بشكل مفاجئ شنَّ طيران النظام السوري، مدعوماً بنظيره الروسي، الثلاثاء 13 مارس/آذار 2019، غاراتٍ مكثفةً على مدينة إدلب، آخر معقل للمعارضة السورية شمالي البلاد، مما أثار العديد من التساؤلات عن الواقعة، في ظل التزام الأطراف الفاعلة في الملف السوري باتفاق سوتشي الموقَّع بين روسيا وإيران وتركيا. تزامن التصعيد في شمال غربي سوريا والقصف الروسي المكثف لإدلب، مع شنّ قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من الولايات المتحدة، والتي يقودها الأكراد، هجوماً منفصلاً على آخر معقل لتنظيم الدولة الإسلامية في أقصى شرقي البلاد. قوات النظام السوري مدعومة من طائرات روسية قامت بأعنف قصف لها على بلدات تسيطر عليها المعارضة في شمال غربي سوريا، وذلك في أشد ضربات توجهها منذ أسابيع لآخر معقل للمعارضة في البلاد، وفق ما قاله معارضون ورجال إنقاذ وسكان لرويترز.
اتفاق سوتشي
المنطقة التي تتعرض للقصف الروسي خاضعة للحماية، بموجب اتفاق سوتشي لخفض التصعيد، الذي توصلت إليه في سبتمبر/أيلول الماضي روسيا، حليفة الأسد الرئيسية، وإيران وتركيا، التي أرسلت قوات لمراقبة الهدنة. ويتضمن الاتفاق أيضاً إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين مناطق المعارضة ومناطق سيطرة النظام في إدلب، وانسحاب الفصائل المتطرفة من المنطقة المتفق عليها.
هل توقيت القصف مفاجئ؟
أفادت رويترز، نقلاً عن سكان، أن مدينة إدلب تعرَّضت لما لا يقل عن 12 ضربة جوية، شملت أهدافها سجناً للمدنيين على مشارف المدينة، مما أسفر عن فرار عشرات السجناء. وأودت الضربات بحياة 10 مدنيين على الأقل، وأسفرت عن إصابة 45. الهجمات العنيفة لا تعد مفاجأة، حيث سبقتها تصريحات روسية يمكن اعتبارها بمثابة التمهيد. ففي الأسبوع الأول من فبراير/شباط الماضي، طالبت موسكو أنقرة بالقيام بدورها بشأن «تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بينهما من أجل مواجهة «الإرهابيين» في محافظة إدلب السورية، مشيرة إلى أن «الإرهابيين في إدلب يخططون لشنِّ هجوم للسيطرة على منطقة خفض التصعيد». ومطلع مارس الجاري، صرَّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن بنود اتفاق سوتشي بشأن «إدلب لم تنفذ بحذافيرها». وفي الثامن من مارس/آذار الجاري، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، إن دوريات روسية ستباشر عملها في المنطقة الحدودية خارج منطقة إدلب، في حين أن دوريات تركية ستقوم بدوريات في المنطقة منزوعة السلاح، في منطقة خفض التصعيد. «ننسق مع روسيا وإيران بشأن إدلب، وتفاهم سوتشي ساهم في منع كارثة إنسانية كبيرة»، مؤكداً أن عملية الفرز بين المعارضة والمجموعات المتطرفة في إدلب لا تزال متواصلة. واعتبر أن «الدوريات التركية والروسية في إدلب تعد خطوة هامة لحفظ الاستقرار ووقف إطلاق النار»، طبقاً لوكالة الأناضول.
روسيا تقول نسَّقنا وتركيا تُندد
وزارة الدفاع الروسية، من جانبها، أكدت أنها وجَّهت الضربات لإدلب، بالتنسيق مع تركيا، مستهدفة مستودعات للطائرات المسيّرة والأسلحة تابعة لهيئة تحرير الشام، وقالت إن هذه الجماعة كانت تخطط لشن هجوم على قاعدة جوية روسية رئيسية قرب ساحل البحر المتوسط. ولكن تركيا نددت بالهجمات، ووصفتها بتزايد الاستفزازات بهدف خرق الهدنة، محذرة من أن حملة الضربات التي تشنها روسيا والقوات الحكومية السورية ربما تتسبب في أزمة إنسانية كبرى. وزاد استياء وغضب كثير من السكان بسبب عدم ردّ القوات التركية على هذه الهجمات، بينما طالبت القوات الحكومية السورية القوات التركية بالانسحاب، طبقاً لرويترز.
