وصلوا إلى نيوزيلندا قادمين من أرجاء الشرق الأوسط وآسيا، ليشكلوا مجتمعاً متماسكاً من المسلمين يعود تاريخه إلى منتصف القرن التاسع عشر. أما من ينتقلون إلى هناك في السنوات الأخيرة، فإنهم إما يلتحقون بالجامعات، وإما يفتتحون مطاعم وإما يفرون من الحرب في سوريا وأفغانستان والعراق.
تقول صحيفة The New York Times الأمريكية إن المسلمين في جميع أنحاء نيوزيلندا يمثلون مجتمعاً صغيراً متماسكاً من نحو 50 ألف نسمة، وكانوا يسعون طوال الجمعة 15 مارس/آذار 2019، إلى معرفة إن كان أحباؤهم من بين ضحايا الهجوم على مسجدين في مدينة كرايست تشيرش، الذى أوقع 50 قتيلاً.
بدا كأن الجميع يعرف بعضهم بعضاً
قال سكان إن المساجد ليست للباكستانيين أو الصوماليين أو البنغلادشيين، بل إنها لأي شخص في البلدة، سكان أو زوار على حد سواء.
قالت نسرين حنيف، المتحدثة باسم مجلس النساء المسلمات بنيوزيلندا، الواقع في أوكلاند على بُعد 85 دقيقة بالطيران من كرايست تشيرش: «لا أحد يرد على اتصالاتنا. لا نعرف إن كانوا في المستشفى أو مفقودين. بعضهم أشاروا إلى أنهم آمنون، والبعض الآخر لم يفعل».
وتحكي عن أبوين بانتظار سماع شيء عن ابنهما، الذي لم يظهر حتى الآن. وقالت: «كان من المفترض أن يتناولا معه الغداء بعد الصلاة». لو يجر الإعلان عن أسماء الضحايا حتى الآن.
وبحلول مساء الجمعة، ظلت الجثث بالمسجدين، خلف طوق أمني تفرضه قوات الشرطة، ويتلقى العشرات العلاج في مستشفى كرايست تشيرش.
ووصفت رئيسة الوزراء، جاسيندا أرديرن، الحادثة بالعمل الإرهابي «المخطط له جيداً».
وأعلن سفير منظمة التحرير الفلسطينية لدى أستراليا ونيوزيلندا، عزت عبد الهادي، في بيان له، مقتل فلسطيني واحد على الأقل وإصابة العديد في الهجومين.
وقالت منظمة التضامن السوري في نيوزيلندا، وهي جماعة تصف نفسها بمنظمة غير حكومية للسوريين وداعميهم بالبلاد، في بيان على صفحتها بموقع فيسبوك: «لقد جرى إطلاق النيران على اللاجئين السوريين اليوم، ومن بينهم أطفال».
فارون من الموت بسوريا ليُقتلوا في نيوزيلندا!
وقال علي عقيل، وهو مسؤول بالمجموعة، لقناة الأخبار المحلية Newshub، إن والده كان من بين الضحايا، وإن إحدى الأسر لديها طفل مفقود، والآخر يرقد في حالة خطرة بالمستشفى.
وأضاف عقيل: «لقد هربوا من الموت والتعذيب في سوريا، وجاءوا إلى نيوزيلندا، ليُقتلوا هنا!».
واجتاحت الأخبار عن الهجمات العالم، وأرسلت الناس ليبحثوا بشكل محموم عن أي معلومات عن أصدقائهم وأقاربهم.
ومن بين المصابين في الهجوم فتى يدعى أحمد جهانغير، الذي عاش في نيوزيلندا نحو 12 عاماً ويمتلك مطعماً يقدم أكلات من مدينة حيدر آباد بالهند حيث مسقط رأس عائلته، وفقاً لما ذكره سياسي من حيدر آباد على تويتر وتقارير إخبارية محلية.
وكانت أسرة أخرى من حيدر آباد تنتظر أيضاً أي أخبار عن قريب لها يدعى فرج آشان، الذي كان آخر اتصال معه قبل أن يغادر متوجهاً إلى مسجد النور، وفقاً لما أورده موقع News Minute الهندي.
وفرج هو مهندس برمجيات يعيش في كرايست تشيرش مع زوجته وابنته ذات الأعوام الثلاثة وابنه ذي الأشهر الستة، وقد ذهب إلى نيوزيلندا للحصول على درجة الماجستير بجامعة أوكلاند في عام 2010 وبقي فيها.
وأورد موقع تديره اللجنة الدولية للصليب الأحمر قائمة تضم عشرات الأسماء ممن سُجلوا بأنهم في عداد المفقودين، من بينهم أشخاص من مصر، وسوريا، والهند، والكويت، وفلسطين، والأردن، وأفغانستان، وباكستان، والصومال.
جريمة ومأساة، وفعل وقح من الكراهية
وقد عممت الرابطة الباكستانية في نيوزيلندا على صفحتها بموقع فيسبوك استمارة صحية ليستخدمها من يبحثون عن أحبائهم، تُذكر فيها تفاصيل مثل لون الأعين أو أي علامات ولادة أو ندوب مميزة. وأدرجت المجموعة 6 أعضاء من الجالية الباكستانية في عداد المفقودين، طالبين التواصل معهم من قبل أي شخص يستدل على أي من المفقودين.
