تدخين السجائر الإلكترونية انتشر بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة، وتضاربت التقارير حول أضراره مقارنة بالتدخين التقليدي، لكن لماذا تواجه «جوول – Juul» وهي أكبر شركة أمريكية للسجائر الإلكترونية مشكلة في توظيف العلماء والباحثين؟ ولماذا أمهلتها إدارة الغذاء والدواء الأمريكية حتى عام 2022 لإثبات أن منافع منتجاتها أكبر من أضرارها وإلا سحبت ترخيصها وحظرت جميع منتجاتها؟
نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قصة تفصيلية حول رفض العلماء والباحثين للعروض المالية الضخمة من الشركة، وألقت الضوء على مسألة التدخين الإلكتروني.
كان أليكس كارل يقدم بحثه حول تأثير دخان السجائر الإلكترونية على قلوب الفئران في مؤتمر جمعية القلب الأمريكية، عندما اقترب منه رجلٌ من شركة Juul للسجائر الإلكترونية، وبدأ في طرح الأسئلة.
أساليب توظيف مريبة
قال الدكتور كارل، وهو واقف إلى جوار ملصق لنتائج بحثه، بينما يستذكر مقابلة جيف فوجان، مدير قسم العلوم الطبية لشركة Juul في نوفمبر/تشرين الثاني: «لقد بدا مهتماً بصدق بالآثار الصحية لسجائرهم، قال إنَّهم كانوا يبحثون عن أشخاص للتعاون معهم، وإنَّ بوسعهم تقديم مقابل يصل إلى 200 ألف دولار».
بصفته أستاذاً مساعداً في علم وظائف الأعضاء بكلية الطب في جامعة لويفيل يبلغ من العمر 37 عاماً، وتفكيره منصب على مختبر أبحاثه، فقد شعر الدكتور كارل بالإغراء، وقال: «مئتا ألف رقمٌ كبيرٌ، (لشراء) الإمدادات والمعدات فقط، يمكن لهذا أن يعطيني دفعة للأمام».
لكن كارل رفض عرض شركة Juul، خوفاً من تلطيخ سمعته.
سيناريو متكرر
يتكرر هذا السيناريو في المؤتمرات الطبية والجامعات في أنحاء البلاد، حيث تقوم الشركة بتجنيد العلماء بقوة كي يثبتوا لإدارة الغذاء والدواء، وللجمهور، أنَّ سجائرهم الإلكترونية نفعها أكبر من ضررها الصحي. وإذا فشلت الشركة في تقديم أدلة مناسبة بحلول عام 2022، فيمكن للإدارة وقف جميع مبيعاتهم.
كان ممثلو الشركة يتعقبون الباحثين في مجال السجائر الإلكترونية خلال المؤتمرات، ممطرين المتحدثين برسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية طالبين الاجتماعات والمقابلات، ومقدمين مبالغ هائلة من المال للأكاديميين.
لكن حالات الرفض مثلما فعل كارل خلقت مشكلة مقلقة لشركة Juul، التي ساهمت منتجاتها الشهيرة للتدخين الإلكتروني (vaping) في ما وصفه مسؤولو الصحة بأنَّه وباء استخدام السجائر الإلكترونية وإدمان النيكوتين بين المراهقين؛ نظراً لأنَّ العديد من الباحثين رفضوا عروض الشركة المغرية، فقد اضطرت Juul إلى الاعتماد على العلماء الذين تربطهم علاقات بمجال صناعة التبغ، الأمر الذي يدمر مصداقية الشركة أكثر، ويجعل جذب محققين مستقلين عملية أصعب.
