منذ عدة سنوات وخلال التوقيع على اتفاقيات الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل اشترطت الأخيرة ضمان توفير المياه لها، وبالفعل تم تداول عدة مشاريع تضمن للكيان الصهيوني الحصول على المياه، ويكون مصدرها أنهار دجلة والفرات واليرموك وبانياس، والليطاني والحاصباني والوزاني والنيل والأردن، إضافة للمياه المحلاة من مياه البحار المشاطئة، وذلك بتمويل أوروبي وأميركي، لأن موضوع المياه يشكل حيزاً رئيسياً في التفكير الاستراتيجي الصهيوني، من أجل الحصول أو السيطرة على المياه ومصادرها بشتى الطرق والوسائل.
قنبلة موقوتة قادمة اسمها العطش، نذر حرب عالمية ثالثة على الأبواب، نزاعات وصراعات على أهم مورد طبيعي ومصدر كل شيء حي، بحلول العام 2030 سوف يتعرض الوطن العربي على وجه الخصوص إلى أكبر أزمة مياه حادة وأكبر مأزق تاريخي، ستنعكس سلبا على الإمدادات الغذائية وتؤثر بشكل حاد على إنتاجه الصناعي، ستتعرض أكثر من80 دولة وأكثر من بليوني شخص حول العالم إلى نقص حاد في المياه العذبة، بسبب ندرتها أو تلوثها، جراء النزاعات أو بفعل غباء الإنسان نفسه في الحفاظ على هذا المورد الثمين، سيضطر الملايين إلى الهجرة من مكان إلى آخر بسبب التصحر، ليضاف عامل المياه إلى العوامل المسببة لعدم استقرار معظم دول العالم.
بعض الباحثين يعيد أطماع الصهيونية في المياه العربية إلى العهد التوراتي القديم ويرى جذور هذه الأطماع موجودة في تعاليم التوراة والتلمود، وورد في التوراة حوالي أكثر من مائتي نص يتعلق بالمياه والأنهار والبحيرات وتتضمن هذه النصوص في معظمها أفكاراً عدائية بهذا الخصوص، وثمة من يذهب إلى أن اليهود وضعوا ومنذ القدم نصب أعينهم هدف السيطرة على أرض ومياه بلاد الشام، وأن ضرورة الوصول إلى النيل والفرات والسيطرة عليهما هو من ناحيتهم واجب ديني، وثمة من يستنبط هذه الأطماع من خلال العلم الصهيوني والعملة الإسرائيلية المعروفة بالشيكل والتي رسم عليهما خارطة ما يسمى إسرائيل الكبرى ووضع فيهما خطين أزرقين يشار إلى أنهما نهري النيل والفرات، وتحدث في هذا الإطار أيضاً ”مناحيم بيغن” عندما كان رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني المعادي عن فكرة (إسرائيل الكبرى) بقوله: (إن التوراة تتنبأ بأن دولة إسرائيل ستشمل في النهاية أجزاء من العراق، سورية، تركيا، السعودية، مصر، السودان، الأردن، الكويت)، وبذلك يكشف كغيره من قادة الصهاينة لنا بوضوح عن وجود أطماع ليس في مياه المنطقة فقط، وإنما في هوائها وترابها.
أما المشاريع المائية الحيوية فقد بدأت منذ أكثر من قرنين تقريباً، بدأها الرحالة في المشرق العربي وفي إفريقيا، الذين تتبعوا مصادر المياه في دجلة والفرات والنيل، ومن المشاريع المائية المهمة التي رسمها ”ثيودور هرتزل” معتمداً على الدراسات والبحوث التي أمضى العديد من الباحثين والمهندسين العقود الطويلة خلال القرن التاسع عشر في البحث والاستقصاء، هو مشروع ما يسمى بقناة البحرين التي تربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الميت والتي قال عنها (دان دارين) وهو مهندس معماري في معهد المركز الدولي لدراسات سياسة الأراضي في إسرائيل: إن هذه القناة (قناة البحرين) كانت حلما مستحيلا، رآه ”ثيودور هرتزل” عام (1902) وكانت هذه القناة التي وصفها ”هرتزل” في كتابه (التنويلاند) (الأراضي القديمة الجديدة) الذي تنبأ فيه بولادة دولة جديدة، تستهدف توليد الطاقة الهيدروكهربائية وإقامة بحيرات الاستجمام، والمساهمة في استصلاح النقب وجعل إسرائيل (بلدا) ذا استقلالية في إنتاج الطاقة. وتؤكد صحيفة (عل همشمار) الصهيونية في مقال كتبه (ف.سيفر) أن قناة البحرين هي جزء من رسالة ”ثيودور هرتزل” التي قرأ فيها المستقبل، وبالتالي فهي جزء من المشروع الصهيوني الكبير، وأمامنا مزيج من الأساطير التي تبعث الدفء في أكثر القلوب برودة، ويوقد النار في أكثر العقول نبوغاً.
