“مشكلة الحقيقة أنها ليست مريحة وغير جذابة، فالعقل الإنسانى يبحث عن شئ أكثر تسلية وإشاعة للطمأنينة”
هنرى لويس منكن
مقدمة
إن الاهتمام الفلسفى والمعرفى بالحقيقة متجذر فى العلوم الإنسانية. فبالرغم من حداثة مفهوم ما بعد الحقيقة، فالأسئلة حول ماهية الحقيقة أو كيفية الوصول إليها، والمحددات النفسية والاجتماعية التى تدخل فى “إنتاج الحقيقة”، هى أسئلة قديمة. يقتصر هذا المقال على مفهوم ما بعد الحقيقة فى سياقه الحديث، حيث ظهر بقوة على خارطة الاهتمامات البحثية والصحفية، خاصة فى العامين الماضيين. وبالبحث على محرك جوجل باستخدام كلمة ما بعد الحقيقة، نجد نحو 645 مليون نتيجة، رغم حداثة المفهوم. والكثير من هذه النتائج هى مقالات، وكتب، ودراسات، ودوريات أكاديمية تحمل عناوين، مثل: سياسات ما بعد الحقيقة، وفن إنتاج الكذب، والحرب الجديدة على الحقيقة، وكيف نقاومها، الكذب المسلح،و ظاهرة ما بعد الحقيقة فى أمريكا، وكيف وصلنا إلى ذروة الهراء؟ وترامب وعالم ما بعد الحقيقة، وإنقاذ الحقيقة: البحث عن المعنى والوضوح فى عالم ما بعد الحقيقة، وغيرها. وتشير هذه العناوين وغيرها الكثير، إلى حالة من الجزع السائد من تغييب الحقيقة، وتسيُّد نوع من الخطاب المشحون عاطفيا، والحقائق البديلة أو الموازية.
وقد ارتبط صعود مفهوم ما بعد الحقيقة، فى الدوائر الصحفية والأكاديمية الغربية، بحدثين أساسيين هما فوز الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وتصويت البريطانيين بالموافقة على الخروج من الاتحاد الأوروبىBrexit، وهما الحدثان اللذان ساد الانطباع بأنه شابهما توظيف كثيف للخطاب المشحون عاطفيا، والمجافى للواقع وللحقائق الموضوعية. ومن ثم لم يكن على سبيل المصادفة اختيار قاموس أوكسفورد الإنجليزى لمصطلح ما بعد الحقيقة، باعتباره كلمة العام فى عام 2016، وصدور العديد من الكتب لمناقشة الظاهرة.
تستهل معظم الكتابات عن “ما بعد الحقيقة” بمجموعة من الظواهر التى تضم، إلى جانب فوز الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى، كما سبقت الإشارة، قضايا، مثل صعود الاتجاهات السياسية الشعبوية، وتبنى خطاب معاد للمهاجرين، بالإضافة إلى التشكيك فى ظواهر علمية، منها تلك الخاصة بتغير المناخ، وغيرها من القضايا والموضوعات التى ينبنى الحكم فيها على المشاعر، خاصة مشاعر الخوف والغضب، وتخلق عالما من الحقائق البديلة AlternativeTruths، وما يستدعيه ذلك من مخاطر على الديمقراطية.
النقطة الجديرة بالملاحظة هنا هى أن تلك الحقائق البديلة أو المبالغات فى الأغلب لا تختلق واقعا من العدم، وإنما تقوم بتضخيم وقائع بعينها تحمل ظلا من الحقيقة. نفس الأمر ينطبق على الشائعات، فهى وإن كانت تنطوى على التوظيف الممنهج للأكاذيب، إلا أن انتشارها بحد ذاته يحمل دلالة على أنها تؤدى وظيفة نفسية، أو تحمل نوعا من الأصداء التى يرغب المتلقى فى تصديقها.
