يمر تاريخنا الوطني والعربي في مرحلة اختبار عسير يتساءل المواطن خلالها بقلق عن البدائل الراهنة المفروضة والمرفوضة مع حالة الانزياح والانحراف التي يئن تحت وطأتها الشعب العربي. هذا الشعب وعلى امتداد ساحات الوطن والأمة يستنكر ويستغرب الحاضر العربي وهو يرى تحالف الإرهاب والرجعية والاستعمار ضد المصير والعيش المشترك، والتاريخ والمستقبل العربي.
إن محاولة قراءة الواقع، بكل تعقيداته وتشابكاته وعناصره المتعددة، ليس بالأمر الهين واليسير، على أعظم المفكرين والمثقفين والسياسيين والمؤرخين، لأن هناك حركات سرية لما يجري، تشبه حركة الطبقات الجيولوجية تحت الأرض، ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة... أكاد ألمسها بيدي، أكاد أراها بعيني… إنها تومض قليلاً، ثم سرعان ما تختفي… ووحدها فلسفة التاريخ يمكنها أن تقدم بعض الأدوات لقراءتها أو الكشف عنها. فما حدث ويحدث، يعني بما لا يقبل الشك أن التاريخ العربي قد انتكس وعاد إلى الوراء… عاد إلى عصور الجاهلية، المتزمتة، المتحجرة، وإن حركة التاريخ أكدت أن مشروع العرب الحضاري قد انتهى، فكرياً، وقومياً، وقد دخلنا بكل أسف مرحلة العصبيات والقصور العقلي والطفولة السياسية…
فكل الكتاب القوميين في العالم، وبخاصة القوميات التي نهضت وتحركت وركزت وجودها الحضاري والنهضوي اعتبرت التاريخ حافزاً للنهوض وتأكيد الاستمرار، إلا نحن العرب، فمن خلال ما نراه اليوم من حال العرب، نجد أن التاريخ يشكل عبئاً مملوءاً بالأثقال، توقفنا عند فسوخ هذا التاريخ القبلية والطائفية والمذهبية والقطرية، وتجاهلنا قوة هذا التاريخ في بناء وحدة الأمة وقوتها العلمية والحضارية والثقافية والتنويرية. والسؤال: ماذا فعل العرب النائمون على أسرّة النفط والدعة والكسل…؟
علينا في العالم العربي ألا نتفاخر بألق التاريخ العربي في أزمنة الفتوحات والنهوض العلمي والثقافي والأدبي والفلسفي، وانفتاح العقل العربي على مختلف الثقافات، وازدهار حرية الرأي والاجتهاد والإبداع في المجالات الثقافية والفلسفية والصوفية، والتباهي برقي أدب الغزل كما جاء في الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وفي أشعار عمرو بن أبي ربيعة وأبي نواس والوليد بن يزيد، وآخرين، وآخرين. أطالب بالتوقف عن التفاخر بهذا التاريخ المجيد، ليس لأنني أريد للأمة الانفصال عن تاريخها، فالتاريخ بمضمونه المضيء يشكل الحافز لبناء مستقبل مضيء، وإنما لأننا لا نستحق هذا التاريخ، لأننا لا نشبهه أبداً، ولم نحافظ عليه ولم نمسك بأطراف أثوابه. وكثيراً ما أتساءل: هل يا ترى نحن أبناء تاريخ آخر؟!
التاريخ بالنسبة للشعوب الناهضة منصة استمرار إلى الأمام وحالة تقدم في المجالات الإبداعية كافة، إلا نحن في العالم العربي. ففي العالم العربي لم نستفد من ألق الماضي، ولم نحاول جعله منصة للارتقاء في حياتنا المأزومة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً.
