احتضرت الهيمنة الأمريكية في وقتٍ ما خلال العامين الماضيين، إذ كان عصر السيادة الأمريكية عصراً وجيزاً وعنيفاً استمرَّ لثلاثة عقود، وتميَّز بلحظتين اثنتين تُشير كلٌّ منهما إلى تعطُّلٍ من نوعٍ ما، إذ وُلد عصر «السيادة الأمريكية» إبان انهيار جدار برلين عام 1989. أما النهاية، أو بداية النهاية في الواقع، فكانت انهياراً آخر تمثَّل في انهيار العراق عام 2003، وما تكشَّف من أحداث منذ ذلك الحين.

ولكن، هل كان موت «المكانة المتفوقة» للولايات المتحدة -كما تسميها مجلة Foreign Affairs الأمريكية- نتيجةً لأسباب خارجية، أم أنَّ واشنطن ذهبت مسرعة إلى حتفها بسلوكها السيئ وعاداتها السيئة؟ سيكون هذا السؤال محل جدالٍ بين المؤرخين لسنوات قادمة، ولكن في هذه اللحظة من التاريخ، لدينا ما يكفي من الوقت والمنظور لذكر بعض الملاحظات الأولية.

احتضار الهيمنة
كما هو الحال في معظم حالات الوفاة، أسهمت العديد من العوامل في انتهاء مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنَّ هناك قوى هيكلية في النظام العالمي عملت بشكل حتمي ضدَّ أي دولة تراكم لديها هذا القدر من القوة، بحسب وصف Foreign Affairs، التي كانت متوفرةً لدى الولايات المتحدة.

غير أنَّ الحالة الأمريكية اشتملت على إساءة الولايات المتحدة لاستخدام هيمنتها، ونفوذها، وخسارة حلفائها، وتشجيع أعدائها عليها، من موقعها غير المسبوق. والآن، في ظل إدارة ترامب، يبدو أنَّ الولايات المتحدة فقدت الاهتمام، أو بالأحرى فقدت الإيمان، بالأفكار والغايات التي بعثت الحياة في حضورها الدولي لثلاثة أرباع القرن، بحسب المجلة.

«القرن الأمريكي»
كانت السيطرة الأمريكية على العالم في عصر ما بعد الحرب الباردة لا تُشبه أي شيءٍ شهده العالم منذ الإمبراطورية الرومانية. كما أنَّ الكُتَّاب مغرمون بالقول إنَّ فجر «القرن الأمريكي» بدأ عام 1945، وهي فترةٌ لا تبعد كثيراً عن التاريخ الذي صاغ فيه الناشر هنري لويس مُصطلح «القرن الأمريكي».

غير أنَّ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية كان مختلفاً تماماً عن عصر ما بعد عام 1989، إذ إنَّه حتى بعد عام 1945، كانت فرنسا والمملكة المتحدة ما تزال لديهما إمبراطوريات رسمية قائمة في أصقاع مُمتدة من العالم، وبالتالي كان ما يزال لديهما نفوذٌ عميق.

وبعد ذلك بفترة وجيزة، قدَّم الاتحاد السوفيتي نفسَه باعتباره قوى كبرى منافسة، وبدأ يُنازع واشنطن نفوذها في كل شبرٍ على سطح الأرض. ولنذكر في هذا الصدد أنَّ عبارة «العالم الثالث» مُشتقةٌ من تقسيم العالم إلى ثلاثة أجزاء: العالم الأول هو الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والعالم الثاني هو «الدول الشيوعية»، أما العالم الثالث فهو أي مكان آخر في العالم حيث كان على دُولِه أن تختار بين النفوذ الأمريكي أو النفوذ السوفيتي. وبالتالي فإنَّ الكثير من سكان العالم، من بولندا إلى الصين، لم يعتقدوا أنَّ القرن كان أمريكياً تماماً.

اكتشاف «التفوق الأمريكي»
الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش والرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في موسكو في عام 1991 / رويترز
الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش والرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في موسكو في عام 1991 / رويترز
يقول فريد زكريا -الصحفي والمؤلف الأمريكي ومقدم برنامج «فريد زكريا جي بي إس» الأسبوعي السابق على قناة CNN- إنه كان من الصعب اكتشاف التفوُّق الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أوَّل الأمر. وكما أشرت في مقالة بمجلة The New Yorker عام 2002، فإنَّ معظم الأطراف التي كانت على الساحة حينها لم تلحظ ذلك التفوُّق.

