصلوا على المساواة مع باقي المسلمين بعدما صدر دستور العام 1861، لكنه سرعان ما ألغي بسبب الثورة.
لم يمانعوا من الترحيب بفرض الحماية الفرنسية على البلاد في العام 1881، الأمر الذي برروه بالأحداث الطائفية التي وقعت في تلك الفترة.
على عكس ما توقع اليهود، لم تتغير الأحوال السياسية كثيرًا في بداية الحماية الفرنسية وظلوا مواطنين موالين لباي تونس، وعلى عكس اليهود الجزائريين، لم يتم منحهم الجنسية الفرنسية. لكن تدريجيًا بدأت الأمور تتغير، فأصبح لليهود حق التمثيل في المكاتب الاقتصادية واللجان المختلفة.
على المستوى الاقتصادي، نمت أعمالهم التجارية وتضخمت ثرواتهم بشكل كبير، خاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ونتج عن هذا تغيرات ثقافية واجتماعية عميقة، إذ بدأ المزيد من الشباب اليهودي في الالتحاق بمدارس الدولة التي كانت مفتوحة أمامهم في المراكز الرئيسية في جميع أنحاء البلاد، وأدى دمج الشباب في نظام التعليم العام إلى انتشار تدريجي للقيم الثقافية الجديدة في المجتمع اليهودي في مجالات اللغة واللباس والسكن وأسلوب الحياة، كما غادرت العائلات اليهودية المقتدرة الأحياء اليهودية وانتقلت إلى المناطق «الأوروبية» الجديدة.
160 من يهود تونس أُرسلوا إلى المحارق النازية
استمر الحال على هذا الوضع من الازدهار، حتى غزت القوات الألمانية تونس في نوفمبر/تشرين الثاني 1942. فرض النازيون سياسات معادية لليهود على غرار ما حدث في أوروبا، وتم إجبارهم على ارتداء شارات نجمة داود وفرض غرامات عليهم ومصادرة ممتلكاتهم.
تم إرسال ما بين 3 إلى 5 آلاف يهودي إلى معسكرات العمل القسري، مات منهم 46 شخص، كما تم إرسال 160 يهودًا تونسيًا إلى معسكرات الموت الأوروبية.
حررت تونس من الاحتلال النازي في مايو/آيار 1943، وتم منح اليهود التونسيين حقوقهم كاملة مرة أخرى.
يهود تونس أثناء الصراع العربي الإسرائيلي
بدأت الحركة الصهيونية تظهر في تونس في السنوات الأولى من القرن العشرين. ففي العام 1911، كان ليهود تونس ممثل في المؤتمر الصهيوني العاشر في بازل.
وخلال الحرب العالمية الأولى، نشطت العديد من المنظمات الصهيونية في جميع المدن الكبرى، مثل يوشيفيت صهيون، وتيراهيم صهيون، وبني صهيون.
بعد وعد بلفور في العام 1917 م، تزايد نشاط الجمعيات الصهوينة وأخذت تجمع التبرعات من أجل انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
بدأ عدد من شباب اليهود المتحمسين للصهيونية، والفقراء الطامحين إلى حياة أفضل، في مغادرة تونس سرًا إلى فلسطين منذ العام 1945 م، ومع إعلان الدولة الإسرائيلية عام 1948 تزايدت أعداد هؤلاء المهاجرين.
حصلت تونس على استقلالها في العام 1956، وفي نفس الفترة بدأ يتنامى العداء القومي العربي تجاه اليهود، ما أدى إلى هجرة كثيرين إما إلى إسرائيل أو أوروبا، خاصة في أعقاب حرب يونيو/حزيران 1967.
تقلصت أعداد يهود تونس من 105 ألف يهودي في 1948 إلى 20 ألف إبان العام 1967.
هل اضطهد الحبيب بورقيبة اليهود في تونس؟
ورغم ما يدعيه بعض الكتاب من أن يهود تونس تعرضوا لحملات قمع واضطهاد خلال عصر الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، إلا أن رئيس الطائفة اليهودية في تونس، بيريز الطرابلسي شكك في هذه الادعاءات.
الطرابلسي أكد أن بورقيبة، «وضع جميع التونسيين على قدم المساواة، وألغى بعض نصوص الشريعة الموجودة في الدستور مثل تلك المتعلقة بتعدد الزوجات والميراث»، وأن جزء من سبب هجرة رجال الأعمال اليهود التونسيين إلى أوروبا كان بسبب السياسات الاشتراكية وليس الاضطهاد.
وحول تعرض اليهود لهجوم ممنهج عقب «حرب الأيام الستة»، قال الطرابلسي «المشاعر المعادية لليهود كانت عالية خلال حرب الأيام الستة. بعض اليهود تعرضوا لهجمات من الغوغاء. كانت ممارسات فردية حقًا، وليس منهجية».
أخذت أعداد يهود تونس يتقلص عاماً بعد آخر، خاصة بعد وقوع عديد من الهجمات عليهم؛ مثل ما حدث في العام 1985 عندما أطلق شرطي تونسي النار في كنيس الغريبة بجزيرة جربة وقتل 5 مصلين، وما حدث في العام 2002، عندمافجر متشدد صهريج لنقل الغاز في ذات الكنيس، ما أسفر عن مقتل 19 شخص.
يعيش حاليًا في تونس نحو 2000 يهودي، ويتمركزون بشكل أساسي في جزيرة جربة ومدينة حلق الوادي وحي لافيات بالعاصمة تونس.
يهود تونس: لكم السياسة، ولنا الاقتصاد!
يعيش يهود تونس حاليًا بانسجام بعيدًا عن العزلة، ما يعتبر قصة تعايش نادرة في العالم العربي.
وهم بشكل عام ينأون عن العمل السياسي، إذ سبق ورفضوا على لسان كبير الحاخامات حاييم بيتان تخصيص مقاعد للطائفة اليهودية في البرلمان، بدعوى أن عددهم لا يسمح منطقيًا بكسب مقعد في البرلمان، و خوفًا من مخاطر التقسيم الطائفي.
وللمفارقة يؤيد بيتان حزب «النهضة» التونسي الإسلامي لأنه حزب ديني، بل وسبق أن رشّح «النهضة» يهودياً على قائمته في الانتخابات البلدية التي جرت في مايو/ آيار 2018.
يفضل يهود تونس الانشغال بالتجارة، فرغم عددهم الضيئل إلا أنهم يتميزون بنشاط اقتصادي لافت إذ ينشط عدد منهم في قطاع السياحة ووكالات الأسفار والمطاعم وصناعة الحلي.