نحن في العالم العربي اليوم نعيش حياة لا صلة لها بهذا التاريخ، مأزومون، غارقون في فتاوى التحليل والتحريم، غارقون في البحث عن العورة وغير العورة في جسد المرأة، عن الحلال في زواج المسيار أو زواج المؤانسة أو جهاد النكاح، عن الحلال والحرام في الأدب… وأشياء أخرى كثيرة… باختصار إننا نجعل هوامش الأمور وتوافهها قضايا رئيسية. للأسف تراجع دور الفكر الحقيقي، ونهض دور الفكر المعتم… تراجع صوت الأمة العروبي، تراجع دور المثقف القومي والعروبي، وحل مكانه رجل التحليل والتحريم في كل شيء. يتساءل ”جاك بيريل” المستشرق الفرنسي، والمبهور بالتاريخ العربي والمفجوع بالواقع العربي الراهن: أنا معجب حتى الذهول بهذه الحضارة العربية الإسلامية التي قد لا تروقكم، نعم أنا مسكون حتى الفجيعة بهذا الشعب العربي الكبير، الذي يحاصر ويهان ويسحب من التاريخ على أقساط…!
ولا يخفي مرارته وغضبه فيقول: أنا أعيش ازدواجية عبثية تسلمني إلى ما يشبه الدوار، حينما أبقى جليس مكتبي، مع دواوين شعركم ومؤلفات حكمائكم وفلاسفتكم أرتقي إلى أعلى درجات التصوف والعشق الإلهي وحينما أزور عواصمكم وأتحدث مع سياسييكم أهبط إلى أدنى درجات الإسفاف والفجاجة، يخيل إليّ أنه لا يوجد إلا تفسير لفهم هذا التباين الصارخ: إما أنكم لا تستحقون هذه الرسالة الإلهية التي هبطت عليكم، وإما أن الرسالة ليست للبشر وإنما للملائكة.
السؤال الذي يؤرقني هو: هل أنتم معشر العرب، مطاردون بلعنة إبليس أم أنكم ممسوسون، تفرطون بكل مخزونكم الروحي والثقافي…؟ والحقيقة التي لا يمكن أن يحجبها غربال، أن علينا جميعاً أن نخجل من أنفسنا، نحن نعيش في زمن معتم جداً من صنع أيدينا. مشغولون بما يفرق، بما يشتت والعالم كله يتوحد، يتكامل يتواصل، يتفاعل… مشغوفون بالآخر، ننفذ أدواته ونشهر سيوفنا كأن كل واحد منا عنترة زمانه… وأمام الغزو الداهم لوجودنا ننكفىء، ننسى بطولاتنا، نلتمس للغازي ألف عذر وعذر.
وطننا العربيّ اليوم خراب هائل: حروب تلو حروب، وقتل يليه قتل ونهب للثروات والأعصاب يليه نهب، فننام على كارثة لنستيقظ على كارثة أخرى في زمن التجاذبات الإقليميّة والعالميّة. وهنا اليوم وبعد كلّ هذا المخاض العسير لهذه الأمة، وبعد أن انقشع الضباب، وتبيّن للقاصي والداني أن أمتنا العربية مستهدفة بحضارتها، وتاريخها، وثقافتها، وثرواتها وحتى في ثروتها البشرية، لا بدّ من أن تكون أهم الخطوات والأهم في مراجعة الذات، هي إعادة الاعتبار للثقافة العربية والمؤسسات التعليمية في عالمنا العربي، لأن الثقافة هي حصن الهوية المنيع، والتعليم هو صناعة أجيال المستقبل ولا بدّ لهوية ومستقبل الأوطان من تفكير وتخطيط وتنفيذ لاستراتيجيات ثقافية وتعليمية ناجعة تعيد للعرب اعتبارهم داخل أوطانهم وفي الإقليم والعالم.