بل إنَّ رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر جادلت في عام 1990 بأنَّ العالم كان ينقسم إلى ثلاثة نطاقات سياسية، يحكمها الدولار والين والمارك الألماني. وتوقَّع هنري كيسنجر، في كتاب «الدبلوماسية Diplomacy» الصادر عام 1994، ظهور عصرٍ جديد مُتعدِّد الأقطاب.

وبطبيعة الحال، لم يكن هناك الكثير من التفاخر بالنصر داخل الولايات المتحدة الأمريكية. إذ اتَّسمت حملة الانتخابات الرئاسية لعام 1992 بمشاعر الضعف والسأم. وكثيراً ما ردَّد بول تسونغاس، الذي سعى إلى الترشُّح للرئاسة نيابةً عن الحزب الديمقراطي: «انتهت الحرب الباردة، وانتصرت اليابان وألمانيا». فضلاً عن أنَّ الأذرع الآسيوية كانت قد بدأت بالفعل في الحديث عن «القرن الباسيفيكي».

وكان هناك استثناءٌ واحدٌ لهذا التحليل، ظهر في مقالٍ تكهُّني نُشِرَ في صفحات مجلة Foreign Affairs للمُعلِّق المحافظ تشارلز كروثامر عام 1990، وحمل عنوان «لحظة القطب الأوحد The Unipolar Moment«. ولكن حتى هذه المحاولة لإبداء نشوة النصر كانت محدودة النطاق، إذ أشار عنوان المقال إلى أنَّ «لحظة القطب الأوحد ستكون وجيزة»، بحسب إقرار كروثامر نفسه. وتوقَّع كروثامر، في مقالٍ نشرته صحيفة Washington Post الأمريكية، أن تبدأ ألمانيا واليابان «القوتان العظميان الإقليميتان» الصاعدتان في تبني سياسات خارجية مُستقلة عن الولايات المتحدة خلال فترة قصيرة للغاية.

ورحَّب واضعو السياسات بخفوت لحظة القطب الأوحد، وهو الأمر الذي كانوا يتوقعون حدوثه في أي لحظة. وأعلنها جاك بووس، رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، بالتزامن مع بدء حروب البلقان في عام 1991: «هذه لحظة أوروبا. إذا كانت هُناك مشكلةٌ يمكن للأوربيين حلها، فهي مشكلة يوغوسلافيا. هذه دولةٌ أوروبية، ولا يجوز للأمريكيين البتُّ في أمرها». ولكن تبيَّن بعد ذلك أنَّ الولايات المتحدة وحدها هي من كانت تمتلك في يدها ما يلزم من القوة والنفوذ للتدخُّل بشكلٍ فعَّال والتعامُل مع الأزمة.

وعلى نحوٍ مشابه، حين ضربت سلسلة من نوبات الهلع اقتصادات شرق آسيا وأحدثت هبوطاً مفاجئاً في أسعار السوق مع حلول نهايات القرن العشرين، وقف الجميع -باستثناء الولايات المتحدة- عاجزاً عن إحداث استقرارٍ في النظام المالي العالمي. إذ رتبت الولايات المتحدة خطة إنقاذٍ دولية قدرها 120 مليار دولار للدول الأكثر تضرراً من الأزمة، مما أدَّى إلى حلِّ الأزمة. ووضعت مجلة Time صور ثلاثة أمريكيين على غلافها وكتبت أسفل صورهم عنوان: «لجنة إنقاذ العالم»، وهم وزير الخزانة الأمريكي آنذاك روبرت روبين، ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق آلان جرينسبان، ونائب وزير الخزانة الأمريكية لورانس سامرس.

بداية النهاية بعد صعود الصين
الرئيسان الأمريكي ونظيره الصيني في لقاء سابق/ رويترز
الرئيسان الأمريكي ونظيره الصيني في لقاء سابق/ رويترز
وصعدت الهيمنة الأمريكي أوائل التسعينيات في غفلةٍ من الجميع، بالتزامن مع صعود القوى التي قوَّضت تلك الهيمنة في أواخر التسعينيات أيضاً، والمفارقة هي أنَّ الناس بدأوا يتحدثون في هذا الوقت عن الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها «الدولة التي لا غِنَى عنها» و «القوة العظمى الوحيدة في العالم». وفي البدء جاء صعود الصين.

