غريب أمر هؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون، لا دين يردعهم فهم منافقون مارقون، ولا قِيَم تضبط سلوكهم فهم مخادعون مُنحطّون، ولا حقيقة بها يلتزمون فهم دجّالون كاذبون، ولا شجاعة يمتلكون فهم جبناء مُدّعون، ولا يوجد في وجوههم ماء يُريقون، وليس لهم حياء فهم لا يخجلون، ولا على شَرف يحرصون، هم امتلكوا أكاذيب اللسان وأفانين البيان وأخلاق الوضيع الجبان، فلا هم إلى وطن ينتمون، ولا على عرض يُحافظون، ولا لكرامة ينتصرون، ولا من عقاب الله العادل يخشون، الوطن، الأهل، القيم، الأخلاق، الآخرة، كلّ هذه الأشياء لا وزن لها عندهم فيما يفعلون، وللحصول على المال كلّ شيء عندهم يهون.

ولكن ما يزعجني أنا شخصياً، ويوتر أعصابي، ويرفع الضغط في دمي، ويضعني في موقف المتحفز للشجار، في هذا الجو الغريب، الشاذ المتنافر هو سماع أولئك الذين يتربعون اليوم على مقاعد مكاسبهم المادية، وما اقتنصوه بالعلن أو الخفاء، من خلال مناصب استلموها، أو تجارة احتكروها، أو أعمال تهريب مارسوها، أو توسلٌ مطلق نافذة صغيرة وفرّت لهم مجال التسلل إلى المواقع الدسمة في هذا المكان أو ذاك، ولحس ما غرفته أصابعهم من تحت الطاولات، وما علق على أكمام قمصانهم من دسم صحون الموائد، وما اشتهته أنفسهم، وجاء موّضباً بالحقائب، أو ملفوفاً بأوراق دفاتر الشيكات، وكانوا حتى وقت قريب في صف الصامتين المتنعمين بما جنوه بعرق جبينهم، أو عرق…؟

كانوا يحنون ظهورهم، ويلوون أعناقهم، ويسبّلون أجفانهم، وتقصف ركبهم، ويتحدثون بصوت مرتجف في حضرة أصغر مسؤول من المسؤولين... هؤلاء هم اليوم نجوم الأزمة الذين يظهرون على بعض الفضائيات العربية والأجنبية كعاملين جدد فيها أو ضيوف على شاشاتها… وهم الذين تربوا وتربعوا وعاشوا النعيم في أحضان النظام السابق… وطبّلوا وزمروا له، وأشادوا بإنجازاته… وصفقوا وهتفوا لـ”انتصاراته”، وقبضوا مقابل ذلك المناصب والمواقع والجاه والأموال والرشا… وكانوا حين ينتقد البعض النظام ولو قليلاً، يصبون عليهم جام غضبهم واستنكارهم، ويتهمونهم بالخيانة ليس للنظام فحسب، بل للوطن، لأن الوطن والنظام كانا لهم واحداً…

وفي سياق الاستعجال والارتهان والارتزاق يضيقون ذرعاً بالنقد، ولا يستطيعون التسامح معه أبداً، لأنهم على قناعة بأنه سيكشف طبيعة علاقتهم بالرجعية القطرية، وبالامبريالية الغربية، ولأنهم ينطلقون من استبداد، وأحادية، وإنكار للآخر.

ويا ليتهم ظلوا صامتين متنعمين، ولم يركبوا موجة الموديلات الجديدة، والصرعات الجديدة، من نقد، وتعارض… وتسفيه، بدءاً بالحديث عن أخطاء، ومفاسد وتجاوزات، ارتكبت في المراحل السابقة واللاحقة، وكأنهم منها براء، أو أنهم بالحديث عنها، والعمل على تضخيمها، يحاولون إيهام الناس، أو على الأقل من لا يعرفهم، بنظافة أكفهم، ونقاء سريرتهم، ومظلومية أحوالهم، وما عانوه في سبيل الإصلاح، وتقويم الاعوجاج، والسير على الصراط المستقيم. 

وهم في الحقيقة والواقع، وما تشير إليه ثرواتهم، التي أبت إلا أن تطل برأسها… إما أنهم كانوا أكثر الناس استفادة وربحاً من أخطاء وتجاوزات هذه المراحل… وإما أنهم شاركوا فيها بكامل مجامع قلوبهم، ومجامع أيديهم، ومجامع جيوبهم، ومجامع ألوان حبر أقلامهم، ومن المعيب رفع رؤوسهم في هذه الظروف.

وإذا كنت في هذا السياق أستثني أولئك الأبطال الذين امتطوا المنابر البعيدة… والفضائيات القذرة… خيول سباق ومطاردة لملاحقة دجاجة باضت، ولم يشاركوا بأكل قشرة بيضتها، ويسفهون مرحلة كاملة من الإنجازات على أساسها، إن ما أعنيه ليسوا هؤلاء، بالتأكيد… بعد أن حسموا أمرهم كلياً… وباعوا أنفسهم لمن هو أكثر دونية وسفالة من شيطان (فاوست).

