حقيقة لا نعلم من أين يمكننا البدء، القصة كلها أشبه بحبة خس فاسدة، ومشكلة حبات الخس الفاسدة أنها مخادعة جدا، تغري الفقراء بأن يبتاعوها بسعر بخس على أمل أن يعثروا فيها على ما يصلح للاستخدام، ولكن في ذات الوقت هي تعد بإحباط مضاعف إن لم يجدوا شيئا في النهاية، حينها يشبه الحال أن تنفق مالك ووقتك لاجتياز بضعة طبقات من العفن، فقط لا غير.
الطبقات كثيرة، لذا فلنبدأ بالقشرة الأولى التي تغلف كل هذه “المهزلة” كما يصفها المصريون، أو ما يطلق عليه مجازا الاستثمار الرياضي، وهنا سنضطر لعرض حقيقة بديهية؛ ما فعله ويفعله تركي آل الشيخ في مصر ليس استثمارا بأي معنى من المعاني، والسبب هو أن -انتبه شاحنة بديهيات في الطريق- أول شروط الاستثمار هو أن يضمن عائدا ما يستوجب الاستثمار أصلا. نعلم أن هذا قد يكون مفاجئا للكثيرين كونه قانونا حديثا نسبيا عمره من عمر البشرية، ولكن هذه هي الطريقة التي تجري بها الأمور للأسف.
الأهم -انتبه شاحنة أخرى في الطريق- أن أحد الروافد الرئيسية لهذا العائد في كرة القدم هو الجماهير، كونها المصدر الأول للأموال في اللعبة. هذه تفصيلة إجرائية معقدة لا يدركها إلا المختصون، لذا يحتمل أن تكون قد فاتت على اتحاد الكرة المصري وإدارات الأهلي والزمالك والصحفيين الرياضيين المصريين وجماهير الكرة والمهتمين بالشأن عموما. المهم أننا إذا جمعنا أسعار التذاكر لحضور المباريات وقسمناها على عدد الأندية ثم أضفنا ثابت الشعبية للمعادلة وطرحنا عدد مشاهدي المقاهي مع اعتبار معامل الخطأ ¼ لكل ألف متفرج، فسنتوصل إلى أن متوسط سعر التذكرة في مصر هو صفر، لأن الجماهير لا تحضر المباريات أساسا منذ عدة سنوات. (1)
على سبيل المثال، أرسنال هو أكثر أندية العالم تحقيقا للربح من تذاكر ملعبه بما يفوق 100 مليون باوند سنويا، أكثر حتى من ريال مدريد وبرشلونة، ولتدرك مدى الجهل الذي يحمله وصف تركي آل الشيخ بالمستثمر فما عليك سوى أن تعلم أن الرجل أنفق ربع هذا الرقم تقريبا في دعم الأهلي والزمالك بصفقات ومدربين وغيره، ثم ضعف هذا المبلغ على الأقل في بيراميدز، ولو فرضنا حتى أنه سيتمكن من بيع بضعة لاعبين بأسعار أعلى من التي أنفقها لجلبهم، فإن استرداد كل هذا في نهاية الموسم -بدون أرباح- لا يستوجب أن تعود الجماهير للمدرجات وحسب، بل أن يلعب ناديه الجديد كل مبارياته ذهابا وإيابا في ملعب القاهرة، وأن نكتشف له فجأة 75 ألف مشجع قادرين على ملئه على آخره في كل مباراة، وبشرط أن يكون سعر التذكرة 14 دولارا على الأقل، أي 250 جنيها مصريا تقريبا في ذات الوقت الذي يصل فيه متوسط دخل المصري إلى نصف هذا الرقم يوميا. (2) (3) (4) (5)
الطريقة الوحيدة لإتمام هذا الأمر هو أن يقوم تركي آل الشيخ بشراء كل هذه التذاكر ثم فتح الملعب بالمجان، وهو ما يعيدنا للمربع صفر كما ترى. إن كان هذا استثمارا فالشخص الوحيد القادر على إخبارك بنوعه هو مرتضى منصور. كل هذا طبعا ولم نتطرق بعد للأسئلة التي تُطرح عادة في هذه المناسبات، مثل ما إذا كان هذا هو النموذج الأصلح للاستثمار في الكرة المصرية أصلا أم لا، وما الذي سيعود عليها بالضبط من مضاعفة أسعار اللاعبين عدة مرات بلا سبب، وألم يكن الاستغلال الأفضل لهذه الموارد هو توسيع رقعة الممارسة مثلا عن طريق مراكز شباب جديدة أو ساحات للهواة تمكن مصر من الاستفادة من آلاف المواهب الملقاة على المقاهي بلا هدف، ولكن كما قلنا هذه أسئلة متخصصة ليس هذا مجالها، بالإضافة إلى أنها تقوم على فرضية ساذجة للغاية بأن الهدف الحقيقي هو الاستثمار فعلا. (6)
ما سبق هو الجزء الأول من أسطورة المستثمر المحب، الأسطورة المفضلة للقطاع الأكبر من جماهير الأهلي المصري، والجزء الثاني ليس أفضل حالا بالتبعية، لأننا نتحدث عن رجل قام بتمويل محمود الخطيب في انتخابات صعبة واجه فيها منافسة شرسة من محمود طاهر، على الأقل طبقا لزعمه الشخصي والذي لم ينفه أي عضو من إدارة الأهلي بشكل رسمي، والواقع أنه إن كان هناك أكذوبة أكبر من أكذوبة الاستثمار فهي الترويج الدائم لأن ما فعله الرجل كان بدافع الحب فقط لا غير، حتى إن أتت على لسانه هو شخصيا. (7)
الأمر ليس معقدا، إن كنت ترأس ناديا بحجم الأهلي المصري فإن أي تبرعات أو مساعدات خارجية يمكن تحليلها عبر احتمالين لا ثالث لهما؛ الأول هو أن مصدر هذه التبرعات أكبر بكثير من منظومة الكرة المصرية وكيان الأهلي بالتبعية، من ثم هي مساعدة لا تنتظر مقابلا محددا، مثل تبرع الأمير عبد الله الفيصل لإنشاء الصالة المغطاة مثلا. الثاني هو العكس ببساطة، والعكس هو الأقرب للمنطق في حال كان المتبرع موظفا سعوديا مغمورا لم يكن من الوجوه المألوفة قبل تولي محمد بن سلمان الحكم. (8)
هنا نجد أنفسنا أمام عدة طبقات من “العفن”، أو عدة احتمالات كلها مشينة؛ أولها أن الخطيب بدا “ساذجا” كما يصفه متابعون لدرجة أن يتوقع أن الرجل الذي أوصله لمقعد الرئاسة، أو ساعد في ذلك على الأقل، لن ينتظر أي شيء في المقابل، وثانيها وهو الأكثر واقعية؛ أننا أمام حالة تقليدية من الصراع التاريخي المصري – الخليجي، والذي يمكن تلخيصه في الثنائية الشعبية الشهيرة؛ حضارة بلا مال – مال بلا حضارة، والتي ما زالت متماسكة على المستوى الشعبي رغم ابتذالها ومخالفتها لواقع العقود الأخيرة.