يجد الباحث والمتتبع أن الخيط لم ينقطع بين طروحات وأفكار ”هرتزل” ومن جاء بعده، وأن الاستراتيجية المائية، أو مسألة التعامل مع قضية المياه، لم تكن سطحية أو قضية مكملة للأفكار الصهيونية، بل إنها تدخل في جوهر المخططات الصهيونية ونشاطاتهم، فعلى سبيل المثال، أن ”هرتزل” قد حدد عام 1923 موعدا لتنفيذ هذا المشروع، وأن عدم تحقيق ذلك لم يوقف التفكير الصهيوني به، ففي 13 يونيو عام 1990 قاد (يوفال نيئمان) وزير العلوم والطاقة في كيان الاحتلال حملة لتنفيذ مشروع القناة التي تربط بين البحر المتوسط والبحر الميت. وكانت لجنة ”نيئمان” قد رفعت تقريرا إلى حكومة إسرائيل في يوليو عام 1980 أوصت فيه باعتماد الخط الجنوبي، أي حفر قناة ونفق من موقع تل القطيفة في قطاع غزة إلى معاليه يائير في جوار قلعة مسعدة، وقد تم اختيار هذا الخط لأنه (يثير مشكلات سياسية أقل من الخط الشمالي) على حد قول ”نيئمان” نفسه.
وجاء في تقرير ”نيئمان” أن القناة ستعزز إمكانات إقامة محطة قوى نووية في إسرائيل، كما تحدث عن إمكان بناء مصنع لتحلية مياه البحر في النقب، وتطوير برك شمسية لإنتاج المزيد من الطاقة.
وظل الحافز المعلن للبحث عن قضية المياه، هو موضوع تأمين الحاجات الأساسية من المياه للزراعة في فلسطين، التي تحركت الصهيونية وعلى كل الجبهات في سبيل جذب اليهود من مختلف أرجاء العالم للهجرة إليها. وقبل حصول اليهود على وعد بلفور، يمكن ملاحظة اهتمامهم المتزايد بمسألة المياه، ففي مؤتمر بال الذي عقد عام 1917، قدمت خريطة الوطن القومي اليهودي وكانت تضم كافة مصادر المياه العربية.
وبعودة سريعة إلى الأطماع الصهيونية، نرى أن إسرائيل تستفيد من طاقة مائية كبيرة من مياه الجولان المحتل، والذي تعادل مساحته 1 في المائة من مساحة سورية الإجمالي، ويتمتع بمردود مائي يعادل 3 في المائة من المياه التي تسقط فوق سورية، و 14 في المائة من المخزون المائي العام، إضافة لمحاولاتها القديمة والمستمرة في السيطرة على المياه اللبنانية، حيث تتعمد إسرائيل تعطيل أي مشروع لبناني يرمي إلى الاستفادة من المياه أو من خلال الاستيلاء عليها بشكل متقطع وكلما سنحت لها الفرصة بذلك، ليصل مجموع ما تسرقه سنويا نحو 145 مليون متر مكعب.
أما فيما يخص الأردن فإن تطبيع العلاقات لم يسهم في حماية وتأمين حصة الأردن من المياه حسب بنود الاتفاقية الموقعة، وذهب الأمر بالكيان الصهيوني إلى حد حفر آبار جديدة في الأراضي الأردنية داخل وادي عربة، للحصول على 10 ملايين م3 من المياه لغايات زراعية، وزد على ذلك استغلال علاقاته مع الدول المجاورة للدول العربية والتي يتطفل على مصادر مياهها، والدخول على الخطوط الساخنة أحياناً ظناً أنه يستطيع استمالتها لمصلحته.
