تُعَد العلاقات الأمريكية السعودية من أكثر تحديات السياسة الخارجية الأمريكية إزعاجاً وإثارةً للانقسام في الوقت الراهن.
يقول دينيس روس المستشار في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في مقال نشرته وكالة وكالة Bloomberg الأمريكية إن المصالح الأمريكية تُحتِّم إقامة علاقات وثيقة مع المملكة، لكنَّ القيم الأمريكية تعارض ذلك.
لماذا يرفض ترامب معاقبة السعودية على جرائمها؟
فبالنسبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب -الذي يتمثل اهتمامه الأكبر في الصفقات- من السهل للغاية التركيز على مبيعات الأسلحة والنفط، دون الاهتمام بشيءٍ آخر.
أمَّا الكونغرس، فيرى أنَّه يجب أن يكون هناك ثمنٌ لمقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي، وكذلك خوض الحرب في اليمن. لكنَّ البيت الأبيض منع محاولات الكونغرس لمعاقبة السعوديين، بما في ذلك محاولة إنهاء كل الدعم العسكري الأمريكي للسعودية في حرب اليمن.
واستخدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الثلاثاء 16 أبريل/نيسان، حق الفيتو ضد قرارٍ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي الذي كان سيجبر إدارته على إنهاء الدعم العسكري للمملكة العربية السعودية في حربها باليمن.
وتُعَدُّ هذه هي المرة الأولى التي يلجأ فيها الكونغرس إلى قرار سلطات الحرب الذي صدر عام 1973 (ويشار إليه في كثير من الأحيان باسم «قانون سلطات الحرب»)، والذي يحد من قدرة الرئيس على تكليف القوات الأمريكية بمهام في الخارج دون موافقة الكونغرس.
تاريخ طويل من غض الطرف عن القمع
وعلى الصعيد التاريخي، غض رؤساء أمريكيون -سواءٌ أكانوا ديموقراطيين أو جمهوريين- الطرف عن سياسات المملكة العربية السعودية القمعية، مقابل ضمانات استقرار سوق النفط.
ولكن دينيس روس يقول إن هناك شيئين مختلفين في الوقت الحاضر: أولهما أنَّ هناك إجماعاً واسعاً في الكونغرس على أن السعوديين جاوزوا المدى، وأنَّ الإدارة التي تحميهم مُخطئة.
وجاء قرار الكونغرس رغم التأثير غير العادي لجماعات الضغط السعودية.
فوفقاً لتقريرٍ جديد صادر عن مبادرة شفافية التأثير الأجنبي، ذكرت شركات مُسجَّلة بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب أنَّها تلقَّت أكثر من 40 مليون دولار من المملكة العربية السعودية في العامين الماضيين 2017 و2018. واتضح أنَّ هناك أفراداً في جماعات ضغط سعودية وخبراء سعوديين في العلاقات العامة تواصلوا مع نوابٍ في الكونغرس ومسؤولين في السلطة التنفيذية ووسائل الإعلام والمؤسسات الفكرية أكثر من 4 آلاف مرة.
وركَّزت معظم مجهودات هؤلاء الأفراد على ضمان استمرار مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية بلا انقطاع، ومنع إجراءات الكونغرس التي من شأنها إنهاء الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.
السعودية قادرة على خلق إرباك كبير في سوق الطاقة
يقول دينيس روس أحد إنَّ الكثيريين يقولون إن الولايات المتحدة أصبحت مكتفية ذاتياً من الطاقة على نحوٍ متزايد وتشتري قدراً ضئيلاً من النفط السعودي، مما يجعل الكثيرين في الكونغرس يعتقدون أنَّ مخاطر تدهور العلاقة مع السعوديين أقل بكثير من ذي قبل.
ولكنه لفت إلى أنَّ قطاعات الطاقة هي نفسها مشتركةٌ على مستوى العالم، وأنَّ أي إرباكٍ كبير في أسواق النفط بسبب التهديدات أو عدم الاستقرار في المملكة العربية السعودية سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار أمام الأمريكيين وجميع شعوب العالم.