وبات من السهل علينا الآن ونحن ننظر إلى الأمور بأثرٍ رجعي أن نرى أنَّه كان من الواضح أنَّ بكين ستكون المنافس الخطير الوحيد لواشنطن، وإن كان هذا الأمر لم يكن واضحاً قبل ربع قرنٍ مضى. ورغم النمو السريع الذي شهدته الصين منذ الثمانينيات، لكنَّها حقَّقت ذلك من قاعدةٍ مُتدنية للغاية، ولم تنجح الكثير من الدول في مواصلة هذه العملية لأكثر من عقدين. وبدا المزيج الغريب بين الرأسمالية واللينينية في الصين مزيجاً هشاً، وهو الأمر الذي كشفته مظاهرات ساحة تيانانمن.

غير أنَّ صعود الصين استمر، وأصبحت بكين القوة العظمى الجديدة في التكتُّل، وهي قوةٌ لديها من المنعة والطموح ما يُضاهي الولايات المتحدة الأمريكية. وتحوَّلت روسيا من حالة الضعف والسكون التي كانت عليها في بداية التسعينيات، إلى قوةٍ «انتقامية ومُفسِدَة» لديها ما يكفي من القدرة والدهاء لتُعطِّل سير الأمور.

ودخل العالم مرحلة «ما بعد أمريكا»، في ظلِّ وجود طرفين دوليين كبيرين خارج النظام العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة. وما تزال الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة في العالم، غير أنَّها توجد وسط عالمٍ من القوى الإقليمية والدولية التي يُمكنها أن تتصدَّى للنفوذ الأمريكي، وكثيراً ما كانت تفعل ذلك.

وأدَّت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وصعود التطرف دوراً مزدوجاً في تراجع الهيمنة الأمريكية. وبدا أول الأمر أنَّ الهجمات قد حفَّزت واشنطن، ودفعتها إلى تعبئة قوتها، ولكن الولايات المتحدة اختارت في عام 2001 -حين كانت ما تزال أكبر اقتصادياً من الدول الخمس التي تليها مجتمعة- زيادة ميزانية الإنفاق العسكري السنوية الخاصة بها إلى مبلغٍ يفوق ميزانية الدفاع الكاملة للمملكة المتحدة سنوياً (حوالي 50 مليار دولار).

ونجحت واشنطن في حشد دعمٍ كبير لحملتها العسكرية من دول عدة، ومنها روسيا، حين تدخَّلت عسكرياً في أفغانستان. وبعد عامين، كانت لا تزال قادرةً على تشكيل تحالفٍ دولي كبير لغزو العراق، رغم الاعتراضات الكثيرة آنذاك. ومثَّلت السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين نقطة صعودٍ في سطوة الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ حاولت واشنطن إعادة تشكيل دولتين (أفغانستان والعراق) تبعدان عنها بآلاف الأميال، رغم أنَّ مواقف سائر دول العالم تراوحت بين الإذعان على مضض أو الجهر بالمعارضة.

العراق كان نقطة تحول بالنسبة لتراجع الهيمنة الأمريكية
وشكَّل العراق تحديداً نقطة تحول. إذ دخلت الولايات المتحدة في حربٍ من اختيارها، رغم تعبير سائر دول العالم عن توجُّسها من هذه الحرب. وحاولت الحصول على الضوء الأخضر من الأمم المتحدة لتنفيذ مهمتها، قبل أن تستغني عن المنظمة بأكملها حين اكتشفت صعوبة ذلك.

وتجاهلت عقيدة باول، التي صاغها الجنرال الأمريكي كولن باول الذي تولى قيادة الأركان المشتركة إبان حرب الخليج، والتي تنص على أنَّ الحرب غير ضرورية إلَّا حين تكون المصالح الوطنية مُعرَّضة للخطر، أو حين يكون تحقيق النصر المبين أمراً مضموناً.

وأصرَّت إدارة بوش على أنَّ التحدي العميق الذي يُمثِّله احتلال العراق يُمكن التعامل معه بعددٍ صغير من القوات، وبكل بساطة. وشاع القول بأنَّ غزو العراق لن يكلف شيئاً. وبمجرد دخول القوات الأمريكية إلى بغداد قرَّرت واشنطن تدمير الدولة العراقية، وحلَّ الجيش، وتطهير المؤسسات الحكومية، مما خلَّف حالةً من الفوضى وساعد في تأجيج حالة التمرد. وكان من الممكن التغلُّب على أي خطأ من تلك الأخطاء في حال ارتكابه بشكلٍ منفرد؛ ولكنَّها ارتُكِبَت معاً بما يضمن تحوُّل العراق إلى حالة فشل مُكلِّفة.