لا يسعى هذا المقال إلى الاستغراق فى مظاهر وسياسات ما بعد الحقيقة، سواء فى المجتمعات الغربية أو فى تجلياتها فى مجتمعاتنا، رغم أن الظاهرة تستحق الالتفات، وإنما يحاول إلقاء الضوء على اتجاه أكاديمى أسبق، بزغ فى السنوات الأخيرة، ويحلل العوامل النفسية التى تفسر الظاهرة، حيث تتناول الانحيازات النفسية التى تجعل البشر عرضة للخداع، وأكثر قابلية لتصديق أشباه وأنصاف الحقائق، بل وتفضيلها فى بعض الأحيان على الحقائق المركبة، أو المقلقة. فقد فتحت الإسهامات الحديثة لعلماء نفس، مثل دانيال كانمان، وعاموز تفرسكى، والخاصة بخرائط الرشادة المنقوصة mapsofboundedrationality، الباب واسعا أمام المزيد من الإسهامات التى تتناول الانحيازات الإدراكية وتأثيرها فى تفضيل قراءة معينة للواقع، وقبول روايات تفسيرية دون غيرها، والاطمئنان إلى بعض التفسيرات رغم قصورها الواقعى. وبالرغم من أن هذه الاتجاهات البحثية شديدة الدلالة فى دراسة ظاهرة ما بعد الحقيقة، فإن توظيفها الأغلب حتى الآن يتم فى مجال الاقتصادات السلوكية، وكيف تؤثر العوامل النفسية فى القرارات الاقتصادية، وذلك على الأرجح مبعثه أن الفاعلين الاقتصاديين أكثر استعدادا للاستثمار فى فهم العوامل النفسية الدافعة لسلوك الإنسان الاقتصادى. يهتم أيضا بهذا الاتجاه الصاعد ويوظفه بعض الكتابات المعنية بعملية التفكير المجرد ذاتها، خاصة التفكير العلمى والضغوط أو الانحسار الذى يتعرض له فى عصر ما بعد الحقيقة.
ومن ثم فموضوع هذا المقال هو ما تخبرنا به الدراسات النفسية والسلوكية الحديثة عن قابليتنا للخداع، وكيف نميل لخلق الأوهام وتصديقها، وذلك من خلال بعض الانحيازات أو المؤثرات الإدراكية.
العقل المستريح يرسم ابتسامة على الوجه
إن الانحياز الجوهرى الذى يفسر حالة ما بعد الحقيقة هو ما عبر عنه دانيال كانمان بالتفرقة بين التفكير الحدسى السريع، والتفكير المركب أو البطئ، وميل الإنسان إلى الارتياح للنوع الأول من التفكير، واستخدامه تلقائيا، وفى معظم الأوقات، بل وارتباط استخدام هذا النوع من التفكير التبسيطى بالرضا النفسى. إن هذا الميل إلى تشكيل الانطباعات، والحكم السريع والحدسى على الأمور ليس جديدا، وليس سيئا تماما، بل على العكس، فإنه يمكِّن الإنسان من تجنب المخاطر والحكم السريع فى أوقات الخطر. ولكنه فى الوقت ذاته تفكير اختزالى ، يكره التعقيد والتناقض، وبذل الجهد لفهم الموضوعات والمفاهيم المركبة، مما يجعلنا دوما صيدا سهلا للقصص الدرامية التى تحاك ببراعة. ويفصل كانمان بقوله إن سيادة هذا النوع من التفكير البسيط، السريع والحدسى، يتأسس على انحيازات نفسية، منها ما يطلق عليه انحياز تفضيل الثقة على الشك، حيث يميل الإنسان من خلال صيغة التفكير الحدسى «المريح» الذى لا يستلزم جهدا عصبيا إلى قمع الغموض، وبناء قصص وتفسيرات للواقع متماسكة قدر الإمكان. يرتبط بذلك ميل الإنسان إلى قراءة الأنماط، والبحث عن النظام فيما حوله. فالطبيعة البشرية لا تقبل بفكرة المصادفة، أو الوقائع العشوائية، وتميل إلى البحث عن خط ناظم، أو قالب يفسر كل الأحداث. فهى تسعى فيما حولها لإيجاد النمط الذى تفهمه وتستطيع ترتيب وفهم الأحداث وفقا له. قد يفسر هذا صمود أفكار تقوم على نظريات المؤامرة أو غيرها، مما لا يسطع دليلا منطقيا على وجوده، ونجاحها فى تخطى حواجز التاريخ، والجغرافيا، والطبقات الاجتماعية، والمستويات التعليمية المختلفة.