وكان الفيتو الذي استخدمه ترامب قد أثار انتقادات واسعة في الكونغرس.
وغرّد السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز الراعي الرئيسي لمشروع القرار في مجلس الشيوخ أن فيتو ترامب «محبط لكنه غير مفاجئ».
المشكلة أن المملكة في خضم تحول خطير.. الدين لم يعد محركاً
هناك عاملٌ معاكس آخر في الصراع بين المصالح والقيم حول العلاقات مع المملكة يجب أخذه في الاعتبار: وهو أنَّ المملكة العربية السعودية في خَضَمِّ تحوُّل أساسي في مجتمعها ومصادر شرعية النظام، حسبما يرى روس.
صحيح أن النظام الملكي يحتفظ بكامل السلطة السياسية، لكنَّ القومية والتحديث تحلان محل الوهابية -التي تُمثِّل تزمتاً غير متسامح للإسلام حرَّض تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية والتفجيرات الأخيرة في سريلانكا.
وهذه هي العقيدة التي تقاتلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في جميع أنحاء العالم.
وقائد هذا التغيير هو الأمير محمد بن سلمان، الذي يشن ثورةً من الأعلى تُضعِف الأيديولوجية الإسلامية المتطرفة بعدة وسائل، من بينها إطاحة عدة آلاف من رجال الدين وعشرات القضاة الذين يُعتبرون متعاطفين مع تنظيم القاعدة.
فالسعودية تغيرت بالفعل
وجديرٌ بالذكر أنَّ التغييرات الاجتماعية الناشئة في المملكة العربية السعودية واضحة لأي زائر، حسبما يقول الكاتب الأمريكي.
فالرجال والنساء يختلطون في المطاعم، والنساء بارزات في الشركات أو المكاتب الحكومية، ودور السينما مفتوحة، وكذلك يجري الآن تشغيل الموسيقى -التي تُعَد محظورة في التفسيرات الوهابية الصارمة- سراً وجهراً في حفلاتٍ موسيقية تجذب الآلاف.
وحتى القصور الملكية أصبح بها مراحيض نسائية، بعدما كان كل ذلك غير قابل للتصور في الماضي، حسب قوله.
ولكن هل قطع الرؤوس يتفق مع القيم الأمريكية؟
واستدرك قائلا: لكن مع الأسف، فالاستبداد، وقطع الرؤوس أمام عامة الناس، وقمع المعارضين -بما في ذلك الاعتقالات وربما تعذيب النساء الناشطات- كلها أمور تعارض قيمنا.
لذا يؤكِّد الكثير من منتقدي السياسة السعودية الأمريكيين عميقي التفكير أنَّه يجب على الولايات المتحدة تجنُّب التعامل مع بن سلمان، ورفض الفكرة الوهمية القائلة بأنَّه ديكتاتور مُحدِّث.
ويقول «لكن بصفتي عائداً للتو من المملكة العربية السعودية، صُدِمت بما يبدو أنَّهما عالمان مختلفان تماماً. فما زال التحمُّس لبن سلمان حقيقياً، لا سيما بين الشباب الذين يمكنهم الآن التحدث بصراحة عن قدرتهم على تشكيل مصائرهم ومصير البلاد.
والسعوديون الذين تحدَّثت إليهم -سواءٌ كانوا صغاراً أو كباراً- مستاؤون بشدة من انتقادات الكونغرس لبن سلمان، ويشعرون بأنَّ المملكة العربية السعودية ستتجنَّب التعامل مع الولايات المتحدة، إذا بادرت الولايات المتحدة بتجنُّب المملكة.
السعوديون يلوحون بمقاطعة أمريكا
ونظراً إلى أنَّ القومية صارت الآن من ركائز دعم النظام السعودي، لا ينبغي لنا أن نتفاجأ من رد فعل عكسي كهذا.