رفض متكرر وإلحاح
وقالت بليندا بوريلي، مديرة مركز أبحاث العلوم السلوكية في كلية Henry M. Goldman لطب الأسنان بجامعة بوسطن، وباحثة مخضرمة في مجال الإقلاع عن التدخين: «لقد واصلوا مراسلتي عبر البريد الإلكتروني مرة تلو الأخرى، لقد أرادوا مني إجراء تجربة لهم. بعثوا لي برسالة إلكترونية العام الماضي أيضاً، وأرسلوا لي رسالة إلكترونية في شهر فبراير/شباط، وأرسلوا لي في أبريل/نيسان.. ثم تركوا لي بعض الرسائل الصوتية».
لم ترد الدكتورة بوريلي على الشركة، وكذلك فعل معلم كارل، أروني باتناغار، الأستاذ بكلية الطب بجامعة لويفيل وهو أحد مديري برنامج أبحاث السجائر الإلكترونية التابع لجمعية القلب الأمريكية، ولا الدكتور مارتن تيبواكو، الطبيب المقيم بمستشفى St. Luke في بالتيمور، ولا الدكتور محمد حسن ميربولوك من كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز، وآخرون.
اتفاقات مع جامعات؟
تمكنت Juul من توظيف عدد قليل من العلماء البارزين، من بينهم إريك أوغستسون، الذي عمل سابقاً في المعهد الوطني للسرطان. وقالت ليندسي أندروز، وهي متحدثة باسم Juul، إنَّ الشركة ملتزمة بإجراء أبحاث على أعلى مستوى.
وقالت أندروز أيضاً إنَّ لدى الشركة اتفاقات لتمويل العمل في ثلاث جامعات أمريكية، لكنها لن تكشف عن الجامعات المعنية. وقال أشخاص كثيرون من الشركة إنَّ الجامعات خائفة من الجدل الذي سيثور إن كُشف عن أسمائهم.
تتفاقم أزمة شركة Juul بسبب الحظر المفروض من عدة جامعات على قبول التمويل من صناعة التبغ. تعتبر Juul نفسها شركة للسجائر الإلكترونية، لكن منذ بيع حصة 35% لشركة التبغ العملاقة Altria، صانعة سجائر مارلبورو، العام الماضي، فإنَّ بعض الجامعات ليست متأكدة من ذلك.
اعترفت أندروز بالمشكلة التي يمثلها تلقي استثمار من شركة Altria بقيمة 12.8 مليار دولار، وقالت: «لقد تسبب استثمار Altria في أقل من 50% من أسهم شركتنا في تضارب محتمل مع سياسات حظر التبغ في بعض المؤسسات، ونحن نعالج بنشاط تلك القضايا عند ظهورها»، مضيفة: «إننا بالتأكيد نتفهم الشكوك التي تأتي مع فئة مثلنا، خصوصاً في ضوء كيفية استخدام شركات التبغ التاريخية للعلم والمعلومات الخاطئة في الماضي».
وداخل Juul هناك قلق حول البرنامج العلمي. فقد اشتكى جيمس مونسيس، أحد مؤسسي الشركة، في الخريف الماضي للدكتور روبرت جاكلر، الأستاذ بمعهد وو تساي البحثي لعلوم الأعصاب في ستانفورد، من أنَّ علماء الأبحاث يرفضون عروض الشركة، وفقاً لما أكده جاكلر والشركة. (قال الدكتور جاكلر إنَّ الشركة لم تحاول تجنيده).
فقدان المصداقية
شعر باتناغار بالارتياح لأن تلميذه، الدكتور كارل، رفض المال. وقال إنَّ أعضاءً آخرين من فريقه رفضوا ما قدمته الشركة.
وقال باتناغار: «لن يكون لدى Juul مصداقية أبداً، ينتابني شعور سيئ حيال ذلك، لكن ما أجده أسوأ هو أنَّهم يحاولون استخراج المعلومات من طلابنا وزملائنا، وإغراءهم بقليل من الحلوى، حتى يتمكنوا من بدء حوار. إنَّه أمر مشين إلى حد ما».
