في عام 2015، سمعت ميليسا إيلاردو، طالبة الدراسات العليا في علم الوراثة بجامعة كوبنهاغن عن جماعات الباجاو. وتساءلت عما إذا كانت قرونٌ من الغوص يمكن أنَّ تؤدي إلى كل هذا التطوّرٍ في سماتهم الجسمانية مما يسهل عليهم عملية الغوص.
معجزة الباجاو الفسيولوجية التي أبهرت ميليسا، هي نوع جديد من التكيّف – ليس مع الهواء أو الطعام، بل مع المحيطِ، إذ تطورت أجسام مجموعة من الأشخاص في جنوب شرق آسيا يعيشون في البحر ليصبحوا غوّاصين أفضل، كما ذكرت دورية Cell العلمية الخميس 19 أبريل/نيسان.
يعيش الباجاو Bajau البالغ تعدادهم مئات الآلاف، ضمن مجتمعات متفرقةٍ في ماليزيا والفلبين، ولديهم تقاليد حياتية بالعيش في بيوتٍ من القوارب، وفي الآونة الأخيرة بَنَوا أيضاً بيوتاً قائمة على ركائز في المياه الساحلية.
ماذا يعني تكيف الإنسان مع بيئته الطبيعية؟
نحن نتاجٌ للتطور، ليس فقط التطور الذي حدث منذ مليارات السنين، فمع تعمُق العلماء في دراسة جيناتنا يكتشفون حالات للتطور البشري حدثت في بضعة آلافٍ من السنين الأخيرة.
تكيَّف الناس في مرتفعات التبت وإثيوبيا على سبيل المثال مع الحياة على ارتفاعاتٍ عاليةٍ، كما اكتسب رعاةُ البقر في شرق إفريقيا وشمال أوروبا طفرةً تُساعد أطفالهم منذ الولادة على هضم الحليب كما لو كانوا بالغين.
ما الذي تطور عبر القرون مع جماعات الباجاو؟
عادة ما يستطيع الشخص العادي أن يحبس أنفاسه تحت الماء لعدة ثوان، قد يصل البعض إلى عدة دقائق، غير أن جماعات الباجاو يمكنها البقاء تحت الماء 13 دقيقة، في عمق يصل إلى 70 متراً، بحثاً عن الطعام وعن مواد يستخدمونها في البيوت والحياة اليومية، وفقاً لتقرير نشرته National Geographic.
رودني سي جوبيلادو المتخصص في علوم الإنسان بجامعة هاواي، وعرف جماعات الباجاو أثناء نشأته في جزيرة سامال بالفلبين. يقول عنهم: هم ببساطة غرباء على الأرض.
ويُجري جوبيلادو دراسات على الباجاو لكنه لم يُشارك في الدراسةِ الجديدةِ. «نحن منبهرون للغاية من قدرتهم على البقاء تحت الماء مدةً أطول مما نستطيعه نحن سكان الجزيرة المحليين. لقد تمكنت من رؤيتهم يَسيرون تحت الماء بالمعنى الحرفي للكلمة، وسيلتهم الوحيدة للحماية في زوجٍ من المناظير الخشبية، وهذه معجزةٌ فسيولوجية».
لماذا بحثت ميليسا عن حجم الطحال لدى الباجاو؟
قررت الباحثة الدنماركية السفرَ إلى جزيرة سولاويسي في إندونيسيا، ثم إلى جزيرة شعاب مرجانية حيث وصلت إلى قرية الباجاو. وبعد أن قدمت لسكان الباجاو مقترح دراستها وافقوا على الخُطة، ثم عادت إلى الجزيرة في غضون أشهرٍ قليلة، ولكنها اصطحبت معها هذه المرة جهازاً متنقلاً للآشعةٍ بالموجات فوق الصوتية لقياس حجم الطحال لدى الباجاو.
عندما يغطس الأشخاص في الماء يُظهرون ردة فعل عكسية تسمى «منعكس الغطس»: تتباطأ ضربات القلب وتنقبض الأوعية الدموية للحفاظ على استمرار تدفق الدم إلى الأعضاء الحيوية، كما ينقبض الطحال كذلك لضخ إمداد من كرات الدم الحمراء الغنية بالأكسجين في الدورة الدورة الدموية.
لدى كافة الثدييات رد الفعل المعروف بمنعكس الغوص، لكن الثدييات البحرية مثل الفقمة لديها على الأخص منعكس غوص شديد، فقد تبين أن الفقمات التي لديها طحال أكبر حجماً تستطيع الغوص لمسافاتٍ أعمق.
الطحال الأكبر حجماً يعمل كما لو أنه أسطوانة الهواء في جهاز التنفس تحت الماء.
