ربما لا يجد معظم رواد سفينة Seven Seas Navigator أيَّ شيءٍ خارج عن المألوف لدى الرجل ذي المظهر المميز، الذي يأكل وحيداً كل يوم في الغداء والعشاء، وعلى الطاولة نفسها وفي الركن نفسه داخل صالة طعام Compass Rose.

ولكن ما أثار فضولي، هو أنَّ ذلك الراكب –الذي يشير إليه الطاقم بشكل مختلف باسم «الكابتن» أو «الربّان»- يقيم بالسفينة نفسها منذ أكثر من 13 عاماً.

وعدني الخادم الذي يتولى عناية قاعتنا الفاخرة، بيش، بأن يعرف مدى إمكانية ترتيب لقاء معه أم لا. بعد عدة ساعات، كنت أتوجه للقاء الكابتن، حسب موعدنا عند الرابعة مساءً في وقت الشاي، بصالة Galileo في الطابق الحادي عشر.

على الطاولة نفسها كل يوم

كنت أعرف جيداً أين سأجده، لأن بيش أخبرني بأنه دائماً ما يجلس على الطاولة نفسها في زاوية الصالة كل يوم، بجوار المسرح الصغير، حيث يعزف على البيانو أو الغيتار موسيقى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. عندما التقيته، كان يشرب مشروبه المعتاد، ماء التونيك الخالي من السكر، في بار مفتوح مجاني.

يبدو مورتون جابلين، صاحب الـ94 عاماً، أصغر بعشرين سنة من عمره الحقيقي. إنه رجل ممشوق القوام، ومهندم، وشعره فضي لامع. وتعكس عيناه الداكنتان خلف نظارته التي تنضح بالذكاء والثقة والدفء، مظهر المدير المتقاعد. إنه مُحاور ممتع، كما أنه يحظى بعقل وذاكرةٍ يقظين على نحو ملحوظ.

السؤال: لِم كل هذه السنوات؟

بمجرد بدء حديثه لموقع Forbes الأميركي، كنت متحمسة بشدة للوصول إلى جوهر موضوعنا: لماذا عاش كل هذه السنين على متن سفينة، هذه السفينة تحديداً؟

قال مورتون: «لم أستطع تحقيق نمط الحياة هذا في أي مكان آخر». وأضاف: «يتمتع الطاقم بكرم وطيبة بلا حدود. لا أستطيع أن أجد أوصافاً حميدة توفّيهم حقوقهم. إنهم رائعون!».

يبدو مورتون مثل رحّالة، أو بحَّار سعيد.

من أصول متواضعة

يخبرني كابتن جابلين بفخر، بأنه نشأ في بروكلين، نيويورك، الولايات المتحدة الأميركية. وبعد أن قضى فترة من العمر خارج البلاد مع مكتب البحرية الأميركية التابع للمخابرات البحرية، عاد إلى أميركا عام 1946، حيث عمل صيدلانياً يجني 65 دولاراً أميركياً في الأسبوع. قال: «ربَّيت أنا وزوجتي تشارلوت طفلين، في عالم كان مختلفاً عمّا هو عليه الآن».

قابل جابلين، في أثناء وجوده بالخارج، صاحب مصنع نسيج ألماني، طلب منه أن يُدخل ماكينات صناعة الدانتيل إلى السوق الأميركي. حقق الكابتن في النهاية، جراء ذلك التعاون، نجاحه الشخصي في مجال صناعة الدانتيل بعد ذلك. ومنذ ذلك الحين، انتقلت صناعة الدانتيل من أوروبا إلى أميركا والصين، حيث العمالة الزهيدة، ولكن تمكنت شركته من البقاء على قدميها.

تقاعد كابتن جابلين عام 1989 وترك تجارته بين يدي أحد أحفاده، ويبلغ الآن من العمر 42 عاماً (ما زالت شركته تملك 45 ماكينة، من أصل 70 ماكينة تنتج الدانتيل في أميركا).

حب مشترك للبحر

يقول جابلين: «كانت زوجتي، تشارلوت، تسافر معي دائماً، ولكم كونّا صداقات مع أزواج وطواقم سفن». كان كلاهما عاشقاً للرحلات البحرية، فقد أبحرا عبر عدد من خطوط الرحلات البحرية أكثر من نصف قرن.

عندما تقاعد أحد أفراد طاقم سفينة، كانا يعرفانه، من خط ملاحي آخر، ليبحر بيخته الخاص، نصحهما بتجربة السفر عبر خطوط شركة Radisson Seven Seas Cruises (التي كان اسمها Regent Seven Seas Cruises عام 2006). أبحر الزوجان على متن Seven Seas Mariner  وSeven Seas Voyager  مدة 5 أعوام. وفي عام 2000، قرر الثنائي تجربة السفر على متن Seven Seas Navigator، أصغر سفينة في أسطول Regent (تحمل أقل من 500 راكب).

بعد وفاة تشارلوت منذ 13 عاماً، قرر كابتن جابلين أن يجعل Seven Seas Navigator  بيتهما يزال يحتفظ بمسكن في بوكا راتون، بولاية فلوريدا الأميركية، ليحفظ فيه أشياءه، وليحافظ على تأمينه الصحيّ وضمانه الاجتماعي، ولكنه لم يطأ أرض المنزل منذ 3 أو 4 سنوات، بحسب قوله.

