كشف تقرير لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، في 16 يوليو 2018، عن مطالبة الجيش الإسرائيلى، خلال الفترة الأخيرة، لشركات الإنترنت الإسرائيلية بتزويده بمنظومة إلكترونية ضخمة تمكنه من رصد ومراجعة كل ما يتم تداوله، ونشره، وتخزينه على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك مراقبة الاتصالات الشخصية لمستخدمي تلك المواقع من أجل الحصول على جميع المعلومات عن أصحاب تلك الحسابات، لاسيما المغلقة والسرية. كما طلب أن تقوم تلك المنظومة بمنحه إمكانية لإنشاء حسابات وهمية، فضلاً عن مطالبته بمعرفة 500 صديق أو شخص تواصل، أو علق على، أو أضاف، أو خلق أى نوع من الاتصال بينه وصفحة الجيش الإسرائيلي.
كما حدد الجيش الاسرائيلي مجموعة من الكلمات الدالة التى بمجرد ورودها على أي من مواقع التواصل الاجتماعي، سيعطيها الأولوية لمراقبتها والتجسس عليها، وهي (إرهاب، ومقاومة، وقومية، ودين، وعلاقات اجتماعية، وتنظيمات، وسياسة، وأسماء الأحزاب السياسية ، وأسماء سياسيين، واقتصاد، ومستوى الحياة).
انطلاقاً مما سبق، يهدف المقال لقراءة الأبعاد الرئيسية لإنشاء تلك المنظومة، التى تعكس في الوقت ذاته الأهداف الرئيسية من إنشائها، إلى جانب عرض ما تحمله تلك الخطوة من دلالات، وذلك على النحو التالي:
أولاً- أبعاد المنظومة:
تُعد مواقع التواصل الاجتماعي أداة مهمة للغاية لما تطرحه من معلومات وما تُتيحه من مساحة كافية للتعبير عما يدور داخل العقل من مخططات وأفكار يسعي لترجمتها على أرض الواقع، وكذلك التعبير عما يشعر به الفرد في كلمات قد تكون مختزلة في بعض الأحيان لكنها تعكس وضعه الاجتماعي والاقتصادي وكذلك آراءه السياسية، هذا فضلاً عن كونها أداة مهمة لمعرفة تحركات الفرد من خلال تتبع الأماكن التى يُسجل الدخول إليها والأفراد الموجودين معه. ترتيباً على ما سبق، أدركت القيادات السياسية والأمنية الإسرائيلية أهمية تلك الأداة، ليس فقط لمتابعة ورصد ما يشهده المجتمع الإسرائيلي ونظيره الفلسطينى من تطورات، وإنما كذلك المجتمعات العربية، لتحقيق مجموعة من الأهداف تعكس الأبعاد الرئيسية لتلك المنظومة، على النحو التالي:
1- تطويق أمني:
جسدت كلمات (الإرهاب، والمقاومة، والتنظيمات) أحد الأبعاد المهمة والرئيسية لإنشاء تلك المنظومة التى هدف الجيش الإسرائيلي من خلالها إلى التنبؤ، ومحاولة منع أية هجمات أمنية من خلال القيام بهجمات وحملات اعتقال استباقية داخل الأراضي المحتلة مثلما سبق أن أفادت تقارير إسرائيلية في أبريل 2017 بقيام جهاز الأمن الإسرائيلي باعتقال ما يقرب من 400 فلسطينى خلال شهر مارس من العام ذاته، سماهم “الذئاب المنفردة” دون ارتكابهم لأية جريمة، وإنما يعود فقط لرصد أحد البرامج الإلكترونية الإسرائيلية كلمات تُثير قلق الجانب الاسرائيلي مثل كلمتى (القدس، وشهيد)، فضلاً عن حرص القيادات الإسرائيلية على الاطلاع على جميع التطورات الأمنية التى تشهدها المنطقة من بروز تنظيمات متطرفة، أبرزها تنظيم”داعش”، والتى تفوقت في استخدام مثل تلك المواقع في تنفيذ العديد من الهجمات الإرهابية وجذب ذوى الميول المتطرفة للانضمام إلى صفوفها.
2- تعزيز الدبلوماسية الرقمية:
يسعي الجيش الإسرائيلي لقراءة جميع التغيرات النفسية والاجتماعية، وتتبع ظهور وتغير الظواهر الاجتماعية التى تشهدها المجتمعات المختلفة، ليس فقط داخل المجتمع الاسرائيلي ونظيره الفلسطينى، وإنما المجتمعات العربية كافة، وهو ما يجسده مطلب الجيش الاسرائيلي بمراقبة تلك المواقع بثلاثة لغات (العربية، والعبرية، والإنجليزية)؛ وذلك حتى يمكن التنبؤ بأى تغيير يمكن أن تشهده تلك المجتمعات كالتى شهدتها بعض الدول العربية في عام 2011 والتى لعبت مواقع التواصل الاجتماعي فيها دوراً مهما ورئيسياً، وهو ما أدركته القيادات الأمنية الإسرائيلية حينئذ، فأولت اهتماماً كبيراً بمراقبة ما يتم تدوينه على تلك المواقع في العديد من الدول، مثل البحرين وتونس ومصر، وتطوير برامج إلكترونية معنية بهذا الشأن، فضلاً عن سعي تل أبيب من خلال قراءة التغيرات النفسية والاجتماعية التى تمر بها المجتمعات، لاسيما فئة الشباب، لتغيير الصورة الذهنية للشباب العربي عن إسرائيل، وهو ما يأتى في إطار ما يُسمي “الدبلوماسية الرقمية” التي ترمي لخلق أواصر الحديث والتفاهم بينها وبين الشباب، لاسيما العربي، كسبيل لجذبهم بعيداً عن القضية الفسطينية وتبعاتها، وهو ما يجسده الدور النشط والفعال للمتحدث الرسمى باسم جيش الاحتلال الإسرائيلى “أفيخاى آدرعى” الذي بلغ عدد متابعي صفحته الشخصية أكثر من مليون و247 ألف متابع من مختلف دول المنطقة العربية.