وربما يقصدون ذلك بالفعل، لكن هل هذا واقعي؟ تعتمد الأسلحة السعودية والبنية التحتية العسكرية والتدريب العسكري في المملكة على الدعم العسكري الأمريكي.
بينما تتجاوز الاستثمارات التي تملكها السعودية في الولايات المتحدة 800 مليار دولار. وكذلك فالغالبية العظمى من الطلاب السعوديين وأفراد أسرهم في الخارج البالغ عددهم 190 ألف شخص يقيمون في الولايات المتحدة، ويعودون إلى بلادهم بارتباطٍ غريزي بأمريكا.
ولعل أبرز مثال على ذلك هو أنَّ معظم وزراء المملكة الذين يزيد عددهم على 30 تخرَّجوا في جامعاتٍ أمريكية. وربما يكونون غاضبين من الانتقاد الموجه لبلادهم، لكنَّهم متعلقون طبيعياً بالولايات المتحدة.
ماذا لو تخلت السعودية عن استخدام الدولار في تجارتها النفطية؟
وعلى المنوال نفسه، ما مدى سهولة أن تتجنب الولايات المتحدة التعامل مع السعودية حقاً؟ وحتى لو كان الأمريكيون سيقللون من شأن التداعيات الأمنية، مع أنَّهم ينبغي ألَّا يفعلوا ذلك، فهل هم على استعدادٍ لجعل السعوديين يتوقفون عن الإصرار على إتمام جميع الصفقات النفطية بالدولار؟ وإلى متى ستصمد سيطرة الدولار على 70% من إجمالي معاملات التجارة العالمية إذا تغيَّر ذلك؟، وتخلى السعوديون عن استخدام الدولار في تجارة النفط.
تجدر الإشارة إلى أن وزير الطاقة السعودي خالد الفالح أعلن أن الرياض مستعدة لتلبية طلب مستهلكي النفط عن طريق إحلال الإمدادات الإيرانية بعد أن تنهي الولايات المتحدة الإعفاءات الممنوحة لمشتري الخام من إيران.
كيف يجب أن يدير ترامب العلاقات الأمريكية السعودية في ظل هذه التوازنات؟
يرى روس أنه في ظل عدم وجود مصلحة قومية لدى أي طرف في تجنُّب التعامل مع الآخر، تكمن المشكلة في كيفية إدارة كل طرف للعلاقة الآن.
إذ يجب على إدارة ترامب أن تكون صادقة مع الكونغرس والسعوديين، وتقول صراحةً: سنظل ملتزمين بالأمن السعودي والاستثمار في جهود المملكة لتحويل البلاد، حتى وإن أوضحنا أننا سننتقد ما نعتقد أنه خطأ.
فقتل المعارضين وتحدي المبادئ العالمية له عواقب. ورفض النقد المحلي سيقوِّض الأهداف المتمثلة في بناء اقتصاد قائم على المعرفة، ومجتمعٍ ريادي جريء مُخاطِر.
يقول روس «صحيحٌ أنَّ مواجهة المتطرفين الإسلاميين الإيرانيين والسُنَّة أمرٌ ضروري، لكنَّها تحتاج إلى تنسيق لتجنُّب سياساتٍ متهورة غير مدروسة».
ويضيف «ستحتاج واشنطن كذلك إلى مساعدةٍ من السعوديين تتضمَّن أن يكرر بن سلمان تصريحاته بأنَّ مقتل خاشقجي كان «جريمة بشعة»، ويشرح الدروس المستفادة والتغييرات الهيكلية التي حدثت بسببها.
https://www.youtube.com/watch?v=runYPf4Q2g8
وعلى الناحية الأخرى، يجب على السعوديين السعي إلى إجراء نقاش هادئ مع قادة الكونغرس لسماع انتقاداتهم والرد عليها والتعبير عن آرائهم.
ويقول روس «سواءٌ أحببنا ذلك أم لا، فسياسات السعوديين سيكون لها تأثير كبير في ما يحدث في الشرق الأوسط. ولا يمكن لأمريكا تجنُّب التعامل معهم».