باختصار؛ يبدو أن محمود الخطيب كان يريد حبا بلا مسؤوليات؛ من جهته، سيتولى تركي آل الشيخ التجديد لفتحي وعبد الله السعيد ثم إعارة الأخير وإنفاق ما يفوق ربع مليار جنيه في دعم النادي، ومن جانبه، سيضحي الأهلي ويقبل تبرعاته، أما أن يتطور الأمر لـ”التدخل في شؤون النادي” فهذا ما لا يمكن قبوله أبدا. وكما يُقال “نحن حضارة بلا مال صحيح ولكن شرفنا فوق كل اعتبار”.
هنا انفتحت أبواب الجحيم، طبعا أنت تعلم ما يطلقونه على المال الذي بلا حضارة في مصر، وتعلم أن هذا المصطلح آذى الرجل بشدة على المستوى الشخصي، ومعه كل الحق، لدرجة أنه ذكره في أحد بياناته الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي، وبعدها قرر الانتقام لنصطدم بواحدة من أكثر طبقات هذه القصة “عفنا” على الإطلاق.
بدأت كرة الثلج بعم عبده دربالة صاحب ورشة الإطارات، والذي أصبح عميد مشجعي بيراميدز بمجرد أن قرر تركي آل الشيخ إنشاءه على أنقاض الأسيوطي البائس. المهم أن الرجل حظي بزيارة رسمية في مقر ورشته حصل خلالها على شاشة وجهاز بلاي ستيشن لابنه جعلته يكتشف فجأة أنه يحب نادي الأهرام جدا جدا، طبعا بعد أن صرح والده بأنه سئم من تشجيع الزمالك وأنه أعاد توجيه انتمائه لتجربة الاستثمار الوليدة. (9) (10)
بعدها شق آل الشيخ طريقه من القاع صعودا تحت عناوين من طراز “غير مبادئك” و”هذي فلوسنا وإحنا حرّين فيها”، وقبل أن ندرك كان ميدو يعلن ظهور لويس فيغو وجون تيري ورونالدينيو في إستوديو بيراميدز. صحيح، لقد نسينا إخبارك أنه أصبح هناك إستوديو بيراميدز أصلا، وأن ميدو انضم للقناة ليشجع الاستثمار الرياضي في مصر، أو بالأحرى ليكون التجلي الأوضح والأكثر فجاجة على ما أراد تركي آل الشيخ إثباته بعد تجربة الأهلي؛ أنه إن كانت أمواله تكفي لإغراء بعض المشاهير العالميين بمشاهدة مباراة كاملة في الدوري المصري، بل ومحاولة تحليلها، فهي قطعا تكفي لإثبات أن كل المصريين بإمكانهم تغيير مبادئهم ما دام “حجم الشاشة والبلاي ستيشن كافيا”، ولا فرق في ذلك بين صاحب ورشة مأزوم أو طفل قاصر أو عدة رموز سابقة تنتمي لأكبر ناديين في مصر والقارة، وسواء أتى بهم من منازلهم أو من إستوديوهات واحدة من أكبر مؤسسات الإعلام الرياضي في العالم، وسواء كانوا بحاجة إلى أمواله أم لا. لا أحد يرفض المزيد من المال كما تعلم، أو هذا ما أثبته الرجل على الأقل. (11) (12) (13)
كان هذا أول مشاهد الجنون في القصة، لأن كل ما سبق، وكما توقعت، كان في إطار حالة من المفاخرة بقدرة المال السعودي السحرية على شراء أعتى المعارضين للتجربة، وبلا أي حاجة إلى المواربة أو التجميل، وصولا للحظة الذروة عندما كتب ياسر أيوب مقاله عن فشل بيراميدز الحتمي وانتصار أندية الشعب على طوفان المال، إلخ، وبعدها بشهرين كان يوقع عقدا مع بيراميدز كمستشار إعلامي للنادي، وكأن تركي آل الشيخ كان يصنع منه عبرة لمن يعتبر.
هذا ليس أحد أفلام عادل إمام، بل واقع الكرة المصرية الحالي كما هو، ولو كان أحد أفلامه لرأينا مشهد التهديد المعتاد الذي يجبر المعارض على الرضوخ ولكنه لم يحدث. لدرجة أن أحدهم أطلق مزحة عن كون الطريق الأسهل للحصول على أموال آل الشيخ هو التظاهر بمعارضته، أو هي ليست مزحة بالضبط، حقيقة نحن لا نعلم لأن صيغة الخبر كانت جادة تماما وكأن الثانية هي نتيجة حتمية للأولى، حتى عادل إمام لم يعالج المشهد بهذه السطحية في أفلامه. اقرأ من فضلك:
“قال الكاتب الصحفي ياسر أيوب إن تجربة نادي بيراميدز لن تبقى في المنافسة لفترة طويلة، مشيرا إلى أن دائرة المنافسة ستظل بين القوى الكروية التقليدية في مصر. وأعلن نادي بيراميدز من خلال حسابه الرسمي على تويتر تعيين ياسر أيوب مشرفا على المنظومة الإعلامية للنادي، ومستشارا للنادي، إلى جانب تقديمه برنامج على قناة بيراميدز”. (17) (18)
كل هذا طبعا كان يسير بالتوازي مع محاولات مستميتة لمكايدة الأهلي وإدارته، خاصة بعد تعرض الرجل للسباب من مدرجات الأهلي بمجرد وقوع الخلاف، وطبعا لا أنسب من ذلك سوى نادي الزمالك، وبالسيناريو نفسه وذات التفاصيل وبكم أضخم من الأموال وقدر أكبر من الفجاجة والابتذال، وإذا أضفت إلى كل ذلك الفوضى الإدارية المعتادة التي أصبحت من تقاليد الكرة المصرية فستكتشف أن إزالة كل الطبقات العفنة قد يستغرق أكثر مما توقعنا.
