في خضم الأحداث التي تدور في الوطن العربي، وأمام الدعوات الطائفية التي تعلو هنا وهناك، كان لا بدَّ أن نسلط الضوء على الفكر الصحيح، من القيم الاجتماعية والأسس الدينية التي تُشكل المنطلق في التعامل مع الآخر كائناً من كان، وترسي قواعد العيش المشترك.
فمن ذا يصدق أن سنستقبل العام الجديد، بفتن قبلية وسياسية ترتدي الدين… ولن أفتح خرائط هذه الفتن ولن أدق جرس المحاكمة، فثمة أزمة في العقل يضخها الموروث الديني ويتغذى منها ما هو مبرمج في مناهج تفكير المؤسسات الدينية، ومنها ما هو مزروع في وجدان السذج والبسطاء…
واليوم، ثمة من يقول هناك في العالم يهوديتان ومسيحيتان وإسلامان، وإن الصراعات القادمة ستكون بين الدين والدين داخل المذهب الواحد والطائفة الواحدة… وثمة من يقول هناك مشاريع جاهزة لأمركة الإسلام وفرنسة المسيحية وتهويد الأرض، وفي الوقت الذي يجري فيه تغيير الخرائط السياسية والجغرافية لأمتنا، ثمة من يقول يجب أن تنطلق ثورة التغيير من تغيير الفكر اليهودي ـ والمسيحي ـ والإسلامي ولا معنى لأي حديث عن تحرير الأرض قبل تحرير العقل وتحرير المرأة وتحرير الثقافة والسياسة من سلطة الدين.
إن دافعي للكتابة هو حب الحقيقة التي هي السبيل الوحيد لتحريرنا مسيحيين ومسلمين من الجهل والتعصب، والمعرفة هي طريق التواصل مع الآخرين بحوار بناء، لأن الإنسان عدو ما يجهل، وهنا لابد من التذكير بقول الكاتب الكبير ”برنارد شو” حيث قال: لقد قرأت محمداً باعتباره رجلاً مدهشاً، فرأيته بعيداً عن مخاصمة المسيح، يجب أن يدعى بحق منقذ الإنسانية”.
وما من شك في الرغبة الإنسانية المشتركة في البحث عن تنظيم العلاقات الدينية والاهتمام الصادق بإيجاد الحلول المقترحة لأزماتها سيحدد للجميع الإطار المرجعي لتكريس ثقافة الحوار استناداً إلى المعايير الثابتة في العقل والوجدان التي لا يختلف حول قيمها، وفي سياق ذلك فإن مشروع الدولة المدنية العادلة في الشرق الأوسط هو مشروع ينادي به المسيحيون والمسلمون مع استثناءات تفرضها طبيعة اختلاف الوعي بتفسير النصوص الأولى للدين وما يعنيني من تجربتي الخاصة في الحوار المسيحي ـ الإسلامي هو أن خطر التطرف لا يقتصر اليوم على المسيحيين بل على كل مسلم يختلف معه في الرأي والمعتقد…
ومن هنا كانت مناداتي في الماضي والحاضر إلى ضرورة أن تعي حركات الإسلام السياسي فاعلية الحضور الإيجابي للمسيحية العربية فلا يجوز التشكيك بولاء المسيحيين العرب لأوطانهم ولا ينبغي عزل المسيحيين عن حركة النهوض العربي التي ساهموا بإطلاقها وتصدروا ريادتها، وتالياً لا يجدر بعربي ومسلم الاستهانة بدور المسيحيين في تشكيل النظام العربي الجديد ولا يمكن تصحيح النظر إلى المسيحيين كأقلية في الشرق إلا بتقنين معنى المواطنة في دساتيرنا…
ليس هناك اختلاف بين المسيحية والإسلام، ومهما اختلف المسيحيون والمسلمون في مناهجهم عند تحليلهم لمعنى التوحيد في الذات الإلهية، فهم يتفقون على وحدة الإنسان في عمارة الأرض بالتعاون على البر والتقوى من أجل سلام عادل وشامل على وجه الكرة الأرضية. هذا هو الرباط الأخوي المجدول بنسيج التسامح والمحبة والعدل، وبه نمسح ذلك الغبار الذي رماه التاريخ السيئ على الأديان، أو رمته القراءات المغلوطة الناقصة، أو التأويلات الغامضة، أو رمته كما نشاهد العولمة الأميركة ـ الصهيونية.
إن الثقافة المسيحية ـ الإسلامية قائمة على فلسفة أخلاقية، والتفسير الصحيح لمعنى الإنسان والإنسانية، هذا هو توحد الرؤية… مثلاً: قد تطابقت الرؤية في الاتفاقات الدولية بخصوص وقف إبادة الجنس البشري عام 1948، وتطابقت الرؤية في القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 1973 والقضاء على أشكال التمييز ضد المرأة عام 1979، والقضاء على أشكال التعصب القائم على أساس الدين عام 1981، وعلى مناهضة التعذيب عام 1984، وتطابقت الرؤية على حماية حقوق الطفل عام 1985…
هذا ما فعلناه معاً مسيحيون ومسلمون على مدى القرن العشرين، فهل ما نسمعه وما يجري اليوم هو نقض للمسيرة الإنسانية التي مشيناها معاً؟
إذا كان ذلك كذلك، فإننا نقول: إن أميركا و”إسرائيل” ومن معهما قد قضوا فعلاً على ثقافة التسامح والعيش المشترك وعلى مرأى من العالم، وهم الآن يدفعون بعالمنا الإنساني إلى جحيم العنف والعنف المضاد، الناتج عن إرهاب العولمة الأميركية المدعومة صهيونياً وغربياً التي تريد اجتياح العالم لفرض أهدافها بقوة السلاح والاحتلال، والقتل والدمار والنهب والتشريد، وأدخلوا العالم في دوامة من الضباب الأسود والفوضى، التي لا تفصل بين المقاومة والإرهاب، وبين صاحب الأرض والمغتصب المحتل.