وقد انتبه الفيلسوف فرانسيس بيكون إلى هذه الطبيعة البشرية فجعلها أساسا للوهم الأول الذى يسيطر على البشرية، وهو الميل إلى افتراض وجود نظام وأنماط مطردة فى العالم، أكثر مما هو موجود فعليا. وللتغلب على حالة عدم اليقين المرتبطة بغموض، أو غياب، أو تناقض المعلومات، يميل البشر لتفسير ما يرون، وفقا للمخزون المعرفى، والخبرات والمعتقدات السابقة، أو قياسا على ما يألفونه، من خلال إنتاج نمط أو تفسير يحظى بالتناغم الداخلى من ناحية، والتوافق مع المعتقدات المسبقة من ناحية أخرى.
البحث عن قصة جيدة
يتفق الكثير من علماء النفس على أن القصة الجيدة تحظى بفرص قبول وانتشار أفضل من القصة الواقعية. ومن السمات الأساسية للقصص الجيدة والقابلة للتصديق أن تكون بسيطة، وشيقة، وأن تمد المتلقى بالمعلومات دون أن تثقل عليه بالتفاصيل. وتعد البساطة عنصرا جوهريا فى تقبلنا للقصة، بحيث يجعل بعض علماء النفس من “تقليل الجهد الإدراكى” عنصرا أساسيا لخلق رسالة مقنعة. لقد قدَّم نسيم طالب فى كتابه البجعة السوداء فكرة المغالطات السردية، وهى تلك الطريقة التى تؤثر من خلالها القراءة الخاطئة لقصص وأحداث الماضى فى رؤيتنا للعالم، حاضره ومستقبله. ويشير طالب إلى أن القصة التفسيرية أو السردية الناجحة عادة ما تكون بسيطة، ومادية أو ملموسة لا تبالغ فى التجريد والتنظير، كما أنها تحتوى على عدد بسيط من الأحداث المدهشة. هذه القصص تقدم تفسيرات بسيطة ومتماسكة لأفعال ونوايا الناس، وتسد فراغ نقص أو تناقض المعلومات وعدم اليقين.
فى السياق نفسه، يشير هانز روزلينج فى كتابه الوقائعية Factfulnessإلى عدد من الانحيازات النفسية والإدراكية التى تكمن وراء سوء إدراكنا للعالم، وتفضيلنا لتفسيره، من خلال القصص المثيرة والتبسيطية. وتشكل هذه الانحيازات وقودا للتفكير البسيط والحدسى، منها: غريزة الفجوة، أو الميل لإدراك العالم كصراع بين الخير والشر، والنظر إلى مختلف القضايا ،من خلال الانقسام بين معسكرين أو مجموعتين أو موقفين متعارضين مع تجاهل المساحات المشتركة، والحلول الوسط.
وفقا لروزلينج، هناك إغراء لا يقاوم لأن نرى ونقيم الأمور باعتبارها صراعاً بين خيارين أو مجموعتين من البشر بينهما هوة غير قابلة للعبور. وبطبيعة الحال ينطوى هذا التقسيم على اعتبار ما
ننتمى إليه يمثل الخير أو الفضيلة، بينما ما ينتمى إليه الآخرون ممثلا للشر. ويعد التفكير من خلال ثنائيات غير قابلة للتصالح هو خصيصة بشرية، والقصة الجيدة التى سوف تحوز مكانة الحقيقة، وتسود هى تلك التى تبنى على هذه الثنائية بين الأخيار والأشرار، وتقسم العالم تقسيما حدسيا بسيطا يشبع رغبتنا فى القصص الدرامية والتصنيفات الواضحة، التى لا تقبل الغموض أو اللبس.