وما الذي يعنيه أن يولد الإنسان بطحال أكبر من العادي؟
وأجرت ميليسا مسحاً لبطون أهل قرية الباجاو ثم سافرت نحو 15 ميلاً على الجزيرة (نحو 24 كيلومتراً) لتصل إلى قريةٍ يقطُنها فلاحون يُعرفون باسم سالوان، وأجرت لأجسادهم مسحاً بالأشعة أيضاً.
عندما قارنت ميليسا صورة الأشعة الخاصة بسكان القريتين وجدت فرقاً مذهلاً، إذ كان لدى الباجاو طحال أكبر في المتوسط بنحو 50% من ذلك الخاص بفلاحي سالوان.
وتعتقد ميليسا أنه الباجاو «عاشوا لآلاف السنين في بيوت من القوارب الطافية على الماء، يسافرون بها من مكان إلى آخر في مياه جنوب آسيا. وكانوا نادراً ما يزورون اليابسة. لذلك كان عليهم أن يجدوا كل ما يحتاجون إليه في البحر»، كما قالت الباحثة لبرنامج Inside Science على شبكة BBC.
وهل كل جماعات الباجاو غواصون «بدوام كامل»؟
بعضهم فقط، لكن الآخرين الذين يعملون مُعلّمين وبائعين لم يغوصوا مطلقاً، لكنهم أيضاً لديهم طحال كبير الحجم، وفقاً للنتائج التي توصلت لها الطبيبة ميليسا. فالأمر المرجح هو أن الباجاو يولدون كذلك بسبب جيناتهم.
أخذت الطبية ميليسا، أثناء زيارتها لجزيرة سولاويسي، عيناتٍ من مسحات الفم لكل من الباجاو وفلاحي سالوان، واستخرجت منها الحمض النووي الخاص بهم. وبحثت عن الاختلافات الوراثية بين القريتين وقارنتها بجينات أشخاص من دول مجاورة مثل غينيا الجديدة والصين.
ووجدت أنَّ بعض المغايرات الوراثية أصبحت شائعة على نحو غير مألوف لدى الباجاو. والطريقة الوحيدة الممكنة لحدوث ذلك هي الانتخاب الطبيعي: أفراد الباجاو الذين يمتلكون هذه المغايرات كان لديهم نسل أكثر ممن يفتقرونها.
وأحد المغايرات الوراثية الذي يؤثر على حجم الطحال لدى الباجاو يسمى PDE10A، والأشخاص الذين لديهم نسخة واحدة من هذا الجين الطافر لديهم طحالٌ أكبر من الذين ليس لديهم هذا الجين، والأشخاص الذين لديهم نسختان منه لديهم طحالٌ أكبر بكثير.
لم يتوصل العلماء إلى دورٍ معينٍ لجين PDE10A في الطحال، وقالت الطبيبة ميليسا: «هذه العلاقة غريبةٌ بعض الشيء».
وهل تكفي نظرية الانتخاب الطبيعي لتفسير زيادة حجم الطحال لديهم؟
ظهر أنَّ جين PDE10A يتحكم في مستوى هرمون الغدة الدرقية بالجسم، ووجد العلماء أنَّ حقن الخلاصة الدرقية في فئران لديها طحال غير مكتمل النمو يمكن أن يجعل الطحال ينمو ليكبر حجمه. إلا أنَّ ذلك لا يُفسَّر تحديداً الطريقة التي أصبح بها جين PDE10A شائعاً لدى الباجاو.
من جهتها، تُرجح ميليسا أنَّ الانتخاب الطبيعي هو ما ميَّز الجين المغاير PDE10A الخاص بجماعات الباجاو لأن الغوص على عمق كبير بالغ الخطورة. وقالت: «أتصوّر أنَّ هذا الأمر، رغم كونه مَرَضِيّاً، إنَّ لم يكن متوفراً لديهم، لكانوا ماتوا (بسبب ظروف معيشتهم)».
قال فرانسوا كزافييه الباحث المتخصص في علم دراسة الإنسان بجامعة تولوز الفرنسية، والذي لم يشارك في الدراسة، إنّه لم تتضح بعد السرعة التي حدث بها هذا التطور.
وقال الطبيب كزافييه: «تُشكّل هذه الدراسة حجر الزاوية لأسئلة مثيرة للبحث فيها».
في دراسةٍ نُشرت العام الماضي 2017، اكتشف باحثون روس أن هذا الجين يؤدي دوراً في منعَكَس الغوص، ففي أجسام الأشخاص الذين يحملون مغايرات من جين BDKRB2 تتقلص الأوعية الدموية لتكون أضيق عندما يغمرون وجوههم في الماء البارد.
ولمعرفة ما إذا كانت هذه هي حالة تنطبق على الباجاو، فستحتاج ميليسا إلى الذهاب في رحلةٍ أخرى إلى جزيرة سولاويسي الخلابة، وتقول: «سأكون سعيدةً بفعل ذلك حالَمَا أستطيع فعله».