فرصة لتوجيه ضربة قاضية للمعارضة؟
أما بالنسبة للتوقيت في حدِّ ذاته، فنجد أن المعارضة السورية، التي تقاتل للإطاحة بالرئيس بشار الأسد منذ ثمانية أعوام، أصبحت الآن محاصرة إلى حدٍّ بعيد داخل جيب بشمال غربي البلاد، قرب الحدود مع تركيا. ويعيش داخل هذا الجيب حالياً نحو أربعة ملايين شخص، منهم مئات الآلاف من معارضي الأسد الذين فرّوا إلى هناك من أنحاء أخرى في سوريا. هذه الحقيقة ربما تفسر إلى حدٍّ كبير توقيت الهجمات، في ضوء سعي روسيا إلى حسم الأمور على الأرض لصالح حليفها بشار الأسد، في ظل الانسحاب الأمريكي من سوريا والتوتر بين أنقرة وواشنطن، بسبب صفقة شراء تركيا للنظام الصاروخي الروسي إس 400، مما قد يجعل رد الفعل التركي أقل حسماً في هذا الملف. روسيا والنظام السوري تتذرّعان بسيطرة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) على مناطق واسعة في الجيب الذي تتجمع فيه المعارضة، كي تنهيا آخر معقل للمعارضة، في ظلِّ إجماع أطراف الصراع في سوريا على التخلص من متطرفي الهيئة المذكورة، التي أصدرت بياناً توعَّدت فيه بالانتقام. وأضافت هيئة التحرير أنها ألقت القبضَ على معظم السجناء الذين فرّوا بعد قصف السجن المركزي في إدلب، مشيرة إلى أن من بينهم أعضاء خلية تعمل لحساب المخابرات الروسية، زعمت أنهم وراء تفجيرات شهدتها مدينة إدلب، الشهر الماضي، وأسفرت عن مقتل 17 مدنياً، وإصابة العشرات، طبقاً لرويترز. طبقاً لما أوردته رويترز، السكان الذين يعيشون على امتداد المنطقة الحدودية مع تركيا تمكنوا من سماع الدوي العنيف للضربات الجوية، ليل الأربعاء، في رقعة شاسعة من الأرض، تمتد من مناطق تسيطر عليها المعارضة قرب محافظة اللاذقية المطلة على البحر المتوسط، والخاضعة لسيطرة الحكومة إلى مدينة إدلب شرقاً، ثم مناطق مجاورة تسيطر عليها المعارضة أيضاً في شمالي حماة، مما يعزز فرضية سعي النظام السوري وحليفه الروسي لتوجيه ضربة قاضية على الأرض للمعارضة.
مخاوف من كارثة إنسانية في إدلب
بعيداً عن الحسابات السياسية خلف ما يحدث في إدلب، تشير جميع الشواهد إلى مخاطر تفاقم الوضع الإنساني في المنطقة، وتحوله لكارثة بكل معنى الكلمة. اتفاق سوتشي كان الدافع وراءه بالأساس هو الوضع الإنساني، وكان الهدف هو تخفيف حدة التوتر؛ تفادياً لكارثة إنسانية. فبحسب كبير مستشاري المبعوث الخاص إلى سوريا يان إيغلاند الوضع الإنساني في إدلب يمثل مصدراً رئيسياً للقلق. «إدلب بالتأكيد هي مصدر قلقنا الرئيسي، ولسبب وجيه، فهي مكتظة بالمدنيين الضعفاء. ويمكن النظر إليها على أنها تزيد على الوضع في الغوطة الشرقية بست مرات. هناك ستة أضعاف المدنيين في إدلب وهم أكثر عرضة للخطر. إنهم يعيشون في العراء وفي مخيمات نزوح مزدحمة، مكدسين في مراكز جماعية. يصلون إلى تلك المراكز في الثانية صباحاً ليجدوا أنه من الصعب تأمين مكان ينامون فيه، بالنظر إلى ازدحام تلك المراكز التي يدعمها العاملون في مجال الإغاثة. ولذا فلن يتحمل الوضع وقوع حرب في إدلب». وطبقاً لشهادات سكان وموظفي إغاثة لرويترز من إدلب اليوم بعد القصف العنيف، تبدو المخاوف من كارثة إنسانية أكثر واقعية من أي وقت مضى. قال إبراهيم الشيخ، وهو من بلدة أطمة وله خمسة أبناء «حرقوا الأرض. أصوات الانفجارات مسموعة بكل وضوح». ونقل الشيخ عن أقارب له قولهم إن هذا هو أشد قصف منذ بدء التصعيد قبل أسبوعين.
قنابل فوسفورية فوق المدنيين
وقال سكان في شمال غربي البلاد إن ذخائر فوسفورية بيضاء أُطلقت على بلدة التمانعة في ريف إدلب، حيث قال رجال إنقاذ يوم الأربعاء، إنهم أخمدوا حرائق عدة جراء إطلاق ما يزيد على 80 صاروخاً. وكان من بين أهداف الضربات الجوية مخيم مؤقت في قرية كفر عميم، الواقعة شرقي مدينة إدلب، الذي يؤوي عائلات نازحة. وأودت الضربات بعد منتصف الليلة الماضية بحياة امرأتين، فيما أصابت عشرة أطفال على الأقل. وقال ليث عبدالله، وهو أحد العاملين بالدفاع المدني الذين شاركوا في جهود الإنقاذ بمدينة سراقب، في اتصال هاتفي معه «اللي نفَّذ هذه المجزرة وحش… ما في غير نازحين نساء وأطفال وما في هدف نقوله غير إن هذا الوحش الروسي طالع يقتل». وقال أحمد عبدالسلام، وهو قيادي في الجبهة الوطنية للتحرير المعارضة المدعومة من تركيا، إن القصف الصاروخي من قاعدة عسكرية رئيسية في قرية جورين الواقعة في محافظة حماة ساهم في تصعيد القصف المستمر منذ أسبوع على مناطق ريفية قرب بلدة جسر الشغور. وقال معارضون إن قاعدة عسكرية روسية واقعة جنوبي بلدة حلفايا التي تسيطر عليها الحكومة استهدفت كذلك قرية كفر زيتا في ريف حماة الشمالي، بينما ضربت قنابل عنقودية عدة بلدات تسيطر عليها المعارضة في جنوبي إدلب. وتسبب القصف في نزوح السكان من بلدات تسيطر عليها المعارضة في المنطقة العازلة التي تمتد من مناطق في إدلب إلى شمالي حماة وبعض أنحاء محافظة اللاذقية. وقال يوسف الإدلبي، الذي انتقل إلى إدلب، إن خان شيخون التي كان يسكنها تحولت إلى مدينة أشباح بعد فرار معظم سكانها الذين كان عددهم يربو على 70 ألفاً.