كذلك يلعب عنصر الإدهاش والتضخيم من الأحداث أو الظواهر الغرائبية دورا فى الإقبال على استهلاك القصة والاهتمام بها. ويرى هانز روزلينج أن الانحياز الأساسى الذى يضخم من وقائع وأخبار شاذة، أو هامشية، أو ذات دلالة عاطفية ليجعل منها خبرا أساسيا، منبعه الميل البشرى للثرثرة، ولتداول الشائعات، والاهتمام بالأخبار الدرامية. فالأمثلة المتطرفة هى التى عادة ما تعلق بالذهن، بينما يتجاهل الإنسان الأمثلة الاعتيادية أو غير المثيرة. هذا الميل هو الذى يوجه الإعلام لتسليط الضوء على الوقائع والأخبار والقصص المبهرة التى من المتوقع أن تحوز اهتمام “الجمهور”، مما يخلق فى النهاية نوعا من الحقائق الموازية، ويهمش الأخبار والقصص “العادية” أو التقليدية، غير المسلية. ويعقد هذا الأمر من علاقات السبب والنتيجة فى فهمنا لأسباب شيوع المعلومات غير الدقيقة أو المبالغات الإعلامية. فإذا كان البعض يرى أن الإعلام هو السبب فى ظاهرة المبالغات والأخبار الفجة، فإن الإعلام فى هذا الصدد يتصرف وفقا لتوقعاته أو خبراته حول ما يشكل خبرا، أو قصة سوف تحظى باهتمام القراء، مقارنة بالأخبار والقصص العادية” أو الباهتة التى لن تلقى صدى يذكر.
الحقيقة نسبية وهى دائما من اختيارنا
لا يقتصر اختيارنا لما نصدقه على الأفكار والقصص البسيطة والدرامية فحسب، وإنما نميل أيضا إلى تصديق ما نوده أن يكون حقيقيا. فهناك عنصر تفضيل أساسى ومسبق لما نختار أن نصدقه باعتباره الحقيقة. وتتدخل المشاعر والتفضيلات بداية من رؤية الموقف وإدراك عناصره، إلى إعطائه معناه، وانتهاء باتخاذ موقف منه. إن عملية الفهم بحد ذاتها والحكم على الأمور، وتقييم الأدلة والحجج، وإعطاء معنى للمواقف والمعلومات مرتبطة بأفكارنا، ومعتقداتنا، ومشاعرنا، وتوقعاتنا المسبقة. فالمعلومات والوقائع لا تعامل من قبلنا معاملة متساوية فى الحكم عليها وقياس مدى رجاحتها.
لا يعنى ذلك أن الإنسان يتجاهل المنطق تماما فى حكمه على الأمور، وإنما يتلون المنطق ذاته بتفضيلاتنا ومشاعرنا، فتتأثر عملية الاستدلال نفسها بخياراتنا وانحيازاتنا المسبقة. فمن بين نسيج الأدلة المتوافرة فى قضية ما، يميل الإنسان إلى اختيار النمط التفسيرى والأدلة التى تعزز وجهة نظره ويرتاح إليها، أو تقوى ثقته بنفسه وبرجاحة موقفه أو موقف من يحترمهم ويثق بهم. بل إن اختيار مصدر المعلومة بحد ذاته عادة ما يكون مدفوعا بالحاجة إلى الطمأنينة، وذلك من خلال اللجوء إلى المصادر التى من المتوقع أن تعزز ما نراه صوابا، وتجنب المصادر، أو آراء الخبراء التى نتوقع تناقضها مع خياراتنا.
ويرى توماس جيلوفيتش إننا فى الغالب نرتبط بقناعاتنا ونعاملها كممتلكات شخصية لا ينبغى أن تتعرض للتهديد، ومن ثم فالبحث عن الأدلة يخضع للهوى، فإذا كانت الأدلة المبدئية متوافقة مع قناعاتنا، نكتفى بها ونتوقف عن البحث، أما إن تناقضت مع تفضيلاتنا، فإننا نستمر فى البحث حتى نجد ما يؤيدها ويتفق معها.
فى المسعى نفسه، فإننا نخضع الظواهر والمعلومات غير المتوافقة مع ما نعتقد إلى أضعاف النقد والتمحيص الذى نستخدمه حيال تلك المتوافقة معه. فقناعاتنا تؤثر على المصدر الذى نلجأ إليه للحصول على المعلومة، فضلا عن كم ونوع المعلومات والأدلة التى نسعى للحصول عليها. بينما نكتفى بقدر قليل من المعلومات المؤيدة لما نرغب أن يكون حقيقيا. كذلك، فإن آلية الحكم ومعاييره تخضع للتوظيف الانتقائى، بحيث تتسق مع ما “نحب” أن يكون حقيقيا، وتعطينا النتائج التى نرغب بها أو نتوقعها.