منحت إدارة الغذاء والدواء برنامج باتناغار، الذي يضم باحثين في عدة جامعات، مبلغ 40 مليون دولار، لدراسة تأثيرات منتجات التبغ على القلب والأوعية.
هذا أحد المجالات التي تريد شركة Juul إجراء أبحاث فيه، إلى جانب كيفية استخدام الجهاز للإقلاع عن التدخين، وما هي النكهات الأكثر جاذبية للشباب، وعشرات الأسئلة الأخرى التي يجب على الشركة حلها قبل 8 أغسطس/آب 2022، وهو الموعد النهائي لتقدُّمها بطلب لإدارة الغذاء والدواء كي توافق على استمرار الشركة في بيع معظم منتجاتها بالولايات المتحدة.
أصبحت المهمة أكثر إلحاحاً. فقد اقترحت الإدارة مؤخراً تقديم الموعد النهائي عاماً، وهناك قضية معلقة في محكمة اتحادية يمكن الفصل فيها في وقت أقرب.
وينبغي على Juul الآن الإجابة عن بعض الأسئلة الصعبة المتعلقة بالسلامة لتحظى بموافقة إدارة الغذاء. ينبغي أن تثبت الشركة أنَّ منتجاتها توفر ما يُعرف بـ «صافي منفعة للصحة العامة«، وأنَّ فوائدها باعتبارها بديلاً للمدخنين البالغين تفوق مخاطر إدمان النيكوتين، وخاصة بين القُصر. وهذا يتطلب أدلة علمية قوية.
تمتلك Juul الآن أكثر من 70% من سوق السجائر الإلكترونية، وتوظف حوالي 2200 شخص في كل أنحاء العالم، وفقاً للمتحدثة باسم الشركة أندروز، التي تقول إنَّ من بينهم 65 إلى 70 باحثاً، بينهم أطباء، وآخرون حاصلون على درجة الدكتوراه، وإدارة الأعمال ودرجات الأخرى.
موقع للبحث العلمي؟
أطلقت الشركة مؤخراً موقعاً علمياً للترويج لمنحها البحثية الجديدة، لكن حتى الآن، لم تعلن Juul عن دراسات تمولها إلا مع مركز Centre for Substance Use Research، ومقره اسكتلندا، كما تتعاون مع عدد قليل من المختبرات المستقلة. وتلك المؤسسة التي يقع مقرها في العاصمة الاسكتلندية غلاسكو، التي أجرت معظم الأبحاث الخارجية لشركة Juul، معروفة جيداً لأنصار الحد من استخدام التبغ، الذين انتقدوا منذ فترة طويلة دراساتها للتقليل من خطر إدمان الشباب على السجائر الإلكترونية.
وتقول المؤسسة على موقعها الإلكتروني إنَّها قبلت خلال السنوات الثلاث الماضية تلقي أموال من شركات Juul وPhilip Morris International، وBritish American Tobacco، ومصنعي سجائر إلكترونية مثل NJoy. يزعم بعض النقاد أنَّ التمويل الذي تلقته المؤسسة من Juul ساهم في النتائج غير المعتادة لدراسة نشرتها في عدد الأول من مايو/أيار من دورية American Journal of Health Behavior.
وقال جاكلر من جامعة ستانفورد، الذي يدرس صناعة التبغ: «لم يعثروا أبداً على أي شيء يتعارض مع مصلحة شركة التبغ الراعية، العديد من النتائج التي توصلوا إليها تتعارض مع عدد كبير من الأبحاث العلمية المتقنة لمراكز مستقلة ذات سمعة طيبة».
استطلاعات رأي لخدمة العميل؟
وجدت الدراسة السلوكية الأخيرة التي أجراها مركز Centre for Substance Use Research حول انتشار التدخين الإلكتروني والتصورات الشائعة عنه، أنَّ حوالي 4% فقط من اليافعين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً قالوا إنَّهم دخنوا سجائر Juul الإلكترونية خلال الثلاثين يوماً الماضية، وأقل من 1% من الأطفال الأصغر سناً الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و14 عاماً فعلوا ذلك. وتوصلت الدراسة كذلك إلى أنَّ 45% فقط من المراهقين الأكبر سناً قد سمعوا عن شركة Juul قبل الاستطلاع.
