برامج استئصال جذور التطرف هي حجر الأساس في استراتيجيات مكافحة الإرهاب في العديد من الدول.

وتهدف هذه الاستراتيجية إلى مكافحة التطرف من خلال تحديد الأفراد الذين أصبحوا في دائرة التطرف والتشدد، أو أولئك المعرضون لخطر أن يصبحوا كذلك، ومن ثم إعادة دمجهم في التيار العام السائد بالاستعانة بالإرشاد النفسي والديني بجانب التدريب المهني.

ويخشى منتقدو هذه السياسة من أن هذه البرامج تُجرِّم المجتمعات المحلية والأسر والأفراد وتُلحق بهم وصمة العار، بالإضافة إلى ذلك، هناك أسئلة حول مَن تتعاون الحكومات معهم للحصول على المعلومات؟ وما إذا كان ينبغي إلزام الموظفين العموميين بالإبلاغ عن المتطرفين المحتملين؟

هناك أيضاً عدد قليل للغاية من الأدلة على نجاح هذه البرامج، إذ فشلت معظمها في تقييم تقدم حالة المشاركين، ونادراً ما يجري دراسة معدلات العودة إلى الإجرام. وفي تقرير صدر عام 2016 حذرت لجنة حقوق الإنسان في البرلمان البريطاني من أن استراتيجية الحكومة لمكافحة التطرف تستند إلى نظريات غير مُثبتة ومخاطر تزيد من تفاقم الوضع، بحسب المجلة العلمية.

التدخل مبكراً وإشراك المجتمع

يكمن مفتاح مكافحة التطرف في معالجة جذوره الاجتماعية، والتدخل في وقت مبكر قبل أن يصبح أي شخص «فاعلاً مكرَّساً» على استعداد لإفناء حياته في سبيل إحدى القضايا، كما يقول سكوت أتران من مركز حل النزاعات المستعصية التابع لجامعة أكسفورد، والذي يضيف: «حتى ذلك الحين هناك كل الأشياء التي يمكنك القيام بها».

ويؤكد أن أحد أكثر تدابير المواجهة فاعلية هو إشراك المجتمع. فعلى سبيل المثال، كرة القدم في المدارس الثانوية وحركة الكشافة من الوسائل الفعالة في مواجهة السلوك غير الاجتماعي بين أبناء المهاجرين المحرومين من التمتع بحقوقهم في الولايات المتحدة.

الهُوية البيضاء المزعومة فكرة عنصرية تتجاوز كل المشتركات الإنسانية، وتعبر حدود الجغرافيا والدين والتعايش.

الهدف المشترك هو القتل، هو التخلص من كل الملونين والأقليات والمهاجرين وأصحاب الأصول غير البيضاء.
.
.

وما زال الكوكب ينزف بالكراهية حتى إشعار آخر.

سلَّطت مذبحة المسجدين بنيوزيلندا الأضواء على مصطلح اليمين المتطرف ومفرداته مثل «تفوق الجنس الأبيض» و «القوميون» و «النازيون الجدد» وغيرها، ورغم الصدمة المروعة من وحشية الجريمة التي ارتكبها بدم بارد شاب أسترالي أبيض ضد مَن سمّاهم «الغزاة»، يُخطئ مَن ينظر إلى ما حدث على أنه حادث فردي منعزل قام به شخص عنصري متعصب لتفوُّق جنسه الأبيض.

في الواقع، الأمر أكثر بشاعة مما يبدو وما ظهر حتى الآن في وسائل الإعلام حول العالم، يمكن ببساطة تسميته بقمة جبل الجليد، فهل يؤدي التنديد العالمي بالمجزرة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً إلى تراجع ذلك الوحش المخيف المسمى باليمين المتطرف ومحاصرته، أم أن العكس هو الأقرب للحدوث على أرض الواقع؟

نبدأ رحلة الكشف عن مدى عُمق جبل الجليد المسمى باليمين المتطرف من نيوزيلندا نفسها حيث مسرح المذبحة، وحيث تتواصل محاولات فهم ما حدث هناك.

«الإسلام عدو.. والهجرة غزو»

«حكماً على التيمات والإشارات التي كتبها ورسمها مرتكب المجزرة على أسلحته النارية والمنتشرة في الفيديو الذي بثه للجريمة، ورموز «الشمس السوداء» المعلقة على صدره، من الواضح أن مطلق النار كان عضواً في جماعات يمينية وفاشية متطرفة» بحسب مقال نشره «بين إيلي» باحث بارز في شؤون اليمين المتطرف في صحيفة نيوزيلانداهيرالد.