منذ نحو عام ونصف العام، بعد أن بدأ نظره يضعف، لم يعد الكابتن يستطيع الذهاب في رحلات إلى الشاطئ (باستثناء مواعيده الطبية من حين لآخر). يقول الكابتن إنه الآن كفيف بنسبة 90%، وإنه راضٍ بالقيود التي تفرضها عليه سنّه وصحته في أثناء حياته على متن سفينة تجوب العالم. قال جابلين: «لقد ذهبت وتشارلوت بالفعل إلى كل مكان».

وأضاف: «اعتدت شراء 4 صحف، وحلّ سودوكو والكلمات المتقاطعة، ولكني لم أعد أستطيع فعل ذلك أيضاً في العامين الأخيرين».

الالتزام بروتين مريح

يحافظ الكابتن على بساطة الأشياء من حوله. قال: «حياتي روتينية للغاية، ولكنها مريحة». يستيقظ مبكراً، ويتناول فطوره في غرفته. ويتناول الغداء والعشاء على الطاولة الركنية في غرفة الطعام الرئيسية، ويقدّر أنها دائماً مُعدة بالطريقة نفسها، بحيث لا يجد صعوبة في العثور على الملح.

قال: «الطعام رائع بشكل عام، ولكني أفضّل تناول سمك (دوفر سول) في الوجبتين، كل يوم». إنه يأكل وحده، لأنه يعرف أن مهارته في تناول الطعام لم تعد مثلما كانت من قبل.

أصبحت هذه السفينة بيته طوال 13 عام / شبكات اجتماعية

إنSeven Seas Navigatorهي سفينة فاخرة الأجنحة. لقد زودت السفينة مكان الإقامة ببعض التجهيزات، لجعل الأمور أسهل بالنسبة للكابتن، أحد أكثر ركابها ولاءً. قال الكابتن: «لقد زودوا الغرفة بإضاءة أقوى، ودرابزين داخل الحمام، ومرآة حلاقة خاصة».

يتمرن الكابتن بانتظام، للحفاظ على رشاقته. إنه يعرف طريقه جيداً على متن السفينة، ويمشي ساعتين يومياً، في الدور السابع عادةً، حيث توجد المتاجر. قال: «أنا منتبه، لكيلا أمشي في مكان قد يسبب لي مشكلة. لا يوجد أحد في هذا الدور صباحاً، وبما أني رجل بَحرية سابق، فأنا أستطيع السير على السفينة بسهولة».

حين سألته هل كان يرتاد الكازينو الموجود بالطابق نفسه، أجاب: «لم أكن مقامراً قَط». إنه يستمتع، مع ذلك، ببعض الترفيه الموجود على السفينة، خاصةً العروض الموسيقية.

لا يزال يحافظ على الروابط الأسرية

على الرغم من الاستقلالية الشديدة التي يتمتع بها الكابتن، فإنه يحافظ على الروابط الأسرية. عندما تحط السفينة في ميامي، بفلوريدا، يصعد ابناه (64 و68 عاماً) على متن السفينة لرؤيته، وأحياناً بصحبة زوجتيهما، وأحفاده، وأبناء أحفاده. من حين لآخر، يزوره رفاق الماضي، على متن السفينة، الذين يتذكرهم من الأيام التي كان يسافر فيها بصحبة زوجته. إنه يسعد لرؤياهم. قال الكابتن: «في مثل سني، معظم أصدقائي قد ماتوا».

يتيح له هاتفه الجوال أن يبقى على اتصال بأسرته في الفترات بين الزيارات، كما أنه يحتفظ بجهازAmazon Alexa في غرفته، والذي يستخدمه مرة شهرياً ليسأل عن شيء، مثل المرة التي لم يكن متأكداً فيها إن كانت منغوليا دولة مستقلة أم لا.

يدرك جيداً الفجوة بين الأجيال

يأتي الناس أحياناً إلى طاولته للتحدث إليه، وهو يرحب بالمحادثات اللطيفة، ولكنه نادراً ما يبدأ ولو حواراً بسيطاً مع أحد الركاب. إنه مدرك تماماً لاختلاف الأجيال الذي بينه وبين معظم ركاب السفينة، الذين يقترب عمرهم من عمر أبنائه. الاستثناء الوحيد، هو أنه يشعر بالقرب الشديد من أفراد طاقم السفينة، وحتى إن الفنانين الذين يقدمون عروض الترفيه يشعرون بأنهم عائلته بشكلٍ ما.

عندما سألته هل كان سعيداً أم لا، أكد لي أن كونه هو من قاد حياته، هذا هو الأهم.

قال: «لم أكن أحقق نمط الحياة هذا في أي  مكان آخر. إذا احتجت ممرضة أو طبيباً، يأتي أحدهم لغرفتي في خمس دقائق». وأضاف: » إذا احتجت لأي شيء، يأتيني أحدهم في غضون 10 إلى 15 دقيقة، أياً كان الوقت من اليوم. لو لم أكن على السفينة، لاحتجت لشخص يعيش معي».

وقال أيضاً: «أين سأشعر بكل هذا الأمان، غير هنا؟ هل من حياةٍ أفضل من تلك التي يعيشها المرء متن سفينة».

لم تكن الحياة ستصبح أفضل من ذلك للرجل الذي عاش 13 عاماً على متن سفينة.

 

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version