بيراميدز يهدي الزمالك مدربه الحالي وعددا من المحترفين الأجانب يتصادف أنهم أفضل لاعبيه، ومرتضى منصور يدعو تركي آل الشيخ لبيع قمصان ناديه داخل مقر الزمالك، والتحكيم يلعب لعبة التوازنات المعتادة التي لا تنتج إلا المزيد من الفوضى، ولجنة المسابقات تزيد الاحتقان بترتيب مؤجلات الأهلي، أو بعدم ترتيب مؤجلات الأهلي بالأحرى، لدرجة أن هناك أسبوعا واحدا لُعبت فيه مباريات من 5 جولات مختلفة. مرحبا بك في “الإيجيبشان بريميرليغ”.
طبعا لا يكتمل المشهد بدون لقطة الهدايا الخليجية المتجددة دائما وأبدا، لا بد من ساعة سويسرية أو هاتف مذهب أو عطر باهظ الثمن، أو ربما علبة فخمة مليئة بكل ما سبق مثلما حدث في 2008 وكاد أن يتكرر بعد التأهل للمونديال. المهم أنه في هذه الحالة كانت الأولى (الساعات السويسرية)، وكالعادة طالب تركي آل الشيخ مجلس إدارة الأهلي بإعادة تلك الهدايا في مشهد مهين آخر، ليتم تشكيل لجنة فحص تثبت أن الساعات ما زالت في خزانة النادي ولم يتم التصرف فيها، وكأن هذه هي المشكلة الوحيدة في الأمر. فنحن وكما يُقال “حضارة بلا مال صحيح ولكن شرفنا فوق كل اعتبار”، إلا لو كانت الهدية ساعة سويسرية طبعا! (14) (15)
|
على صعيد موازٍ، كانت إدارة الأهلي تعد لسوق انتقالات تاريخي بعد آخر فاشل تماما، تمكن فيه تركي آل الشيخ من حرمانهم من كل أهدافهم باستخدام طريقة الإغراق الشهيرة؛ الخطيب يفاوض لاعبا فيعرض المستثمر ضعف الرقم بلا أي محاولة للتقييم الفني حتى، المهم هو أن ينهي الأهلي صيفه بلا صفقة واحدة من التي أرادها، ولكن كل ذلك تغير في الشتاء الأخير، ربما لأن ثلاجة تركي آل الشيخ قد امتلأت، أو لأنهم أخبروه أن لكل نادٍ عددا أقصى من اللاعبين يمكن تسجيله، أو لأي سبب آخر، المهم أنه سبب لا علاقة له بالمنطق، هذا هو الشيء الوحيد المنطقي وسط كل هذا الجنون. (16)
المفاجأة أن كل ما سبق ليس أهم ما حدث في هذه “الحكاية الكريهة”، أصلا من حيث النظرية فإنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها شيء مماثل، بل في الواقع هي ليست أكثر من مجرد جولة أخرى من الصراع الثقافي المصري السعودي المستتر، فقط تصادف أنها اتخذت من الكرة ساحة لها هذه المرة، المجال الجماهيري الوحيد تقريبا الذي لم يُغلق تماما بعد، على الأقل خارج الملاعب.
الجديد هذه المرة كان تعاطي جمهور الناديين مع الأحداث المتتالية؛ والتي بدأت بمكايدة من جمهور الأهلي لباقي الأندية على اعتبار أن تركي آل الشيخ هو المستفيد من علاقته بالنادي، وأن المشكلة ليست في الإخلال بتكافؤ الفرص أو تحويل الكرة المصرية إلى مسرحية، بل في كون باقي الأندية المصرية ليست في حجم الأهلي، ولو كانت كذلك لوجدت ثريا خليجيا آخر يمولها، ثم بعدها اكتشفوا فجأة أن تركي آل الشيخ يريد أن يلعب دور الكفيل، وهذا مرفوض طبعا، لأن مبادئ الأهلي لا تسمح بذلك، حتى لو كانت تسمح له بالتدخل في شأن داخلي بحت كالانتخابات لتغليب كفة مرشح على آخر، أو تستخدم أمواله لعقاب لاعب أراد الرحيل للزمالك، أو تُرسل له آلاف الرسائل على صفحته لتطالبه بصفقات جديدة ومدربين بعينهم.
الخطوة التالية المتوقعة كانت أن ينتقل كل هذا الجنون إلى الضفة الأخرى من النيل بعد الخلاف، وأن تكتشف جماهير الزمالك فجأة أن الاستثمار الرياضي رائع جدا، وأن لفظة “بوابين” التي لمح لها تركي آل الشيخ في أحد بياناته ليست مهينة لهذه الدرجة، وأن إشارات الرجل الجنسية بعد هدف تراوري في مرماهم ليست أزمة كبيرة، خاصة إذا كان فرجاني ساسي يعيش فترة من التألق في وسط الملعب، وإذا كان غروس يقودهم لصدارة الدوري واللقب الثاني خلال خمس سنوات، وطبعا كلاهما ينال راتبه من الرجل نفسه الذي نعتهم بـ”البوابّين” بشكل ضمني، وكأن وضاعة المشهد كان ينقصها تلميح عنصري آخر.
هذا كله غيض من فيض، والحقيقة التي يجب التنويه إليها أننا لا نبحث عن قدر من التوازن في أفعال الجمهورين لكي نتجنب غضب أي منهما، ولسنا مهتمين على الإطلاق بعقد مقارنة بين درجات الإذلال التي تعرض لها الناديان على يد الرجل لنكتشف أيهما كان أكثر خضوعا، وحتى لو كان هذا واضحا ولا يحتاج إلى تصريح. هذه درجة من العفونة لا يمكننا الخوض فيها، وحتى لو قررنا فلن نجد أوصافا تسمح بها السياسة التحريرية أو الآداب العامة.
هل تعلم من الذي “لا يمانع” الخوض فيها؟ من يفترض به أن يكون المتضرر الأكبر من القصة، من لم يخض الانتخابات ولم يحصل على ساعات وبلاي ستيشن وشاشات وعطور وهواتف؛ جمهور الأهلي والزمالك نفسه. في الواقع “لا يمانع” ليس التعبير الأنسب عن الحالة، يمكنك أن تقول إنه أدمن الحالة تدريجيا منذ حل تركي على مصر، وصولا للحظة الحالية التي أصبحت فيها الجماهير غارقة فيها حتى أذنيها، اللحظة التي يسخر فيها كل منهم من الآخر لأنه أحنى ظهره للكفيل السعودي، اللحظة التي يثبتون فيها أنه مهما كانت دناءة الوصف الذي اعتادوا إطلاقه على الرجل، فإن استغراقهم في الصراع جعلهم أدنى.