كان النازيون يستخدمون رمز الشمس السوداء أثناء الحرب العالمية السوداء، واليوم يتم استخدامه بشكل عام من جانب أعضاء النازيين الجدد واليمين المتطرف والرمز لا يعني ارتباط الشخص بجماعة نازية معينة بقدر ما يربطه عموماً بذلك الفكر المتطرف.

الإشارات والإيماءات والرموز التي استخدمها السفاح الأسترالي مصممة لإبهار وتحميس جمهوره اليميني المتطرف.

«أعضاء تلك الجمعيات هم شباب ذكور غاضبون لونهم أبيض يشعرون بالخذلان من جانب مجتمعاتهم التي وعدتهم بكل شيء، لكنهم فوجئوا بأزمة مالية كبرى (2008) وهم في بداية مشوارهم العملي، ووجدوا حولهم صعود مفاهيم مثل «المساواة بين المرأة والرجل» و «تعدد الثقافات» فنظروا إليها بعدائية على أساس أنها السبب في معاناتهم.

جماعات قومية عنصرية

هؤلاء الشباب الأبيض الغاضب يتطلع لليمين المتطرف؛ لأنه يقدم لهم رداً على الوضع القائم، ولأنه يقدم لهم الطريق لاستعادة مجتمعات السيطرة والتفوق فيها للجنس الأبيض دون غيره!

تلك الجماعات هي جماعات قومية عرقية تؤمن أن السبيل الوحيد لإيجاد «مجتمعات مسالمة» هو استبدال الدول الحديثة بـ «الدول العرقية» التي تتكون من جماعة عرقية واحدة، ويؤمنون بنظريات مؤامرة (غالباً ما يناقض بعضها بعضاً أصلاً)، يتركز معظمها الآن حول الإسلام الذي ينظرون إليه على أنه عدو الثقافة الغربية البيضاء العرق.

يقدم اليمين المتطرف لهؤلاء تفسيرات سهلة لفشلهم يلقي باللائمة على أعداء أقوياء، ويقنعهم أنهم يمكن أن يكونوا أبطالاً ضمن ثقافة حرب يمكنها أن تندلع في أي يوم الآن.

مكمن الخطورة الأكبر وراء هذه الأفكار المتطرفة هو صعود الأحزاب اليمينية حول العالم في السنوات الأخيرة مقابل تراجع أحزاب الوسط واليسار. فالأحزاب اليمينية تلقي باللائمة في المشاكل الاقتصادية والأمنية على الهجرة بشكل عام، مما يعني تبنّي الأفكار العنصرية نفسها والخطاب العدائي تجاه المهاجرين الذي رأيناه جميعاً في أبشع صوره في مذبحة المسجدين في نيوزيلندا.

ترامب في مرمى النيران

من نيوزيلندا إلى الولايات المتحدة؛ حيث ما يراه الكثيرون على أنه أكبر مثال على صعود اليمين المتطرف وهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان من الطبيعي أن يصبح هدفاً للهجوم من جانب كارهي ذلك الخطاب العنصري بعد مجزرة نيوزيلندا.

«الرئيس (ترامب) ليس عنصرياً يؤمن بتفوق الجنس الأبيض. لست متأكداً كم مرة علينا أن نقول ذلك!»، هكذا رد القائم بأعمال كبير موظفي البيت الأبيض «ميك مولفاني» على الهجوم المتزايد على خطاب ترامب «العنصري» في أعقاب مذبحة المسجدين، وذلك في برنامج «فوكس نيوز الأحد».

«دعونا نصف ما حدث في نيوزيلندا الوصف الدقيق: هذا فعل بشع وشرير وقبيح، ولابد أن نعرف السبب وراء انتشار مثل تلك الأفعال حول العالم. لكن هل دونالد ترامب السبب؟ بالقطع لا!»

مولفاني أضاف أيضاً أنه من «الظلم» وصف الشخص الذي ارتكب تلك المذبحة بأنه من أتباع ترامب؛ لأنه أشار للرئيس في البيان الذي نشره.