وبالنسبة للمسلمين في نيوزيلندا وخارجها، فقد استرعت المذبحة مشاعر الحزن والغضب، لكونها جريمة ومأساة، ولكنها أيضاً، في عيون كثيرين، فعل وقح من الكراهية الناتجة عن سنوات من مشاعر عدائية تجاه المسلمين.
وقد أدان المسؤولون في كثير من الدول ذات الأغلبية المسلمة، من بينها إندونيسيا وماليزيا وباكستان، الهجمات باعتبارها نتاجاً ثانوياً للتحامل العنصري والتعصب الديني.
وأدانت وزيرة الخارجية الإندونيسية، رينتو مارسودي، بشدة واستنكرت واقعة إطلاق النار في أثناء صلاة الجمعة.
ووصف المتحدث باسم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الهجمات بأنها «عنصرية وفاشية».
وكتب إبراهيم كالن، المتحدث باسم الرئاسة التركية، على تويتر: «يوضح هذا العمل الجبان كيف يؤدي خطاب المعاداة والكراهية للمسلمين إلى سفك الدماء. ينبغي للعالم أن يخرج عن صمته بشأن كراهية الإسلام».
المساجد في نيوزيلندا «أمم متحدة» من الإثنيات
بينما شدد القادة الإسلاميون في نيوزيلندا على أن الهجمات لا تعبر عن شخصية البلد، التي يربطها كثير منهم دائماً بالسلام.
وقال إبرار شيخ، أمين مسجد المصطفى الجامع بأوكلاند: «لطالما كان المسلمون موجودين في نيوزيلندا منذ وقت طويل، ولم يعانِ المسلمون قط أي مشكلات في نيوزيلندا. ولا تعني جريمة ارتكبها فرد أو اثنان أنها هجوم على المسلمين الذين يعيشون في نيوزيلندا».
وقال إن الوفيات ستؤثر في المسلمين بأنحاء البلاد، مضيفاً: «جميعنا نعرف بعضنا بعضاً». وأشار إلى أنه لم يتمكن من الاتصال بأصدقائه الذي كانوا يصلّون الجمعة في مساجد كرايست تشيرش.
وتابع شيخ أن المسجدين اللذين استُهدفا في الهجوم في كرايست تشيرش كانا، مثل معظم المساجد بنيوزيلندا، «أمماً متحدة» من الإثنيات، وليست مساجد لمجموعة عرقية بعينها.
وكان أول المسلمين الواصلين إلى نيوزيلندا، عائلة بريطانية هندية، نزلت في كرايست تشيرش عام 1854. واتسع نطاق هجرة المسلمين إلى نيوزيلندا منذ سبعينيات القرن الماضي، مع وصول الأسر والطلاب من جزر المحيط الهادئ. وكانت منطقة كانتربيري، التي تتضمن كرايست تشيرش، منطقة نمو مطرد للجالية الإسلامية.
ووفقاً لعبد الله دروري، وهو باحث أكمل دراسة تاريخ الهجرة الإسلامية في نيوزيلندا منذ عامين، فقد وصل تعداد المسلمين في كانتربيري بمرحلة ما عام 1977، إلى قدرتهم على تسجيل رابطة رسمية وتنظيمها. وأنشأت المجموعة أول مكان لإقامة الصلوات والشعائر الإسلامية بجزيرة نيوزيلندا الجنوبية في كرايست تشيرش بعدها بـ3 سنوات.
عدد المسلمين في نيوزيلندا لا يتجاوز 50 ألفا
وتزايدت هجرة المسلمين إلى نيوزيلندا في التسعينيات والعشرية الأولى من القرن الحالي، مع الهجرة من البلدان التي دمرتها الحروب مثل العراق وأفغانستان. وفي إحصاء سكاني عام 2013، بلغ إجمالي تعداد السكان أكثر من 4.2 مليون نسمة، من بينهم أكثر من 46 ألف مسلم، بزيادة نحو 30% عن إحصاء عام 2006.
يُظهر البحث أن أغلبية المسلمين في نيوزيلندا يتبعون المذهب السُّني، مع أقلية شيعية كبيرة وبعض الأحمديين.
وترى نسرين حنيف أن مجتمع المسلمين المتماسك يجب أن يصبح أكثر تماسكاً، وذكرت أن المسجدين اللذين تعرضا للهجوم بدآ بالتواصل، طالبَين المساعدة في ترتيبات وإجراءات الجنازات.
وأشارت رئيسة الوزراء، أرديرين، إلى أن كثيراً من الضحايا كانوا من المهاجرين. وقالت: «بالنسبة للكثيرين، قد لا يكون هذا هو المكان الذي وُلدوا فيه. بالنسبة للكثيرين، نيوزيلندا كانت اختيارهم، المكان الذي اختاروه بإرادتهم، ليعتنوا فيه بأُسرهم».
وأضافت أن نيوزيلندا لم تكن هدفاً، لأنها كانت ملاذاً آمناً من الكراهية والتعصب والتطرف، بل «لأننا لسنا مكاناً لهذه الأمور. لأننا نمثل التنوع، والرحمة والتعاطف، وموطن من يشاركوننا قيمنا، ومن يحتاجونها. هذه القيم لم ولن تتزعزع بسبب هذا الهجوم».