جرّب أن تخبر أيا منهم أن القصة لا تستحق نصف هذا العناء، وأن الجميع خاسر أيا كانت النتيجة، وأن بيانات الرجل المتتالية أصبحت أهم من أهداف فريقهم، وأن مباريات كرة القدم ذاتها لم تعد أكثر من مبرر لحفلات منصات التواصل الاجتماعي بعدها، وأنه لو كان ما يحدث في الملعب على درجة الأهمية التي يدّعونها لما حظي ما يقع خارجه بكل هذا الزخم، وأن كل ما يحدث في العالم الافتراضي هو نتيجة الفراغ الفني والكروي والجماهيري في العالم الواقعي.
الإجابة؟ طوفان من الجهل والازدواجية، ستكتشف خلاله أن درجة انتمائك لمصر واعتزازك بهويتك متوقفة على مدى استعدادك للخوض في طبقات الخس العفنة، بل والتلذذ بأكلها إن تطلب الأمر. المهم أنه لا صوت يعلو فوق صوت الحرب، والمعركة لا تزال دائرة لإثبات أن ما لم يقبله الأهلي قد قبله الزمالك أو العكس، والموارد كلها مسخرة للتدليل على أن درجة الانحناء ليست واحدة، والمصيبة أن أقصى ما سيحصل عليه أي من الطرفين في النهاية هو لقب “النادي الأقل شيئا ما”، الأقل استسلاما، الأقل خضوعا، الأقل كفالة، لمهم أنه ليس “شيئا ما” يستحق القتال لأجله.
معركة نسبية كما ترى لأن المبرر الوحيد لوجودها هو الطرف الآخر، ورغم نسبيتها فهي قائمة على شعارات مُطلقة مثل “زمالك جميل بدون كفيل” و”الأهلي يحكم”. بعد كل ما حدث، ما زال جمهور الكرة المصرية يؤمن أن هناك مكانا لتعبيرات كهذه، ومشكلة المعارك النسبية المشابهة أنها تخلق عالما موازيا ينغلق على أطرافها، ومع الوقت يعتادون تفاصيله وصراعاته ويستغرقون فيها حتى لا يتخيلون حياتهم بدونها، وهذا ما يفسر الشراسة الهيستيرية في الدفاع عن وجوده، شراسة تفوق حتى شراسة أي منهم في الدفاع عن قضيته، لأن الهدف الحقيقي ليس الانتصار فعلا، الانتصار يعني انتهاء الحرب، وهذا هو الشيء الوحيد الأسوأ من خسارتها.
لذا تسمع مبررات من نوعية أن جماهير أوروبا تقتل بعضها لأجل كرة القدم، وأن الفساد وصل لرأس الاتحاد الدولي للعبة، وأن باريس يتلاعب بقوانين اللعب النظيف، وأن مانشستر سيتي يمتلك كفيلا خليجيا هو الآخر، وأن الحكم لم يحتسب ركلة جزاء على بيكيه الأسبوع الماضي، وأن مودريتش حصل على جائزة لا يستحقها، وأن المتندرين على مستوى الكرة المصرية الإداري والفني والجماهيري ليسوا أكثر من مستغربين متنطعين عديمي الهوية لم يطأوا ملعبا حقيقيا في حياتهم ولا يعلمون حرفا عن الانتماء، وأن الأمور في الخارج لا تختلف كثيرا عن حبة الخس العفنة.
هذا سلوك يستحق الدراسة فعلا؛ محاولة جر العالم كله إلى الوحل بدلا من الخروج منه ببساطة، أن تأتي بنادٍ من إنجلترا وآخر من فرنسا وواقعة في إسبانيا ومثلها في إيطاليا لتقنع نفسك بأن ما يحدث في مصر يوميا هو أمر طبيعي ومعتاد، وكأنك تجمع أشلاء فرانكنشتاين من جميع أنحاء العالم في جثة واحدة مرعبة لكي تبرر بها قبحك.
طبعا كل هذا مألوف أكثر من اللازم، لأنه المنطق نفسه الذي تستخدمه السلطة لتبرير أي شيء تقريبا. الواقع الداخلي عامر بالكوارث في كل المجالات، والكوارث لا تبرر إلا بالكوارث، والنتيجة أننا لا نرى من “الغرب” سوى مساوئه، نشاهد البريميرليغ بتنظيمه الباهر وتسويقه الخارق فلا يعنينا سوى حالة مانشستر سيتي الاستثنائية، ثم نذهب لإسبانيا فنتجاهل الأكاديميات العريقة والتصوير الرائع والإخراج الخيالي والمواهب الفذة ونستخرج لمسات يد بيكيه وجوائز بيريز المزيفة، وهكذا. هذا هو بالضبط ما يفعله وزير النقل عندما يصرح بأن تذكرة المترو في مصر أرخص من نظيرتها في أوروبا، وأن سعر الوقود هو السعر العالمي نفسه، وأن حوادث القطارات واردة الحدوث في كل الدنيا. (19) (20) (21)
في الحقيقة فإن تصرفات الخطيب ومرتضى منصور وتركي آل الشيخ والاتحاد المصري ليست مفاجئة لهذه الدرجة، بل هي نتيجة طبيعية لتفضيلاتهم وخلفياتهم وخياراتهم السابقة، ولكن المفارقة الحقيقية تكمن في جمهور الكرة المصري نفسه، والذي كان قطاع كبير منه في طليعة الفئات المعارضة لهذه المنظومة حتى وقت قريب، والآن هو يبتز كل المترفعين عن انحطاط الصراع الحالي بمزايدات فارغة بلهاء، ويعتبر أن المبرر الوحيد المقبول للنقد والاعتراض هو أن تكون مولودا في حواري كتالونيا ومدريد، أو نشأت على حضور مباريات تشيلسي ومانشستر يونايتد في الملعب، وبما أنك لست هذا ولا ذاك فلتكف عن التنظير ولتتمرغ في الوحل مثل الباقين.
هذا المشهد هو الأكثر جنونا وإثارة للحزن على الإطلاق، المشهد الذي تحول فيه جمهور الكرة من السعي لتغيير الواقع البائس إلى السعي لتكريسه وترسيخه وابتزاز المعترضين عليه. هذا هو ما يجعل هذه القصة بلا عبرة أو حكمة مستفادة، بلا خلاصة أو خاتمة تليق بها، مجرد طبقات متراكمة من العفن لن نعثر فيها على ما يصلح للاستخدام مهما بحثنا.