تتناقض هذه النتائج مع ما توصلت إليه دراسة استقصائية أجرتها الحكومة الفيدرالية الأمريكية، والتي دفعت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية إلى اعتبار التدخين الإلكتروني بين الشباب وباءً. ذكرت هذه الدراسة أنَّ حوالي 21٪ ممن على مشارف التخرج في المدارس الثانوية استخدموا سيجارة إلكترونية خلال آخر 30 يوماً. لم يحدد الاستقصاء الذي أجري على التبغ بين الشباب العلامات التجارية، إلا أنَّ إدارة الغذاء والدواء أعلنت أنَّ منتجات Juul هي الأكثر شعبية في التدخين الإلكتروني بين المراهقين حتى الآن.
وقد عزا كريستوفر راسل، وهو عالم نفس ونائب مدير المركز الذي كتب المقال في الدورية مع مدير المركز، نيل مكجاني، وهو عالم اجتماع، التباين بين نتائج الدراستين إلى اختلاف المنهجيات. اعتمدت الدراسة الممولة من Juul على ملء المراهقين لاستمارة عبر الإنترنت من المنزل، في المقابل عبّأ الطلاب في دراسة الحكومة الأمريكية استبيانات ورقية في فصولهم الدراسية.
وقال راسل: «لا أقول إنَّ نتائج استقصاء التبغ بين الشباب غير دقيقة، بل أقول عندما نقيس مشكلة من زاويتين مختلفتين، نتوصل إلى تقديرين مختلفين. أعتقد أنَّ استقصاء الشباب حول التبغ تقييم قوي وذو مصداقية، وأعتقد أنَّ دراستنا قوية وذات مصداقية أيضاً».
ووجدت استطلاعات أخرى للمركز مولتها شركة Juul، أنَّ ما يقرب من نصف الـ12 ألفاً الذين اُستطلعت آراؤهم، قد أقلعوا عن التدخين باستخدام Juul، وأنَّ المراهقين الذين لم يستخدموا سيجارة إلكترونية قط كانت لديهم رغبة منخفضة للغاية في استخدام سيجارة إلكترونية بالنكهات الثماني التي تقدمها Juul.
الرفض مستمر من جانب الغالبية
لكن ذلك لم يبهر العديد من الباحثين الذين يتصل بهم أعضاء فريق البحث في Juul حتى الآن.
في الخريف الماضي، كان الدكتور محمد حسن ميربولوك يقدم دراسة في اجتماع جمعية القلب، توضح أنَّ المستخدمين المزدوجين للسجائر الإلكترونية والسجائر التقليدية قد يكونون أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. وقال ميربولوك إنَّ أحد ممثلي Juul اقترب منه واستخدم هاتفاً ذكياً لتسجيل محادثة، دون إذن، كان ميربولوك يجريها مع عالم آخر.
وأضاف ميربولوك: «سألني عن خلفيتي وأهدافي المهنية في المستقبل وخبراتي، أخبرته أنني سأبدأ العمل كطبيب باطنة مقيم العام المقبل، لذا سأل عن زملائي، وعما إذا كانوا مهتمين بالتعاون، وكيف يمكنه تزويدنا بالمعدات».
بعد فترة وجيزة اقترب موظف ثانٍ من Juul أيضاً، وطرح بعض الأسئلة حول ملصق استخدمه ميربولوك في عرضه التقديمي، ثم تفرع النقاش إلى قسوة الحياة في سان فرانسيسكو.
يضيف ميربولوك: «أوضح لي أنَّه يكسب أمولاً طائلة، وهو سعيد بالعيش في سان فرانسيسكو».