استناداً لما سبق، يمكن تفهم السبب الذي بناء عليه وضع الجيش الإسرائيلي الكلمات التالية (علاقات اجتماعية، ومستوى الحياة، ودين، وقومية) ضمن الكلمات الدالة التى يعطي الجيش الاسرائيلي لمدونيها الأولوية في عمليات الرصد والمراقبة.
3- محاولات خطرة:
يُعد هذا الأمر بعدا مكملاً للأبعاد السابقة، ويمكن قراءته بشكل افضل عقب أقرانه بهما؛ حيث يهدف الجيش الاسرائيلي من خلال تلك المنظومة للاطلاع على جميع الآراء السياسية التى يعبر عنها السياسيون والحقوقيون وأعضاء الأحزاب السياسية، لاسيما فئة الشباب الأكثر استخداماً وتفاعلاً على تلك المواقع، ليس فقط داخل الأراضي المحتلة، وإنما كذلك بجميع دول الإقليم، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال الكلمات الدالة التالية (سياسة، وأسماء الأحزاب السياسية ، وأسماء سياسين). فالأحداث التى تشهدها دول منطقة الشرق الأوسط من تطورات سياسية، مقرونة بحزمة من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، قادرة على إحداث العديد من التغيرات، سواء على مستوى صانعي القرار السياسي بدول المنطقة، أو على مستوى النظام الحاكم كالتى شهدتها بعض الدول العربية في عام 2011، ولا تزال تشهد تداعياته على جميع المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يراه الجانب الإسرائيلي تهديدا لأمنه القومي، ويفرض عليه تقديم رؤية استراتيجية وعسكرية تتسق مع مجريات الأوضاع في البلدان العربية.
ثانياً- دلالات الإنشاء:
1- تميز أمنى سيراني إسرائيلي:
كشفت تحقيقات أجرتها منظمة الخصوصية الدولية حول البرامج الإلكترونية، المعنية برقابة مواقع التواصل الاجتماعي والتجسس الإلكتروني، عن أن هناك 27 شركة متخصصة في إنشاء مثل تلك البرامج في اسرائيل، فضلاً عن الوحدات التابعة للاستخبارات الإسرائيلية العسكرية المعنية بمتابعة ومراقبة جميع محتويات مواقع التواصل الاجتماعي، أبرزها الوحدة “8200” التى تولت مهمة رصد ومراقبة تفاعلات الشباب العربي على مواقع التواصل الاجتماعي، لاسيما عقب ثورات الربيع العربي 2011، علاوة على عمليات الرصد والتشويش والتنصت على الهواتف والبث الإذاعي، واعتراض رسائل البريد الإلكترونى والفاكسات التى تتولى الوحدة بقواعدها المنتشرة على الأراضي المحتلة تنفيذها، والتى كانت عاملا رئيسيا لاحتلال اسرائيل المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد واشنطن في مجال التنصت.
2- تسييس محتمل:
مثلما تُعد مواقع التواصل الاجتماعي أداة مهمة للجانب الاسرائيلي، فإنها كذلك مهدد قوي لأمنها القومي، نظراً لقدرتها على الحشد والتأثير بشكل واسع، لذا لجأت تل أبيب لتوظيفها ببث الشائعات والترويج لسياساتها عبر منصاتها، وهو ما يعكسه التنسيق والتعاون بين السلطات الأمنية الإسرائيلية، وإدارة موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” في عام 2016، والذي دفع الأخيرة لمراقبة المحتوى الفلسطيني على الموقع، وحذف المنشورات التى ترفضها إسرائيل.
انطلاقاً مما سبق، لا يمكن استبعاد خضوع باقي مواقع التواصل الاجتماعي لاتفاق كالذي عقدته إدارة “فيسبوك”، وبالتالي نجاح الجانب الاسرائيلي في “تسييس” مواقع التواصل الاجتماعي.
نهاية القول، إن تل أبيب لا تألو جهداً في انتهاج جميع الآليات التى تضمن تأمينها في إطار محيطها العربي، ولو بالحد الأدنى. وبما أن مواقع التواصل الاجتماعي تُعد بمنزلة أداة مهمة للغاية لمراقبة ورصد وتجميع كل التفاعلات والتغيرات متعددة الجوانب (سياسية، واقتصادية، وأمنية، واجتماعية) التى تشهدها تلك المجتمعات، فمن الطبيعي إدراجها ضمن الآليات التى يتحتم على الجانب الإسرائيلي تطويقها من خلال تطوير أنظمته اللإلكترونية.