في يوم الأحد 25 من ديسمبر/كانون الأول عام 2016، تعرضت طائرة ملكية سعودية خاصة في مطار القاهرة الدولي لعطل خاص بعد إقلاعها من المطار بنصف ساعة فقط؛ لتعود إليه بشكل سريع. لم تكن الأجواء بين نظامي القاهرة والرياض في تلك الآونة على ما يُرام على غير المعتاد، خاصة بعد الروابط الوثيقة بينهما إثر صعود الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي للحكم بانقلاب عسكري دعمته المملكة ماليا، إلا أن تلك الفترة حملت تجاذبات إعلامية كبيرة بينهما على خلفية اختلافات في الأزمات الإقليمية أهمها: اليمن وسوريا. [1]
كانت الطائرة تُقِلّ وفدا رسميا سعوديا ضم أربعة أشخاص أتوا سابقا في مهمة غير معلومة، يرأسهم المستشار بالديوان الملكي السعودي “تركي بن عبد المحسن آل الشيخ”، ينتظرون العودة للرياض بعد عودتهم للقاهرة مرة أخرى، وحتى مساء ذلك اليوم، لم يتضح هل غادر الوفد السعودي السري أم لا، إلا أن وسيلة إعلام إماراتية “إرم نيوز” نجحت في كشف شيء آخر، وأعلنت عن أسباب الزيارة غير المعلنة سابقا بعد يوم واحد فقط. [2]
كان “تركي” قد أتى حاملا رسالة من الملك سلمان بن عبد العزيز إلى السيسي خاصة ببعض مسارات الخلاف بين النظامين، لكن آل الشيخ لم يلتق بالسيسي مباشرة في بداية زيارته، بل كانت له جولة في أروقة وزارة الخارجية المصرية قبل أن يسلم رسالته مساء للرئيس المصري، ولم يكن وفد آل الشيخ معنيا بهذه اللقاءات المصرية فقط، بل امتدت اجتماعاته بأطراف أخرى داخل مقر جامعة الدول العربية.
لم يكن المشهد مألوفا من وفد رسمي سعودي بهذا الترتيب، خاصة مع تلك الجولات الواسعة، مما ساعد في ترجيح كفة “زيارة بأهداف خاصة” على الزيارات البروتوكولية السعودية العادية، إلا أنه وبعد الزيارة حملت جميع الإشارات وتصريحات المسؤولين المصريين نجاحا لـ “تركي” في تقريب وجهات النظر بين نظام القاهرة وحليفه الخليجي الأول، بينما هدأت النغمة الإعلامية المصرية وقتها والتي كانت صُوبت رأسا ناحية الرياض، ولا يُعرف بالتحديد كيف تمكن “تركي” أيضا من تخفيف حدة التوتر الإعلامية تلك وبشكل سريع.
مع عودته للرياض وقد أتم مهمته على ما بدا وقتها على أكمل وجه، كانت تلك المرة بمنزلة افتتاحية شبه رسمية لعصر دخول “تركي” للأروقة المصرية، فلم تكن تلك المرة الأخيرة التي جلس فيها “آل الشيخ” داخل الأجهزة السيادية المصرية، وتكررت بصفات أخرى متعددة غير صفته السياسية مستشارا بالديوان الملكي، وبمرور الوقت، ظهرت مناصب الرجل الغامض منصبا تلو الآخر في سماء القاهرة، رئيسا للهيئة العامة للرياضة في السعودية، ورئيسا للاتحاد العربي لكرة القدم، ورئيسا للاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي، ثم رئيسا شرفيا للنادي الأهلي المصري، ومنقلبا عليه ومتنازعا معه بعد ذلك، ثم وضع قدمه في المجال الإعلامي بتعاقده مع أغلى مذيع مصري في الشرق الأوسط “عمرو أديب”، لتسطر تلك الزيارة اسم “تركي” في عالم العلاقات المصرية السعودية المتشابك، خاصة مع ثقة القصر الملكي فيه لإرساله على رأس وفد خاص إلى القاهرة في ظل ظروف حساسة بين العاصمتين، وليبرز اسم الرجل على مدار عامين كأحد أهم الشخصيات السعودية ذات الشعبية السلبية في القُطر المصري.
في عام 2001 تخرج الشاب السعودي البالغ من العمر 20 عاما من كلية الملك فهد الأمنية، برتبة “ملازم”، بعد أن أجبره والده الموظف المتوسط في الرئاسة العامة لرعاية الشباب “عبد المحسن آل الشيخ” على ارتياد السلك الأمني، ولم يخف “تركي” أبدا ولعه بالرياضة وبالأخص كرة القدم وبالفن أيضا، ورغبته غير المحققة في استكمال دراسته بالخارج ربما بسبب ظروف أسرته المتوسطة، لكن اقتراب والده من رؤساء رعاية الشباب في المملكة الأميرين “فيصل بن فهد” و”سلطان بن فهد” قد أسهم في احتكاك الملازم الشاب ببيئة الإدارة الرياضية مبكرا، ورغم اتجاهه في بداية حياته إلى الوظائف الأمنية بوزارة الداخلية بالرياض العاصمة[3]، وحتى وصوله إلى رتبة نقيب في التموين بأحد القطاعات العسكرية، فإنه وعلى الأرجح لم ينس أبدا تعلقه بالمجال الرياضي.
لم يكن معروفا عن أسرة “تركي” الثراء المبالغ فيه، رغم انتمائهم إلى سلالة “آل الشيخ” الدينية المحتفظة بمنصب الإفتاء في المملكة، في ظل شراكة تجمعهم بالأسرة الحاكمة “آل سعود”، لكن الضابط الصغير سرعان ما عرف طريقه للثراء والنفوذ عبر أحد الطرق الأكثر تقليدية في السعودية وهي المصاهرة، فتزوج ابنة “ناصر بن عبد العزيز الداود” وكيل أمير الرياض سابقا “سلمان بن عبد العزيز” والمدير العام للمكتب الخاص له، والمقرب منه حينها، ومن هنا عرف “تركي” طريقه لأسرة الملك الحالي وابنه قبل صعودهم للواجهة.
رشح الداود زوج ابنته للأمير الشاب “محمد بن سلمان” للعمل مرافقا أمنيا له، وسرعان ما ساهم عامل السن المتقارب في تحويل تركي من مجرد مرافق أمني إلى صديق ومرافق مدني لابن سلمان، عكس تقاليد أسرة “آل الشيخ” الرافضة للعمل في هذه المناصب بين أمراء آل سعود، ومنذ ذلك الحين وجد ابن سلمان مرافقا له في مغامراته داخل وخارج السعودية قبل أن توجد السياسة على أجندته، وبعد وفاة الملك عبد الله وصعود أخيه سلمان إلى الحكم، كان “تركي” صاعدا جنبا إلى جنب مع بروز طموح ابن سلمان السياسي الواسع. [4]
حاول “تركي” الاشتهار بالشعر وخاصة الشعر الغنائي، وألف عدة قصائد وأغنيات اقترن فيها اسمه بمطربين عرب كبار كـ “كاظم الساهر”، لكنه لم ينس أن يوظف تلك المحاولات سياسيا لحجز مكانه في المشهد الجديد المتشكل على يد ابن سلمان، فنشر في ذلك الوقت قصيدة “راعي العوجا” المهداة للملك الجديد سلمان، ثم تم اختياره عام 2016 كـ “أفضل شاعر” في استفتاء لإذاعة شبكة “إم بي سي” السعودية، ورغم اختلاف عدد لا بأس به على موهبته الشعرية من عدمها، ظلت المحاولات الشعرية في جعبته يستدعيها وقت الحاجة وكلما أراد. [5]. تأثير بدا واضحا لتركي آل الشيخ بعد حصول وليد الشامي على الجنسية السعودية مؤخرا، وهو ما انعكس على غناء الشامي لمعظم قصائد تركي.