التفضيلات تبيح المبررات
تشير الدراسات إلى أن الإنسان لديه قدرة غير محدودة على تبرير ما يعتقده صوابا. فنحن لا نعتنق الأفكار بسبب وجاهة أسبابها، وإنما، فى الغالب، نميل لإنتاج المبررات والأسباب لما نعتقد بشكل مسبق أنه أمروجيه. والمبررات بحد ذاتها هى أسباب مشحونة بالتماهى العاطفى بيننا وبين خياراتنا أو ما نعتقده صوابا. ويرى دان أريلى أن التبرير هو حيلة نفسية، يستخدمها الإنسان بشكل شبه يومى للتوفيق بين حسابات رؤيته المصلحية، والتقييمات الأخلاقية للموقف محل التبرير.
بعبارة أخرى، فإن الناس لا تتجاهل الأدلة والبراهين بشكل كلى أو تتبنى أسباب ذرائعية فى كل الأحيان، وإنما يميل البشر دوما إلى البحث عن تلك الأدلة والمعلومات التى تعزز توجههم المسبق. فعملية البحث عن
المعلومات والأدلة ليست عملية محايدة يتم فيها القياس والتقييم الموضوعى لكل البدائل والمعلومات، وإنما هناك ميل دائم لإيجاد ــ أو التضخيم من ــ المعلومات المؤيدة أو المؤكدة confirmatoryinformationللموقف الشخصى. يتم ذلك من خلال آلية الاستدلال العاطفى. وفى هذا السياق يرى دانيال كانمان أن النتائج تهيمن على الحجج، خاصة فى المواقف التى تنطوى على المشاعر أو الخيارات العاطفية. فالتفضيلات السياسية تحدد الحجج التى نجدها وجيهة أو مقنعة، بحيث يصبح الاستدلال، الذى يعد فى صلب عملية تقييم الأمور، والتفكير العقلانى والمنطقى، منحازاً ابتداء وموجهاً بتأثير المشاعر.
من ثم، فإن عملية تقييم الأحداث والحكم على الأمور، حتى وإن وظفت المنطق والتفكير العقلانى ظاهريا، فإنها محكومة بالعواطف، ومنحازة، وتختار من الاستدلال وأدواته ما يفيد التوصل إلى النتائج التى نرغبها. فعلاقتنا بقناعاتنا ليست علاقة موضوعية أو محايدة. ويشبِّه عالم النفس روبرت أبلسون القناعات بأنها مثل الممتلكات الشخصية. فنحن نحتفظ بها نظرا للقيمة التى تحوزها والوظيفة التى تؤديها. الأمر نفسه يفسر اختيارنا لمنظومة متسقة من القناعات، بحيث نختار من الروايات والسرديات الرائجة فقط ما يتسق مع ما هو لدينا بالفعل. وأخيرا لا تستبعد دراسات الانحيازات النفسية التأثير المباشر للمصلحة فى توجيه ما نراه حقيقيا. فقد تتم عملية الاستدلال بالكامل فى خدمة مصلحة شخصية، أو تصور بعينه للمصلحة العامة، ومن ثم يكون التوظيف الانتقائى للمعايير والأدلة الداعمة عمديا.
من التكرار للألفة إلى الحقيقة
إن التكرار يصنع الألفة ويمهد للحقيقة، حيث يؤدى الإلحاح على قصة ما إلى قبولها فى النهاية، فالألفة تصنع الإعجاب. ويعد هذا هو “أثر التعرض” لأفكار أو سرديات بعينها أيا كان وسيط التعرض. فتكرار حجة ما كفيل بإكسابها بعض القبول. وقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعى، والحاجة إلى كم هائل من المعلومات “القصص” يوميا، لتغذية هذه الماكينة العملاقة، فى قصر دورة حياة الأفكار، وإعطاء الأولوية للقدرة على صياغة “قصة جيدة”.ويعمل إعادة إنتاج وتداول وتدوير المعلومات والأخبار، عبر وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعى على تأكيدها وإعطائها قدراً من المقبولية المبنية على الشيوع والتكرار.