إن ما أعنيه، وما أهدف إليه، هم أشخاص مازالوا يعيشون بيننا… في قرانا، وفي مدننا، يثغون كالحملان في مكان، وينهشون كالذئاب في مكان آخر… ويتخذون من أحاديثهم الملوّنة بأصباغ النكد والشماتة… أسلوباً يتماشى تماماً مع رغباتهم، في استنساخ أنفسهم بأنفسهم… ولكن بهياكل جديدة، وملامح جديدة، بانتظار الفرصة المناسبة التي تمكنهم من دخول نادي أو الوجهاء… طالما يملكون العدة اللازمة، كالمال، وتصنع الكياسة، وإجادة استخدام أساليب ”التلوّن”… أو دخول نادي المعارضة من خلال نبش أخطاء الماضي… التي يعرفونها جيداً بحكم مشاركتهم في إدارتها، والأكل من طبقها، والارتزاق باسمها، ناسين، أو متناسين أن هذه الأخطاء ما كان لها أن تكون لولا وجودهم، ووجود من هم على شاكلتهم في قلب معدتها الهاضمة.

مع ذلك، ومع معرفتنا بهذه الأخطاء… إلاّ أن ذلك لا يمكن أن ينسينا، أو يمنعنا من النظر بعين الفخر والإعجاب إلى مجموع الانجازات العظيمة والرائعة التي تمت في العهد الجديد بعد نجاح الثورة المباركة، والتي يوجهون إليها اليوم سهام الانتقاد، وربما سهام الاقتلاع من الجذور… بهدف كنسها عن وجه الأرض وبناء المغاور والكهوف بدلاً عنها. وإذا كانت أحوال هذه النماذج اللولبية المتسلقة تختلف من حيث الشكل والمضمون عن تلك التي باعت نفسها للشيطان… وإن كانت تجاريها بالطمع، وحب السلطة.

نعود إلى الثوار الجدد الذين يحزنهم النموذج المصري، دونما كل نماذج الثورات العربية، والتي انتهت بكل دولها إلى الانهيار والفشل، لكنني فقط أتساءل: هل نجحت النماذج التي أعجبت الثوار وتحذر (إما النصر أو مصر) أن تشيد 17 مدينة ذكية ورصف آلاف الكيلومترات من الطرق الحديثة وحفر قناة عملاقة؟ هل نجحت في بناء أربعة أنفاق عملاقة تربط غرب مصر بشرقها لأول مرة؟ هل أنشأت أكبر جسر معلق في العالم بعرض 64 متراً ليدخل موسوعة جينيس؟ هل نجحت تلك النماذج في القفز من إنتاج 22 ميغا وات كهرباء إلى 48 ميغا وات، وأن تتحول من شح الكهرباء إلى تصديرها؟  

هل نجحت في تطوير أكبر مساحة عشوائيات في التاريخ الحديث، ونقل سكانها من العيش المزري إلى الحياة الكريمة؟ هل نجحت في إدارة مشاريع عملاقة استوعبت مواطنيها بدلا من الموت على شواطئ أوروبا؟

هل نجحت في القضاء على طوابير الخبز المذلة وشح السلع التموينية؟ هل استطاعت أن تحقق الأمان والسلام على جنباتها؟ إذا كان الحاكم الذي يحظى باحترام العالم ـ إلا من انقطعت أطماعهم في مصر ـ هو الديكتاتور المستبد في نظر الثوار، قد صنع كل ذلك في بلده، وخلال ست سنوات فقط، وتحت قصف إعلامي مبتذل وغير مسبوق، موجه من 17 فضائية، و80 موقعاً إخبارياً وآلاف من الكتائب الإلكترونية المعادية؟

إذن أي معارضة ستكون أشرس من ذلك؟ وما المطلوب كي يحظى بشرف رضا الثوار؟ أعتقد أن مصر لم ينقصها الآن سوى العبث الثوري، والحراك التدميري، وعودة الحياة السياسية للفوضى… وهنا ستكون النموذج الأمثل للثوار، ولو نجح تجار الشعارات وسماسرة السياسة في بناء جسر أو شق طريق واحد سأرفع لهم القبعة.

وإذا كان هؤلاء المنغمسون في العمالة حتى شعور رؤوسهم، ينصاعون إلى أوامر أسيادهم الذين يعيشون على فتات موائدهم، ويتقاضون منه أجور عمالتهم ضد الوطن والمواطنين، فعليهم أن يعرفوا ويفهموا أن في مصر نظاماً وطنياً قوياً بشعبه وبقيادته، لم يقبل، ولن يقبل أن تملى عليه الأوامر من الخارج، ويرفضها مهما كانت طبيعتها، لأن أوامر الشعب المصري من قراره الحر المستقل، ومن خياراته الذاتية التي تضع المصلحة الوطنية والقومية فوق أي اعتبار.‏

كلمة أخيرة: إن الشعب المصري لن يمحى من الوجود كما يطمع أعداؤه ويفعل أغبياء وخونة من أبنائه، ولن يعدم الوسيلة للنهوض حتى لو طالت معاناته وشقي ببعضِ من ذاته، ولن يصاب بزلزلة اختلال المعايير والقيم والسياسات والترابيات إلى الأبد… إن شعبنا سيصحو، ويخرج من محنته، ويضع حداً للطامعين به والمعتدين عليه، ولمن أوقعه في المحنة ولمن يريد له أن يتقزم ويتأبد فيها… شعبنا لن يفنى ولن يهزم في حرب بين البُغاة والبُناة… فمصر تاريخ وحضارة، وثمرة العروبة والإسلام، بالمعنيين الخاص والعام، منذ آلاف السنين وإلى أبد الآبدين… حيث ستبقى تتجدد وتزدهر بعون الله وبقدرة أبنائه على الحياة.

 

 

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version