صعد “تركي” مع كل تحولات الملك سلمان وابنه وشغل مناصب بالقرب منهم في مكتب وزير الدفاع، وكذلك في ديوان ولي العهد عام 2015، إلى أن عُيّن مستشارا للديوان الملكي برتبة وزير في يونيو/حزيران من عام 2017 بلا أي مؤهلات سوى صداقته بولي العهد الجديد، وهنا عاد شغف البدايات لتركي، وطلب من ابن سلمان تصعيده إلى قمة الهرم الرياضي في المملكة رغم ضآلة خبرته، وبالفعل عُيّن رئيسا للهيئة العامة للرياضة في 6 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، في ظل صداقة مع الأمير متواكبة مع رغبة الأخير في هندسة جديدة لتسلسل الحكم ونظامه في المملكة بعد صعود أبيه للعرش. وهنا أصبح “تركي” خيارا مناسبا لابن سلمان في عملية الإحلال والتجديد التي انتهجها في كافة قطاعات المملكة، ولا سيما تلك التي تتماس مع رؤيته الاقتصادية الجديدة التي أولى فيها أهمية كبرى لقطاع الترفيه بمختلف إداراته، فاختار صديقه تركي أيضا كراعٍ للترفيه في المملكة، وأحد رجالات نخبة الحكم الجديدة التي يكوّنها ابن سلمان مستبدلا بها منافسيه من أبناء عمومته.
اهتم “تركي” بالمجال الرياضي في السعودية منذ صعود سلمان للحكم، وبدا وكأن طموح الرجل كان في تولي مسؤولية هيئة الرياضة مع الوقت، فمارس تأثيرا واضحا في مجال الرياضة السعودية قبل وصوله إلى المنصب، حين قام بدعم نادي “التعاون” ماليا حتى نُصّب رئيسا شرفيا له، واستطاع النادي بلوغ دوري أبطال آسيا في موسم 2016 للمرة الأولى في تاريخه بعد الدعم السخي من الضابط السابق الصاعد، معنونا إستراتيجيته بممارسة التأثير في أي مكان عبر الدعم المالي السخي، وهي سياسة ستتحول فيما بعد إلى هوايته المفضلة في الرياضة. [6]
لم ينتظر الرجل كثيرا كما ذكرنا حتى وصل إلى مبتغاه برئاسة هيئة الرياضة السعودية، وفور تعيينه افتتح عهدا رياضيا سعوديا مثيرا للجدل عبر مؤتمر صحفي ضخم أعلن فيه قرارات لتغيير شكل الرياضة السعودية حتى ولو كانت شكلية، كان أهمها إلغاء بطولات تقليدية وإنشاء أخرى جديدة، وإطلاق اسم “دوري المحترفين السعودي” على مسابقة دوري الأندية الممتازة، وسعيه لإرسال تسعة لاعبين دفعة واحدة من الدوري السعودي إلى الدوري الإسباني كفترات معايشة استعدادا لبطولة كأس العالم، إلا أن القرارات غير الشكلية بدأت من تدخله المباشر في الإدارات الفنية للأندية السعودية، لينتج ذلك سلسلة من الإقالات شملت رؤساء ثلاثة أندية كبرى “الهلال والنصر واتحاد جدة”، كما وقّع اتفاقية مع شركة المصارعة العالمية الترفيهية “WWE” لإقامة منافسات المصارعة الحرة بشكل حصري في السعودية لمدة 10 سنوات. [7]
امتدت تدخلات “تركي” للمنتخب السعودي أيضا بعد خسارته أولى مبارياته في كأس العالم أمام مستضيفه الروسي بخمسة أهداف مقابل لا شيء، وهو ما أثاره لدرجة غير مسبوقة بعدما أعلن تحمله المسؤولية كاملة أمام ابن سلمان الذي حضر المباراة جوار بوتين، وبدا غاضبا من النتيجة بحسب الأنباء التي تسربت وأكدها مقطع مصور له بعد ذلك، وهو ما دفعه إلى التدخل في عمل الجهاز الفني للمنتخب في المباريات التالية. [8]
في فترة قصيرة، لم تعد هناك كبيرة أو صغيرة في الرياضة السعودية تمر بدون تدخل رئيس هيئة الرياضة الجديد الذي نجح في انتزاع المنصب من العائلة المالكة وضمه إلى مناصب أسرة آل الشيخ، وانطلقت حملات إعلامية قوية لتلميع تركي داخليا وخارجيا بعد ضخه مئات الملايين من الدولارات في سوق الرياضة السعودي والعربي، وبدأت الحملات بصدامات مع الإعلام الرياضي السعودي انتهت بحسمها من خلال نفوذه السياسي، وانتهت أيضا باختياره بعد أشهر قليلة من تعيينه في منصبه الجديد كـ “شخصية الثقافة الرياضية العربية” لعام 2017، كذلك حصل على جائزة الشخصية الأكثر تأثيرا في كرة القدم لعام 2017 في مؤتمر دبي الرياضي الدولي، في إيحاء بمحاولات مرجحة لملء السيرة الذاتية له بإنجازات صورية مقابل انعدام خبرته لتولي منصبه الرئيس. [9]
لم يكتف تركي بنفوذه الرياضي الوليد، وبدأ في الإشراف على بعض السياسات الإعلامية السعودية بتكليف من ابن سلمان أيضا، فأدار هيكلة بعض الملفات العالقة بمجموعة قنوات “إم.بي.سي” و”روتانا” بعد اعتقال مُلّاكهم وليد الإبراهيم والوليد بن طلال، وهو ما يصب في صالح احتمالية صحة ما تردد عن ضلوع آل الشيخ في حملة الاعتقالات الأخيرة في المملكة تحت مزاعم “الفساد”. وتلا ذلك إطلاقه مجموعة قنوات رياضية سعودية لتبدأ التنافس على حقوق البث الحصرية للمباريات في الشرق الأوسط.