إن الأمركة المفروضة علينا هي من أخطر عمليات السطو على الأوطان ومن أخطر عمليات التزوير لهويات الأمم والشعوب، والمرتسم الجديد في أوسطية هذا الشرق هو الاغتيال العلني لعنصر الوسطية فيه، أي تمزيق نسيجه المتعدد، لغزله مجدداً بنسيج ثقافة أحادية مضادة ونقيضة. وإذن ليس هذا إلا تطبيعاً بقوة السلاح لتغيير خارطتنا الثقافية من ثقافة ممانعة تصنع إرادة المقاومة إلى ثقافة خاوية ومستسلمة لجبروت الأمر الواقع.
وإذا كان الغرب من ”فوكوياما” إلى صدام الحضارات يبحث عن عدو جديد، فنحن كمسلمين ومسيحيين في الشرق نبحث عن صديق جديد، وإذا كانت السياسة الصهيونية العالمية تنزع إلى جعل الأرض كوكباً من جحيم الحروب والفتن، فنحن كمسيحيين ومسلمين نريد أن نجعل الأرض كوكباً من صلاة وسلام.
فحيث تمشي المحبة تنبلج قناديل الرحمة والتواصل، ”الذِينَ يَنقضونَ عهدَ الله مِن بَعدِ ميثاقه ويَقطَعون ما أَمرَ الله بِهِ أَن يُوصلَ وَيفسدون في الأَرضِ أولَئِك همُ الخاسِرونَ” (البقرة/27).
فإما اتصلت هذه الآية في بيئتها وتاريخها بناس من الناس، قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، فإن الآية في مجرى الشمس والقمر ليست منغلقة على أسباب النزول، والآية ليست منحصرة في النهي عن قطع الرحم لأنها مفتوحة على كل ما أمر الله به أن يوصل. ومن أعظم القطع قطع الدين بالدين.
كذلك حيث يخطو الحوار بالوصل ستنبت من تحت أقدامه سنبلة الحقيقة… وإذاً لا بد من فاصلة بين صوت يوقظ ضمير التاريخ من أجل المحبة والحوار، وبين حنجرة تنفخ في رماد التاريخ لتوقظ ضفادع الفتنة النائمة في المستنقعات… وما من شيء يحطم معنويات الحوار في الراهن المعاصر أكثر من شعوره بأنه مجرد أداة لتجميل بشاعة الواقع البائس الذي يتعاطى مع الحوار ورسالته كهامش على متون لا تكاد تعترف بجدوى الحوار وإنتاجه، وما نرجوه من مؤسساتنا الدينية هو أن تحظى برامج الحوار بالأهمية التي تستحقها… ومهما كانت الصعوبات والتحديات المعقدة التي تحول دون توفير أفضل فرص النجاح لحوار منتج ودائم، فقد آن الأوان أن نخرج الحوار الديني من دوائر الانغلاق على التعصب المذهبي إلى أفق التعاون على البر والتقوى باعتباره فريضة قرآنية لا تسقط بذريعة الاختلاف الفقهي حول هذه المسألة أو تلك من أحكام الإسلام وشريعته.
لقد أعطى الحوار المنتج في بيئته صورة فريدة عن الوئام بين الأديان وعيشها المشترك، ولا يزال الحوار، وهو في قلب الخطر، يواجه التحديات ويدافع عن نقطة الضوء الأخيرة… وليس مصادفةً أن يكون عدوه هو النقيض المباشر لمشروعه، عنيت به الإرهاب الديني الذي تم اختلاقه ضمن مخططات الفتنة وتمزيق الشرق الأوسط، وهذا ما يفسر لنا ظاهرة استخدام الإرهاب المتوحش سياسات التهجير والقتل العبثي وتفجير الكنائس والمساجد.
وأراني تجرحني أشواك القطيعة وأكتب: إن إشكال القطيعة يتعدد بأشكالها لكنه يبتدئ من إشكال الأخلاق بوصفها التجلي الأجمل والأكمل لروح الدين وجوهر المعرفة… وبصدد كل ذلك… إذا كانت الأرض كلها مسجداً لله، وإذا كان الكون كله كنيسة لله، فإن أخطر أشكال الإرهاب الذي يتهدد الأرض والكون، هو الإرهاب الديني الذي يقتل بالقلب البارد بإسم موسى وعيسى ومحمد.
وقد آن الأوان لنقد القراءات المغلوطة والجاهلة بأدوار التاريخ المسيحي في المشرق العربي، وإذا كنا نشعر بوجوب ترسيم أولويات الحوار الديني في إطار مرجعي، فلا يجوز إطلاقاً استبعاد المسيحية كدين وثقافة وعروبة وقيم وأخلاق عن هذا الإطار…
صحيح أن مؤسسات الحوار لم تصل بعد إلى مستوى التأثير المطلوب على هذا الواقع البائس المتشظي بإسم الدين، إلا أننا بقوة الأمل والرجاء سنواجه الجوانب المعتمة من تداعيات ”الربيع العربي” على جوهر الدين وقيم الديمقراطية المسفوحة في الميادين المعتمة من هذا ”الربيع” وفضائحه القادمة بأحزاب وتيارات لا تمت إلى الإسلام والدين بصلة.