وبالنسبة لمياه النيل تعود أول الأطماع الصهيونية إلى مطلع القرن الماضي وبالتحديد إلى عام 1902، ففي سعي حثيث لـ ”تيودور هرتزل” مؤسس الحركة الصهيونية ومن أجل الوصول إلى فلسطين اقترح في ذلك العام على الحكومة البريطانية، كخطوة أولية نحو فلسطين، فكرة توطين اليهود في سيناء، وأرفق اقتراحه بفكرة الاستفادة من مياه النيل، وتم إرسال بعثة استكشافية صهيونية إلى مصر لدراسة الفكرة على أرض الواقع، ولتوفير المياه اللازمة لهذا المشروع، ورد اقتراح تحويل مياه النيل إلى سيناء من ترعة الإسماعيلية عبر أنابيب تمر من تحت قناة السويس لتصل إلى الأجزاء الشمالية الغربية من المنطقة المختارة للاستيطان، وقدر حينها أن معدل المياه المطلوبة من النيل تبلغ نحو أربعة ملايين متر مكعب يومياً، ولإقناع المعتمد البريطاني في مصر اللورد ”كرومر” بهذه الفكرة قلل الصهاينة من كمية المياه التي يرغبون في سحبها من مياه النيل، وقال ”هرتزل” مخاطباً كرومر في 25 آذار 1902: إننا بحاجة إلى مياه الشتاء الزائدة التي تجري عائدة إلى البحر ولا يستفاد منها، ووافقت الحكومة البريطانية آنذاك على هذه الفكرة، ثم رفضتها لأسباب تخصها، وحفظ المشروع في الأدراج الصهيونية غير أنه لم يمت، وعادت هذه الفكرة إلى الظهور في أواخر السبعينيات وتحديداً في الشهر التاسع من عام 1978 على شكل مشروع قدمه المهندس الصهيوني ”اليشع كالي” على صفحات جريدة معاريف العبرية في مقال بعنوان (مياه السلام) وعرض فيه مشروعاً متكاملاً للتعاون في نقل مياه النيل واستغلالها في سيناء وغزة والنقب.
واليوم، ووسط صمت عربي، وبعيداً عن الأضواء وقعت إسرائيل في الخامس والعشرين من تموز الماضي اتفاقية دولية مع جنوب السودان للتعاون في مجال المياه، الأمر الذي سيمكنها من التواجد رسمياً في إحدى دول حوض النيل، ما يشكل خطراً على مستقبل الأمن المائي لمصر والسودان.
واستناداً إلى صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، فإن الاتفاقية تقضي بتأسيس شراكة للتعاون في البنية التحتية للمياه وتطوير التكنولوجيا بين إسرائيل وجنوب السودان، وتحدد الخطوط العريضة للتعاون بين البلدين في تحلية المياه والري ونقل وتنمية المياه.
يقول العميد ”حسين حمدو مصطفى”، مؤلف موسوعة (إسرائيل في أفريقيا): ”إن خطورة هذه الاتفاقية على مصر مائياً تكمن في تنفيذ مشاريع مخططات قديمة لعقود تحلية المياه، وإقامة بنية تحتية لمشروعات الري والصرف، وإقامة السدود أو ما شابه ذلك على النيل، وهذا أمر في غاية الخطورة، ويشكل إعلان حرب على مصر من هذه الناحية”، مضيفاً: ”إن هذه الاتفاقية جاءت في الوقت الذي تضاءل فيه نفوذ مصر في القارة الأفريقية بشكل كبير، ومن المحتمل أن يحدث في المستقبل أن تتدخل إسرائيل وتصبح قوة ضاغطة على مصر في ملف المياه بفضل سيطرتها على النيل في إحدى الدول المطلة على النهر، ألا وهي دولة جنوب السودان الحديثة، وقد يمتد هذا الضغط لدفع مصر للموافقة على جر المياه إلى الكيان الصهيوني من خلال ”ترعة السلام”، ولا شيء مستغرباً في مثل هذه الأوضاع، فكل شيء وارد”.