مذيع البرنامج كريس والاس قال إن ترامب استخدم نفس الخطاب الذي أشعل التوترات، وبث مقاطع لترامب أثناء سعيه للفوز بالرئاسة في 2016 يقول فيها ساكن البيت الأبيض الآن يؤمن بأن «الإسلام يكرهنا»، ثم بث أيضاً تعليقات أخرى قالها ترامب الأسبوع الماضي فقط وصف فيها تدفق الهجرة غير الشرعية بأنها «غزو»!، طبقاً لموقع ذا هيل.

هل المجزرة بداية أم نهاية؟

أفكار مثل «كراهية المسلمين للحضارة الغربية» و «غزو المهاجرين» يرددها السياسيون في الأحزاب اليمينية المتطرفة منذ عقود، لكن تلك الأحزاب لم تكن تحظى بشعبية ولا تلقى قبولاً. أما في السنوات القليلة الماضية، فقد تغير الأمر تماماً وحصلت تلك الأحزاب على نسب تصويت عالية تتزايد باستمرار في الانتخابات في أوروبا وأمريكا وحول العالم، وهو مؤشر واضح على تفاقم العنصرية والاستقطاب.

في هذا الإطار، كتب الباحث المصري طارق حجي تغريدة على حسابه الرسمي على تويتر قال فيها إن «اليمين الأبيض متزايد الانتشار في أمريكا وأوروبا وأستراليا وهو في بداياته وسيتنامى ويصل للحكم في هذه البلدان».

 

Tarek Heggy طارق حجّي@heggy_tarek

اليمين الأبيض متزايد الإنتشار فى أمريكا وأوروبا وأستراليا هو فى بداياته وسيتنامي ويصل للحكم فى عددٍ من هذه البلدان. وهو “رد فعل الإنسان الأبيض” على شكلٍ آخر من أشكال اليمين وهو التطرف الإسلامي الذى بدأت موجته الحالية فى ١٩٧٩ ورأي منها العالم ما رأي من عمليات إرهابية وتهديد لقيمه.

قُبلة الحياة لداعش والقاعدة؟

ليس من المستبعد بالطبع أن تقع حوادث انتقامية من جانب الجماعات المتطرفة التي تنتسب للإسلام مثل داعش والقاعدة، أو حتى من جانب أفراد يتبعون أفكارها المتطرفة دون أن يكونوا منضمين إليها، والعقلاء فقط يدركون خطورة ذلك.

رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد حذر الأحد 17 مارس/أذار 2019 من أي ردة فعل انتقامية، داعياً إلى ضبط النفس: «إن مغبة الانتقام للهجوم ستكون عملاً أسوأ».

لكن الرد جاء سريعاً؛ حيث وقع إطلاق نار عشوائي في محطة ترام في هولنداالإثنين 17 مارس/أذار، أوقع في حصيلة أولية 3 قتلى وعدداً غير محدد من المصابين وأفادت الشرطة الهولندية بأنها تبحث عن رجل تركي في السابعة والثلاثين من العمر تشتبه أنه وراء الحادث!

حوادث متفرقة لكنها مرتبطة

نعود إلى نيوزيلندا وجارتها أستراليا حيث بدأت محاولات كشف جبل الجليد لنرصد بعض الحوادث ذات الدلالة في ذات السياق، فنجد تعرُّض امرأتين مسلمتين لإساءة لفظية في محطة قطار مونت ألبرت في أوكلاند بنيوزيلندا، الأحد 17 مارس/آذار، لارتدائهما الحجاب، حيث قال المهاجم (أبيض في العشرينات) للأختين: «عودا إلى بلادكما اللعينة»، أي بعد يومين فقط من المجزرة.

في السياق ذاته، ألقت الشرطة القبض على أسترالي جديد توجَّه بسيارته إلى مسجد وأطلق كلمات مسيئة. ووفق صحيفة The New Zeland Herald النيوزيلندية، فقد توجَّه رجل بسيارته نحو بوابات مسجد في ولاية كوينزلاند الأسترالية، وصاح بكلمات مسيئة إلى المصلين داخل المسجد، من خلال نافذة سيارته.

لكن اللقطة الأكثر دلالة فيما نحن بصدد الإجابة عنه ربما تكون ما ذكره موقع Stuff النيوزيلندي من أن متاجر الأسلحة في البلاد شهدت حالةً من النشاط الكبير، في ظل «حمى الشراء» التي أصابت المواطنين بعد وعود جاسيندا أرديرن، رئيسة الوزراء، بتشديد قوانين السلاح في أعقاب هجوم كرايستشرش.

ترويع المسلمين كي يعودوا من حيث أتوا!