إذ إن كلّ المعارك التي يخوضها العالم اليوم هي بالأساس معارك تعتمد على الفكر، سواء كان الحديث عن التقدم التقني والتكنولوجي، أو عن الصناعات الحربية، أو أي صناعات أخرى تخدم الإنسان، فإن الأصل هو ”الفكرة”، والأصل في كل منتج مهما كان نوعه وهدفه هو ”الفكرة”، ويقاس تقدّم الأمم اليوم بقدرتها على الإبداع، وبعدد الأبحاث التي تنتجها، وبعدد المبتكرات التي سُجلت باسمها، وبعدد الاختراعات التي قدمتها للإنسانية في مختلف المجالات.
إن عاملا مهما يلعب دوره في ”معادلة الهزيمة والنصر” ألا وهو ”إدراك متغيرات العدو”، ثغراته، نقاط قوته، اقتصاده، الصراعات في داخله، برامج أحزابه، استراتيجيته وتكتيكات سياسته، حدوده القصوى للحل، وغيرها من المفاصل المهمة التي تتبع التخصص. فإسرائيل تحتل المرتبة (17) من جهة البحوث المنشورة في العلوم البحتة والدراسات التطبيقيّة، فضلاً عن وجود (6) من جامعاتها في تصنيف أفضل (100) جامعة في العالم. هذه الحقائق والأرقام تدعونا للبحث والتساؤل، عن عوامل نجاح هذه المنظومة، ولعل أهمها تلك الميزانيات الضخمة التي ترصد للبحث. فميزانية التعليم في إسرائيل مثلا تعادلُ ميزانيات دول عديدة من الدول النامية. ناهيك عن أنها ترصد (8.2 في المائة) من إنتاجها القومي للبحث، في حين أن معدل الدّول المتقدمة هو (6.2 في المائة).
مما سبق ذكره، يجري استنتاج، مدى الحرص الرسمي الإسرائيلي على متابعة ما يجري في المنطقة العربية والإقليمية والعالم، مع إهمال رسمي عربي وإسلامي كبيرين، وإلى حد ما شعبي، لما يجري في الداخل الإسرائيلي، وبالفعل من يتابع توصيات مؤتمرات هرتسيليا وأبحاث معهد التخطيط، ومعهد دراسات الأمن القومي، ويتابع طبيعة المناقشات والكلمات والمداخلات فيها، يستطيع إلى حد ما استقراء السياسات الاستراتيجية والتكتيكية الإسرائيلية لأعوام مقبلة، وعلى المدى البعيد.
في عالمنا العربي والإسلامي، فإن المسؤول (إلا القليلين) هو أبو المعرفة في كل المجالات السياسية، الاقتصادية، البحثية والاجتماعية، لذلك تراه يحضر كل المؤتمرات في الوطن العربي وفي العالم. في عالمنا العربي لا نؤمن بالكفاءات ولا نقوم بتدريبها! في عالمنا العربي هناك نقص كبير في معاهد الدراسات المختصة بأمن الوطن العربي أولا، وبحقيقة الخطر الإسرائيلي أيضاً. في وطننا العربي نقص كبير مقارنة بكيفية دراسة إسرائيل لنا… في عالمنا العربي يملأ الحقد نفوس الحاقدين على كل كفاءة، وهم حصروا ويحصرون مهمتهم في تدميرها الفعلي، نحن أمة لا تحترم مفكريها ومثقفيها، وليس من عادتنا تقبل النقد!
وقبل أن نتمكن من تغيير هذا الواقع العربي، لا بدّ لنا من تغيير الطريقة التي نفكّر بها في مقاربة هذا الواقع. فالخطوة الأولى في عالمنا العربي والإسلامي التي يجب أن نبدأ بها، تكمن في إعادة جليل الاعتبار للفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين وللمؤسسات التعليمية، على أن يشكّل هؤلاء نخبة وطنية منيعة لا أن يجسّدوا أمراض مجتمعهم من شخصانية وفردية. والخطوة الثانية هي في إعلاء شأن الفكر الديني التوحيدي وإعلاء صوت المسلمين والمسيحيين المتنورين في وجه الظلاميين والتكفيريين، ومروّجي الإرهاب والعنف والجريمة من شيوخ النفاق والجهل والرجعية، وإدماج كل هذا في مؤسسات تربوية وتعليمية ناجعة وهادفة ترسم إستراتيجية مُحكمة لصياغة أبناء المستقبل وإعادة تشكّل الهوية الثقافية التي عانت من التدمير المادي والأخلاقي والقيمي في السنوات الأخيرة.