تزامنت وتناغمت كل هذه التحركات لتركي مع رؤية صديقه ابن سلمان الذي أنشأ “الهيئة العامة للترفيه”، وهي الهيئة الحكومية السعودية التي أُنشئت للعناية بتنظيم قطاع الترفيه في المملكة وتطويره لأول مرة تاريخيا، الأمر الذي يمكن أن يفسر الإنفاق الضخم الذي بدأه آل الشيخ على قطاع الرياضة في المملكة، مستحقا بجدارة لقبه كـ “أمير الترفيه” الحالي، بكل معانيه. [10]
|
تلقى تركي الإشارة من ابن سلمان للتمدد خارج نطاق المملكة، ولاقت تلك الإشارة تطلعاته الشخصية، فبدأ بالبحث عن بوابة رياضية عربية لتدشين اسمه على مستويات شعبية بعيدا عن الخليج، ولم يكن هناك مكان أفضل من مصر صاحبة التعداد السكاني الضخم، وإحدى أكبر الدول العربية المستهلكة للترفيه الرياضي، لذا أحيا تركي أولا فكرة الاتحاد العربي لكرة القدم وترأسه، وأعاد مشروع البطولة العربية لكرة القدم الذي سبق وأن فشل وتم وقفه، واستقدم له أبرز الإعلاميين الرياضيين المصريين لترويجه، ولم يكتف الرجل بدور عام فحسب، بل آثر استخدام طريقته المفضلة عبر المال، وكانت انتخابات مجلس إدارة النادي الأهلي المصري، أكبر نادٍ عربي وأفريقي، المتزامنة بوابة ذهبية لطموحاته.
اتفق تركي على دعم محمود الخطيب لاعب الأهلي التاريخي المرشح حينها لرئاسة المجلس، وبالفعل دخل آل الشيخ النادي مع نجاح الخطيب الذي سرعان ما أعطى الرجل بغيته بتعيينه رئيسا شرفيا للنادي كما حدث مع التعاون السعودي تماما، وبدأت سلسلة من تدخلات تركي في شؤون الأهلي عبر منصته المفضلة “فيسبوك”.
تصريحات هنا وهناك، ووعود بالدعم والاستثمار ازداد معها ضيق الجماهير التي لم تستسغ تدخلات السعودي الذي بدا متحكما في أكبر أندية القارة الأفريقية، ولم يدخر تركي جهدا لمزيد من التوغل في كواليس الرياضة المصرية، فدعم الأهلي وحده بما يزيد عن ربع مليار جنيه في فترة 5 أشهر فقط، وهو مبلغ قياسي، ولم يكتف بذلك وإنما دعم غريمه الزمالك أيضا في صفقة لاعب تونسي دخل على عقبها في مشادة مع رئيس النادي المستشار السابق “مرتضى منصور” بعد أن رفض تولي الرئاسة الشرفية للنادي بعد أن عرضها منصور عليه، ولم تحل أزمته مع منصور سوى في أروقة أجهزة سيادية مصرية، في مشهد أبرز مدى نفوذ الرجل المتصاعد في أهم قطاع شعبي للدولة.
بات الرجل نجما كما أراد على ما يبدو، مكتب في مصر، ومستشارون إعلاميون، وممثلون قانونيون، وشبكة علاقات عامة على أوسع نطاق، ناهيك عن النفوذ السياسي بحكم منصبه. أعد آل الشيخ عدته، وخاض معاركه على غير أرضه في مصر إعلاميا وقانونيا وعلى أصعدة أخرى، وكانت معظم هذه المعارك بسبب تصريحاته على مواقع التواصل الاجتماعي المثيرة للجدل بين الجمهور العربي، أبرزها التي تعلقت بلاعب الكرة المصري الأشهر عربيا حاليا “محمد صلاح”.
|
لم تكن هذه التصريحات هي البداية، وإنما سبقها ظهور للرجل على الساحة المصرية بعدما اختلف مع إدارة النادي الأهلي في حدود التدخل في صناعة قرارات النادي، واشتبك مع إدارته على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يُخفي الرجل ولعه بهذا النوع من المعارك، فقد سبقها بمشادة مع رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس على موقع “تويتر”، وعقب خلافه مع الأهلي اشتبك أيضا مع نجم الكرة المصري المعتزل “محمد أبو تريكة “بعدما طالب الأخير الأهلي برد أموال تركي له. [11]
بدا أن الصدام بين مجلس إدارة الأهلي تحت الضغط الجماهيري وأمير الديوان الملكي السعودي مستمر إلى حين، ما دفع تركي إلى تبني سياسة جديدة تُبقي قدمه في ساحة الرياضة المصرية، وكانت الأموال السعودية حاضرة كعادتها، فخطط للاستحواذ على أندية مصرية صغيرة والاستثمار فيها لمنافسة الأندية التاريخية، ونجح الأمير في الإيقاع بأول الأندية الصغيرة الذي يملك غالبية أسهمه أحد رجال الأعمال المصريين ويُدعى المهندس “محمود الأسيوطي”، وهو يُدير ناديا باسم عائلته “الأسيوطي”، وأقنعه تركي ببيع النادي المصري الذي حقق أداء طيبا في الدوري الممتاز في صفقة بلغت نحو 500 مليون جنيه مصري، بمشاركة شركة “صلة” الرياضية إحدى دوائر نفوذ آل الشيخ في الرياضة المصرية، مع الاتفاق على تغيير اسم نادي آل الشيخ الجديد لـ “الأهرام سبورت”، واضعا له ميزانية غير معلومة لكن بوادرها ترجح وصولها إلى عشرات الملايين من الدولارات في سابقة لم يعرفها على الأرجح نادٍ في مصر إلا الأهلي فقط.[12]
على ما يبدو لن يكون هذا الفريق هو الأخير ضمن خطة تركي للاستحواذ على مساحة حقيقية وليست شرفية في الرياضة المصرية، إذ ترددت في الأوساط الإعلامية الرياضية أنباء عن مفاوضات يخوضها الرجل مع عدة أندية أخرى صغيرة لشرائها، وهو ما دفع أصواتا إعلامية إلى الصدام معه منتقدين هذه السياسة التي ربما تضر بالرياضة المصرية في المنظور البعيد، وكان على رأس القلة المتصادمة مع الأمير ذي النفوذ الإعلامي الرياضي أحمد سعيد الذي انتقد تدخل تركي آل الشيخ بهذه الصورة، جولات من الانتقادات انتهت بطلب آل الشيخ من النظام المصري التدخل لإيقاف انتقادات سعيد.