الشواهد كثيرة ومتسارعة وجبل الجليد يطفو إلى السطح وينكشف ربما أسرع مما تصور الكثيرون، فمدى وعمق انتشار الأفكار العنصرية لليمين المتطرف – رغم الشواهد التي تبدو الآن أكثر واضحا – لا يزال حتى الآن متوارياً خلف الاهتمام الإعلامي الغربي بتطرف الجماعات التي تنتسب للإسلام وتتحدث باسمه.

فرغم  كون مجزرة المسجدين حادثاً نادراً أصلاً في نيوزيلندا، لا يمكن اعتباره حادثاً منفصلاً عن الغرب حيث يُوجَّه خطاب كراهية المهاجرين المتصاعد ضد المسلمين في الغالب.

وفي هذا الصدد، يقول بيتر بيرغن، محلل شؤون الأمن القومي في شبكة CNN الأمريكية، إن الأعمال الإرهابية الوحشية الأخيرة في نيوزيلندا تسلط الضوء على ثلاثة توجهات ناشئة في الغرب: «الهجمات على الأهداف الإسلامية، واستخدام الشبكات الاجتماعية كمنصة يستخدمها الإرهابيون لنشر لقطات فيديو حية، واستهداف دور العبادة بشكل مروع».

بيرغن اعتبر أن الهجمات الإرهابية في نيوزيلندا تعد جزءاً من توجّه منتشر في الغرب، حيث يستهدف الإرهابيون دور العبادة التي كان استهدافها محظوراً بشكل عام في الماضي، مستبعدا أن يكون إطلاق النار في المسجدين هو الأخير.

ترامب لعب دوراً في تغذية هذا الفكر

يتفق الكاتب والباحث جي بي بيرجر مع الطرح ذاته، ففي تحليل مطوَّل لتاريخ اليمين المتطرف ودور الرئيس الأمريكي الحالي في تغذيته، يرى بيرجر أن الاختلافات التاريخية بين مختلف جماعات اليمين المتطرف منعت إلى حد ما حدوث تعاون كبير بينها رغم الاتفاق في الهدف وهو سيطرة الجنس الأبيض على العالم.

لكن ما كشفت عنه مجزرة نيوزيلندا وحوادث أخرى سبقتها هو وجود «عدو قوي» يسعى اليمين المتطرف للقضاء عليه، ضمن نظريات المؤامرة التي يغذيها منظِّرو وقادة الفكر اليميني المتطرف، وهذا العدو هو الإسلام والهجرة. والتعامل مع هذا العدو يقوم على فكرة الترويع حتى يعودوا من حيث أتوا، في ظل النظر إليهم كغزاة، طبقاً لموقع ذي أتلانتيك.

في ذات السياق، ترى كاثلين بيليو، مؤرخة وكاتبة في جامعة شيكاغو، أن مذبحة نيوزيلندا على بشاعتها ليست سوى حادثة واحدة على ما يبدو أنه سيكون طريقاً طويلاً من هجمات اليمين المتطرف، حيث إن تحليل البيان الذي نشره مرتكب المجزرة يوضح أن الهدف الرئيسي منه هو تشجيع آخرين على تقليد ما قام به.

«الباحثون وثّقوا كيف يقوم اليمين المتطرف بجماعاته المختلفة بنقل الأفكار والتدريب والأسلحة أيضاً إلى بلدان أخرى يتركز فيها الجنس الأبيض – كما حدث في نيوزيلندا – فهم لا يعترفون بالحدود بل يريدون عالماً أبيض يخلو من الأعراق والديانات الأخرى»، قالت بيليو لموقع فوكس، مضيفة أن كل المؤشرات حول العالم تؤكد أن فرص زيادة حدة اليمين المتطرف أكبر بكثير من فرص تراجعه.

المؤكد الآن أنه بعد مجزرة نيوزيلندا أصبح الفكر اليميني المتطرف هو حديث العالم، وتعالت الأصوات المحذرة من خطورته، فهل ينجح تسليط الأضواء في انكماش وتراجع ذلك التيار أم أن العكس هو ما سيحدث؟ لا أحد يمكنه الجزم بما هو قادم بالقطع، ولكن الواضح الآن أن مكافحة الفكر اليميني المتطرف معركة تحتاج لتعاون أكثر بين أصحاب الفكر المضاد من تنوع وتعايش سلمي بين البشر على اختلاف ألوانهم ودياناتهم وثقافاتهم.

المصدر: وكالات الأنباء