وثمة معركة أخرى لا تقلّ أهمية ولابدّ أن تبدأ على أيدي الوطنيين المتنورين العارفين الحريصين لتمحيص الواقع الثقافي والتعليمي والديني ووضع الأسس الكفيلة بالارتقاء به، من أجل وضع دعائم مستقبل عربي لا تهزه رياح الجاهلية ولا تتمكن حتى عواصف البغي والعدوان من اقتلاع جذوره. وهذا يتطلب أيضاً التغيير في المفاهيم القيمية في المجتمعات العربية والإسلامية والعودة إلى ما تربينا نحن عليه منذ عقود والذي كان يضع المعلم في منزلة القدّيس، والشاعر، والفنان، والخطيب، والمفكر، والمبدع، في موقع لا يقدّر بثمن، ولا يقارن بكلّ أثمان الدنيا الماديّة، تماماً كما تفعله اليوم الأمم المتقدمة.
إنّ دَور النخب الحقيقي هو اجتراح الطريق في الغابة، وتعليق الأجراس بأعناق النمور وليس القطط والكلاب والمتآمرين فقط! لكنّ الأمصال واللقاحات المغشوشة المستورَدة، التي يُحقَن بها هذا العربيّ دائماً تشلّ مناعته وتصيبه بـ ”أنيميا” حادّة في ذاكرته وضميره وشرايين ”عروبته”! فالتاريخ المجيد لا يصنعه مُخدَّر مأجور، أو عميل مرتزِق، أو متآمر دنيء، أو مجرم سفاح بحق ناسه وأبناء جِلدته، أو خائن لتراب الوطن، أو عِقال أبيض أو أحمر منقط صاحبه بالخزي والسقوط ونكران الجميل، الذي لا يمكن أن ينتمي لحبة تراب أو رمل في صحرائنا العربية بأية صلة، ولا حتى مختال متغطرس يتعثر بظله ولا يرى أبعدَ من سيفه أو صَولجانه أو عباءته أو أرنبة أنفه!
لكنّ عزوفنا عن قراءة التاريخ قراءة موضوعية معمقة، واكتفاءنا بمتابعة ”فبركات” الإعلام المضلل، وبالمنقول الشفاهي المشوّه، هما ما يُفقران مصدّاتنا ودفاعاتنا الذهنيّة ضدّ وابل التزوير وخبث النيات وانسحاق بعض الضمائر وتكلسها! والحق، فإنّ الحرب التي تُعلَن الآن وتُمارَس ضد أكثر من بلد، هي حرب معلنة بالفعل على العرب المؤجلين القادمين من أقصى المستقبل، والدور يماشيهم كظلهم بكل تأكيد، إن عاجلاً وإنْ آجلاً! ألم يقل شاعر عربي يوماً:
فإن يك صدر هذا اليومِ ولى فإنَّ غداً لِناظِره قريبُ
أعذروني إن كنت مستفزاً ومحرضاً ومتحدياً، لكن لا خير فينا ولا فيكم إن لم نقل كلمة الحق ونصغي لها… ما للمرء خير في حياة إذا عُدَّ من سَقَطِ المتاع، ولا خلاص لنا من ذلك إلا أن نطلِقَ هِمَمَنا التي إن انطلقت مع حوْلِ الله وقوته، حققت المعجزات، واقتحمت الأهوال والصعاب، وكانت أهلاً لوعد الله سبحانه وتعالى:
(ونريد أن نَمُنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)…