كما اسهمت وسائل التواصل الاجتماعى فى توسيع قاعدة “مجموعات الدعم” بخلق دوائر للدعم الافتراضية، مما يخلق الانطباع بالتوافق المصطنع حول موقف ما، ويعزز ثقة المنتمين إليه فى صحته، وفى اتساع قاعدة المنتمين إليه. ويؤدى هذا التوافق الظاهرى إلى المبالغة فى اعتقاد البشر أن الآخرين يشاركونهم قناعاتهم، ومن ثم يدفعهم إلى المزيد من التمسك بها، كما أنه يؤدى إلى تراجع التفكير النقدى، وسيادة التفكير الجمعى، ويزيد من فرص قبول سرديات غير حقيقية، ورفعها إلى مصاف الحقيقة غير القابلة للنقاش. وقد يسهم العدد الكبير لمستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى، فى التعدد اللانهائى لمنصات إعادة إنتاج وتدوير الأفكار، وترتبط ظاهرة المصادر الثانوية للمعلومات Secondhandinformation، وفقا لجيلوفيتش، باحتمالات كبيرة لتحريف الحقائق بسبب غياب المصدر الأصلى، وتعرض القصة لقدر ولو ضئيل، من التشوش مع كل مرة تتم فيها إعادة إنتاجها.
سرديات الخوف
تؤكد الدلائل أن الأشخاص يكونون أكثر ميلا لتصديق الرسائل الإقناعية الفارغة فى حالات التعب والإنهاك. كذلك يلعب عامل الخوف، والشعور بأن الأمر طارئا ولا يقبل المخاطرة أو التأخير، دورا فى الدفع لاتخاذ قرارات بعينها أو تجنب مخاطرات متصورة. ويؤدى هذا التوصيف إلى سيادة نوع من التفكير تحت ضغط الأزمة، وتغليب غريزة السلبية negativityinstinct، والتفكير بالاستباق، ونزعة توقع الأسوأ.
تشير العديد من الدراسات إلى أن الانحياز لتجنب الأذى أو دفع الضرر هو انحياز نفسى أساسى. ويرى روزلينج أن الخوف يؤدى إلى اضطراب الحكم، وتحظى تلك القصص، التى توظف نوعين أو أكثر من مشاعر الخوف بالاهتمام الأكبر. كما يرتبط ذلك بانحيازات أخرى تخدم سردية الخوف، منها الميل لتصديق الروايات السلبية، والاعتقاد دوما بأن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، والاعتقاد فى الحتميات والنهايات القدرية، والرغبة الدائمة فى إلقاء اللوم على مصدر الخوف، أو “شرير القصة”. وفى الأحوال الاعتيادية، فإن الأشرار عادة ما يكونون رجال الأعمال أو التجار الجشعين، والصحافة الكاذبة، أو الأجانب وعملائهم، أو اللاجئين، وسرديات المخاطر والشرور التى تروج فى ارتباطها بهم فى السياقات الشعبوية الصاعدة.
الأخطر من ذلك، أن السلوك المبنى على سرديات الخوف، وحسابات السيناريو الأسوأ، قد يصبح نوعا من النبوءة المحققة لذاتها Self–fulfillingprophecy، حيث يؤدى سلوكنا المبنى على التوقعات مفرطة السلبية فى بعض الأحيان إلى تعديل البيئة الموضوعية ذاتها، بحيث تصبح بعض تلك السيناريوهات غير المرجحة، أكثر احتمالا.
ختاما، فإن ما سبق تناوله من انحيازات نفسية، يشير إلى المدى الذى يتأثر به إدراكنا للحقيقة بالكثير من العناصر ذات القدرة على إعادة صياغة، أو تشويش، أو اختزال الواقع. وتؤكد هذه الانحيازات قدرتنا على الخداع الذاتى وخلق أو تصديق حقائق موازية سعيا وراء الاتساق مع خبراتنا وقناعاتنا السابقة، أو بهدف الطمأنينة وتجنب الغموض، والأفكار المقلقة، أو الاتساق الأخلاقى أوتعزيز الثقة بالنفس، أو حتى لخدمة أهداف مصلحية مباشرة. ولا تتطرق هذه العوامل التى تناولها المقال إلى تضافر تلك الانحيازات مع العوامل الخارجية لتشويه الحقائق، مثل التضليل، والخداع، عبر التلاعب بالمعلومات أو حجبها، أو توجيهها، أو عبر استخدام ما تتيحه وسائل التكنولوجيا الحديثة من كم هائل من المعلومات والتفضيلات الشخصية الخاصة بالمستخدمين، والتى يمكن من خلالها التحكم بتوجهات البشر والتلاعب بخياراتهم.