وإذا كانت الاتفاقية المائية بين إسرائيل وجنوب السودان قد أعلنت بدء مرحلة شد الخناق المائي على مصر والسودان، فإن المسؤولين في البلدين مازالوا يقفون موقف المتفرج، ما عدا بعض الإعلاميين والمعلقين الذين يتناوبون على الشاشات محذرين من سرقة مياه النيل، لافتين إلى خطورة ما يجرى باعتباره خطراً يهدد الأمن القومي لكلا البلدين، ويجب التصدي له، متناسين أن هذه الاتفاقية لم تكن سوى تتويج لسياسات العقود الماضية التي تجاهلت الأطماع الإسرائيلية في مياه النيل وموارد القارة الأفريقية، والتي لا تعد جديدة، فإسرائيل كانت منذ سنوات طويلة تسعى إلى تعزيز علاقاتها بعدد كبير من البلدان الأفريقية، فالموارد الطبيعية الهائلة التي تختزنها بلدان القارة تشغل أعلى سلم الأولويات الإسرائيلية في القارة السمراء إلى جانب الملف الأمني.
أما بخصوص جنوب السودان، فلم تخف إسرائيل يوماً علاقتها بمسؤولي الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولا بقادة التمرد الجنوبيين الآخرين منذ اندلاع شرارته قبل عقود، والنظرة الأمنية لجنوب السودان سبق أن لخصها وزير الأمن الداخلي الصهيوني السابق ”آفي ديختر” في محاضرة ألقاها في عام 2008، بفكرتين رئيسيتين: الأولى مرتبطة بالسودان، والثانية بمصر.
إن الأطماع الصهيونية في مياه النيل قديمة، ولهذا نرى أن هذه الأطماع تتجدد باستمرار وتنتظر الفرصة المناسبة للوصول إلى منابع النيل لتوسيع الفجوة بين العرب والأفارقة، ويبدو أنها نجحت اليوم من خلال التوقيع على هذه الاتفاقية لتؤجج صراع المياه في حوض النيل، مستفيدة من نفوذها في منطقة القرن الأفريقي (أثيوبيا وكينيا في منطقة البحيرات العظمى)، لتأليب دول المنبع في حوض النيل ضد مصر والسودان، ما شكل تهديداً للأمن القومي العربي في محوره الأفريقي. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل إنها تسعى لتقسيم شمال السودان لعدة دويلات، وتكريس وجودها العسكري في المنطقة.
إن الحقيقة الخطيرة والمؤلمة هي أن الأمن المائي العربي يوشك أن يصبح خاضعاً لمشيئة قوى خارجية، وإذا أضفنا إلى الاعتبارات الجغرافية التي تجعل مصادر ومنابع المياه توجد ـ في معظمها ـ خارج الوطن العربي، فإن غياب استراتيجية عربية جدية لحماية هذه الثروة المائية القومية يزيد من حجم المشكلة، ويكرس إبعادها الرامية، فالنيل مصدر حياة الشعبين المصري والسوداني ـ تتحكم في مصيره سبع دول، هي تنزانيا، وبورندي، ورواندا، وزائير، وكينيا، وأوغندا، وإثيوبيا، وأي تعديل في حصص هذه الدول من إيرادته المائية تؤثر تأثيراً مباشراً على مصر والسودان وغير خاف أن أثيوبيا ـ من دون سائر ذلك الدول ـ هي الأكثر تهديداً للأمن المائي المصري والسوداني ـ وإذا صحت الأنباء التي تحدث عن مشاريع أثيوبية ـ إسرائيلية لإقامة سدود على النيل ـ فمعنى ذلك أن حياة المصريين ذاتها في خطر.
أما إسرائيل فتبقى المصدر الأكثر تهديداً على هذا الصعيد، لقد سرقت المياه العربية في فلسطين بعد استيطانها، ثم زادت في معدلات استغلالها للمياه العربية الجوفية في الضفة وغزة بعد الاحتلال إلى درجة التهديد بنضوبها، وتهدد الأردن ولبنان في مياهها (نهر الأردن، نهر الليطاني) وتحاول البحث عن صورة من صور استغلال مياه النيل ومدخلها إلى ذلك الضغط على مصر عبر أثيوبيا. وجاء التدفق الكثيف للمهاجرين من دول أوروبا الشرقية ليزيد من أطماع إسرائيل في المياه العربية، ولنا أن نتصور مستقبلاً تذهب فيه إسرائيل إلى سرقة المزيد من المياه العربية، إنه لن يكون إلا على حساب مصيرنا.