وبالفعل جاء العقاب سريعا ضد الإعلامي في اختبار لنفوذ آل الشيخ داخل مصر[13]، وتم الإيقاف الفوري لبرنامج سعيد وإحالته إلى التحقيق مع المنع من الظهور على الإعلام، وحُجب الموقع الرياضي الذي يترأس تحريره حتى اضطر للتنازل عن منصبه. [14]
برغم انتصاره، أدرك تركي أن خطته للتمدد في مصر لن تتم بدون وجود نفوذ إعلامي، فاستقطب رموز الإعلام الرياضي بشتى الطرق، وانتقل مؤخرا إلى مرحلة جديدة بالتعاقد مع الإعلامي المصري عمرو أديب بعقد هو الأغلى في منطقة الشرق الأوسط لصالح شبكة “إم.بي.سي”، وهي الشبكة الإعلامية العربية الأكبر التي يتضح تدريجيا أنها باتت تخضع لرؤية جديدة أعدها تركي رغم خروج مالكها الإبراهيمي مؤخرا من معتقله، ويحاول تركي عبر هذه الشبكة صناعة ظهير في مصر أمام هجوم شعبي مصري عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الظهير يمكن أن يستخدم للدفاع عن الرجل في أزماته المتكررة.
حدث ذلك في قضية الفنانة “آمال ماهر” التي أُشيع زواجها من تركي بعدما دفع الرجل المطرب عمرو دياب إلى غناء أغنية من أشعاره موجهة لها [15]، ومع حدوث مشكلة بينهما استدعت تحرير “ماهر” لمحضر رسمي اتهمت فيه مستشار الديوان الملكي السعودي بالتعدي عليها بالضرب في منزلها، حاول الرجل استخدام نفوذه الإعلامي والسياسي للتغطية على الواقعة، بالضغط على المواقع الإلكترونية تارة لحذف أخبار الواقعة، واستخدام النفوذ السياسي لحجبها في حال عدم الاستجابة تماما كما حدث مع موقع “في الفن” المتخصص في تغطية الشؤون الفنية. [16]
وبالعودة للتحركات الرياضية، فإن آل الشيخ وبعد تملكه لنادي الأهرام، تحرك على الفور لتغيير اسمه لـ “بيراميدز”، ومعززا لها بقناة إعلامية رياضية تستضيف نجوما عالمية مثل رونالدينيو وروبرتو كارلوس نجوم المنتخب البرازيلي السابق، لتحليل مباريات النادي الذي يملكه آل الشيخ، في صورة رسمت وما زالت علامات استفهام عديدة حول مشروع الرجل.
لم تكن تحركات آل الشيخ الأخيرة المثيرة للجدل في مصر سوى إعلان عن استلامه لملف القوى الناعمة للمملكة السعودية في مصر أحد أكبر أسواق الدراما والسينما والرياضة في الشرق الأوسط، وذلك بعد رحيل السفير السعودي أحمد القطان للرياض، والذي كانت لديه شبكة علاقات واسعة سخرها لخدمة الرياض في مصر عبر فنانين وإعلاميين ومثقفين، إلا أن القطان كان يفضل البقاء في الظل، عكس تركي الذي آثر الظهور والتدخل المباشر في القطاعات التي يعمل على اختراقها كالرياضة، أو الفن عبر تدخلات في محتوى الدراما من جانب شركات الإنتاج السعودية، أو ممارسة ضغوط على شركات إنتاج فنية مصرية.
هدف آل الشيخ من تحركاته إلى بناء أكبر قدر من النفوذ لخدمة القصر الملكي بالرياض بعد الأزمة الخليجية، فقرر الرجل اختراق المجال الرياضي والثقافي العربي على خلفية رغبته في منازعة الدوحة التي تتمتع بأقوى تأثير إقليمي من الناحية الحسابية في الرياضة تحديدا عبر شبكات “بي إن سبورتس”، وعكس اهتمامه الأخير وصراعاته دأبا على تسييس كافة الأحداث الرياضية والفنية، فقدم أوراق اعتماده في الأزمة الخليجية عبر محاولاته الشعرية المسيسة بعد تأليفه لأغنية ضد الدوحة، متسعينا بنفوذه لإطلاقها عبر حناجر بعض أبرز نجوم الغناء الخليجي.
لم تنته رحلة التسييس عند هذا الحد، بعد أن خاض الرجل حملة ضد وزير الرياضة الكويتي خالد الروضان، واصفا إياه بـ “المرتزق” إثر قيام الروضان بتوجيه الشكر لأمير قطر لدوره في رفع الإيقاف عن الرياضة الكويتية، وتخطى آل الشيخ الخلاف الخليجي جغرافيا منتقلا إلى المغرب، ضابطا بوصلته على موقف الدول المختلفة من حصار قطر، فهدد المغرب بعدم دعم ملفه لاستضافة كأس العالم أمام ملف الولايات المتحدة، لعدم وقوف الرباط موقفا داعما للرياض وأبوظبي لحصار قطر.
|
في 13 يونيو/حزيران من العام الحالي نفّذ آل الشيخ تهديده بالفعل، وصوتت السعودية لصالح الملف الأميركي الثلاثي المشترك المكون من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك أمام المغرب، وحصد ذلك الملف 134 صوتا مقابل 65 للمغرب في تصويت كونغرس الفيفا، ولم تكتف السعودية بتصويتها السلبي تجاه المغاربة، بل اجتذبت معها أصوات لبنان والأردن والعراق والإمارات والكويت والبحرين[17]، وهو الأمر الذي أثار صدمة في الشارع المغربي الذي قرأ الرسالة السياسية من التصويت، ليتضح منها صورة يُحاول تركي رسمها لنفسه كذراع باطشة لابن سلمان في القطاعات غير السياسية التي تخدم سياسة ولي العهد الصغير العامة، مُطلقا العنان رسميا للرجل الذي يتحدث باسم السياسة السعودية في كافة المجالات غير السياسية، ومحققا أحلامه القديمة في صورة قرارات تتوهم القوة الناعمة.
|
يمثل تركي بالنسبة إلى الكثيرين صورة لما تبدو عليه طبقات الحكم الحالية في معظم دول الخليج العربي وخاصة السعودية والإمارات: الأموال التي لا حصر لها، والمناصب الاسمية الضخمة، والخبرات شبه المنعدمة، والمهارات الضئيلة التي لا تشفع لصاحبها بإنجاز تطور في مجالات حيوية سياسية أو غير، لكل ذلك، ورغم تناثر إشاعات لم يتسن لنا التأكد منها بدقة عن قرب إطاحة ابن سلمان بتركي من مناصبه، يمثل تركي آل الشيخ بالنسبة إلى نسبة لا بأس بها من الجمهور العربي رجل المرحلة المتوسطة، وبامتياز.