هكذا تبدو اللوحة غير مشجعة، بينما يغط كثير من العرب في النوم، متجاهلين ما يتهددهم. وعليه فالمنطقة العربية وفي ظل الأطماع الإسرائيلية التي باتت معروفة تعيش أزمة مائية وقلقاً حقيقياً على المستقبل، ولاسيما مع ازدياد عدد السكان ونضوب بعض المصادر، وإمكانية دخول بعض الموارد المائية الأخرى ضمن المصالح السياسية المتقلبة في المنطقة، ورغم انطلاق المفاوضات بين بعض الدول العربية وإسرائيل برعاية دولية، والتوصل إلى التطبيع، فإن مشكلة المياه مازالت هي الشغل الشاغل للحكام الصهاينة، وتؤكد مجمل التصريحات لهم أن موضوع المياه سيكون من أصعب الموضوعات على جميع مسارات التفاوض، بل يعد أحد الخطوط الحمراء في أي مفاوضات. فقد أدركت الصهيونية، ومنذ نشوئها أهمية وحيوية المياه لمشروعها الاستيطاني إذا أريد له النجاح مستندة إلى أمرين.
أولهما: طبيعة المشروع الصهيوني استيطانياً وزراعياً والذي يتطلب ربط اليهود بالأرض وذلك يتأتى من خلال الزراعة، ما يعني ضرورة توفير أو وضع اليد على مصادر المياه الحيوية الكافية لتلبية المشاريع والمستوطنات الزراعية، ولهذا كانت الأفواج الأولى من التسلل اليهودي إلى فلسطين تتجه وبناء على التوجيه الصهيوني نحو الأماكن التي تكثر فيها المياه، وتكون إما صالحة للزراعة أو قابلة للاستصلاح الزراعي.
وثانيهما: إن الهدف المعلن للمشروع الاستيطاني كان تجميع شتات يهود العالم في فلسطين، وقد جاء ذكر الفقرة الثانية من قرارات المؤتمر الصهيوني الأول فيما يتعلق بمساحة الدولة اليهودية المزعومة وحدودها الجغرافية المراد إنشاؤها، أن تكون كافية لاستيعاب خمسة عشر مليون مستوطن الأمر الذي يستدعي ضرورة توفير المياه اللازمة لتلبية الحاجات المختلفة، منها لهذا الكم من المتطفلين، علماً بأن موارد فلسطين الذاتية من الماء زهيدة نسبياً ولا تستطيع أن تسد الحاجة المائية لهذا العدد الضخم منهم.
يتصل التفكير في هذه الناحية بالنظر إلى نواحي الأمن المائي العربي لا بأمن الأنهار والآبار والاحتياطات الجوفية من الماء فحسب، وإنما بأمن المحيطات والبحار والمضايق، أي الحزام المائي الإقليمي العربي الممتد على شمال غرب وشرق الوطن العربي، وفي قلبه، فالبحار والمحيطات تكوّن جزءاً من الفضاء (الجيوستراتيجي) المتميز للوطن العربي، وتفصله عن، وتصله بـ (جنوب أوروبا)، وتفصلنا عن القارة الأمريكية، وعن العالم الآسيوي، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يشطر الجغرافيا العربية إلى قسمين من قارتين (البحر الأحمر): قسم إفريقي وقسم آسيوي، وإلى ذلك فالوطن العربي يتحكم أو يشارك التحكم ـ مع غيره ـ في السيطرة على الكثير من القوات والمضايق الاستراتيجية الهامة (مضيق هرمز، باب المندب، خليج العقبة، قناة السويس).
وهذا الوضع (الجيوستراتيجي) للوطن العربي يجعله مفتوحاً وعرضة للاختراق، فعلى مقربة من المياه الإقليمية للدول العربية تجثم الأساطيل الكبرى كي تؤدي وظيفة حماية الاستراتيجيات الكبرى، وتتحرك تجارة تصدير النفط على أوسع نطاق، لتتحرك معها البحرية الأمريكية في الخليج، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الغرب يراقب قناة السويس بمعية إسرائيل، وإن هذه تراقب الحركة في البحر الأحمر وفي خليج العقبة، عبر ميناء إيلات المحتل، وإن إيران تراقب مضيق هرمز بل تسيطر عليه، لاتضح جلياً أن هذه الميزة الاستراتيجية، لا تشكل في ظل غياب استراتيجية أمنية عربية بحرية، امتيازاً للعرب، بل إنها تكاد تنقلب عبئاً على أمنه، وليس أدل على ذلك من إقدام فرق الموساد على تنفيذ اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في العاصمة التونسية بعملية لم تواجه عائقاً، في ظل غياب خطير حتى للحراسة البحرية العادية (دوريات الشاطئ) للدول العربية في بحر كبير الأهمية، كالبحر المتوسط…
وواقع الأمن المائي ـ بهذا المعنى العسكري ـ يعكس عجز الدول العربية على بناء استراتيجية عسكرية لحماية أمنها المائي من الأخطار التي تحدق به من جراء تواجد الأساطيل الدولية الضخمة وبسبب ما قد تحمله الحركة التجارية، لاسيما ما تعلق بتدفق النفط، عبر البحار والمحيطات من احتمالات تعرضها للخطر.
فليس ثمة شك في وجود علاقة عضوية وطيدة بين الأمن المائي والاستقلال الكامل، الاقتصادي والسياسي، فتحقيق الأول يسهم في ضمان تحقيق الثاني، كما أن فقدان الأول يؤثر موضوعياً في الثاني. إن دولة لا تستطيع تأمين ثروتها المائية من مخاطر التبذير وسوء التصرف اللاعقلاني في الداخل، ومن مخاطر السيطرة الخارجية على بحار ومحيطات يفترض أن تكون نقطة قوة لها هي دولة عاجزة عن ضمان أمنها الاقتصادي والغذائي. إن دولة لا تستطيع بناء سياسة بحرية دفاعية تؤمن حقوقها المائية، وترفع من درجة استعدادها الأمني لدرء الأخطار العسكرية البحرية هي دولة تعجز ـ تماماً ـ عن ضمان استقلالها السياسي، وحين تفقد الدولة قدرتها على تأمين الغذاء لشعبها ـ وحين يصبح مستعصياً عليها ـ بالتدريج ـ أن تستوعب الحاجات الاقتصادية المتزايدة بسبب فقدانها للحد الأدنى من السيطرة على ثرواتها فإن وجهتها عادة ما تكون هي الالتجاء للخارج للاستدانة مع ما يتبع ذلك من قبول منها ـ اضطراري ـ للتبعية والتخلي عن جزء من سيادتها، ويضعها، موضوعياً، تحت رحمة القوى الدائنة، وقد شهدنا كيف كانت الحياة السياسية لكثير من دول العالم الثالث تدار من حكومات الظل المرتبطة مباشرة بصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، بصورة تحولت معها البرامج والمخططات الحكومية إلى تنفيذ لتوصيات هذه المؤسسات المالية المدارة من عواصم الغرب الكبرى.
ومن هذا المنطلق يجب التنبه للأخطار الصهيونية المحدقة والمتزايدة، التي تدعونا للسؤال من أين يشرب 450 مليون عربي في الأعوام القليلة القادمة إذا استطاعت إسرائيل تنفيذ مخططاتها ولم تجد من يردعها عن غيها وغطرستها تلك؟! كما تدعونا لاتخاذ موقف عربي موحد وتوقيع اتفاقيات تضمن الأمن المائي العربي حتى نستمر بالحياة، فخطر شح المياه أشبه بالأسلحة الفتاكة التي تسعى إسرائيل لاقتنائها وتهديدنا بها. ولابد من التحذير أن الوطن العربي مقبل على كارثة مائية بحلول عام 2020 في ظل المؤامرات الدائرة على منابع المياه وغياب استراتيجية عربية للحل.
لقد أظهرت العقود الأخيرة أن الأمن المائي أصبح مكوناً رئيسياً في منظومة الأمن القومي المتكاملة، فمتى يكون للعرب، دولاً وتجمعاً، استراتيجيتهم الواضحة للحفاظ على أمنهم المائي، وأمنهم القومي برمته؟!.