وفي أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول، اتَّخذت واشنطن قرارات ما يزال أثرها يُلاحقها حتى الآن، غير أنَّ كافة تلك القرارات اتُّخِذَت على عجلٍ وبدافعٍ من الخوف. إذ وجدت واشنطن نفسها في خطرٍ قاتل يدفعها إلى القيام بأي شيء مهما كان ثمنه، بما في ذلك غزو العراق، وإنفاق مبالغ لا تُعَدُّ ولا تُحصى على الأمن الداخلي، ووصولاً إلى استخدام التعذيب.

ووقف العالم بأسره ينظر إلى دولةٍ تعيش حالة الإرهاب التي عاش فيها العديد منهم لسنوات، ومع ذلك تتعامل مع الموقف «كأسدٍ جريح يُمزِّق بمخالبه التحالفات والأعراف الدولية». وانسحبت إدارة جورج بوش الابن، في أول عامين لها، من عددٍ من الاتفاقيات الدولية يفوق عدد الاتفاقيات التي انسحبت منها أي إدارةٍ سابقة. (وتجدُر الإشارة هُنا إلى أنَّ إدارة ترامب تفوَّقت على هذا العدد بفارقٍ كبير).

وحطَّم السلوك الأمريكي في الخارج السلطة الأخلاقية والسياسية للولايات المتحدة إبان فترة إدارة بوش، ليجد حلفاء الولايات المتحدة القدامى -مثل كندا وفرنسا- أنفسهم على خلاف معها حول جوهر وأخلاقيات وسلوك سياستها الخارجية.

عودة روسيا للساحة بقوة
تحوَّلت روسيا من حالة الضعف والسكون التي كانت عليها في بداية التسعينيات إلى قوة كبيرة على يد بوتين ورفاقه/ رويترز
ما السبب الذي أدَّى إلى تآكل النفوذ الأمريكي إذاً؟ هل هو صعود قوى أخرى أم التوسع الإمبريالي؟ وربما كان السبب هو كل ما سبق، على غرار ما يحدث في أي ظاهرةٍ تاريخية كبيرة ومُعقَّدة.

إذ مثَّل صعود الصين أحد التحوُّلات التكتونية في الحياة على الصعيد الدولي، وهو الصعود الذي كان من شأنه أن يُؤدِّي إلى تآكل نفوذ أيِّ دولة ليس لها منافس، مهما بلغت براعة دبلوماسيتها.

غير أنَّ عودة روسيا إلى الساحة كانت أمراً أكثر تعقيداً. نظراً لتصميم زعماء موسكو أوائل التسعينيات على تحويل بلادهم إلى ديمقراطيةٍ ليبرالية، ودولةٍ أوروبية، وحليفٍ للغرب بصورة أو بأخرى، وهذه بالطبع أمورٌ تلاشى أثرها بشكل كامل اليوم. إذ دعم إدوارد شيفردنادزه، وزير خارجية الاتحاد السوفيتي في أيامه الأخيرة، حرب الولايات المتحدة على العراق عام 1990-1991. في حين كان أندري كوزيريف، أول وزير خارجية لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ليبرالياً متحمساً وداعياً لتجاوز القوميات ومؤيداً قوياً لحقوق الإنسان.

لماذا خسرت الولايات المتحدة روسيا؟ هذا سؤال تحتاج إجابته إلى مقالٍ آخر. ولكن تجدر بنا الإشارة هنا إلى أنَّ واشنطن لم تأخذ مخاوف روسيا الأمنية على محمل الجد مُطلقاً، رغم أنَّها منحت موسكو بعض الاحترام والتقدير في صورة توسعة مجموعة الدول السبع إلى مجموعة الدول الثمانية مثلاً.

إذ قامت بتوسعة حلف الناتو بسرعة وحِدَّة في عمليةٍ كانت تُعتبر ضروريةً لدولٍ مثل بولندا، وهي دولٌ غير آمنة منذ زمن وتتعرَّض لتهديدات من روسيا، ولكن الولايات المتحدة فعلت ذلك دون أي اهتمام بحساسيات روسيا لدرجة أنَّها تعمل الآن على توسعة حلف الناتو ليشمل مقدونيا.

واليوم، تبدو جميع الخطوات التي تُتخذ ضد روسيا «مفهومةً ومبررة»، بسبب السلوك العدواني لرئيسها الحالي فلاديمير بوتين، ولكن علينا أن نسأل عن ماهية قوى التي أدَّت إلى صعود بوتين وسياسته الخارجية في المقام الأول. ولا شك أنَّ تلك القوى كانت داخل روسيا في المقام الأول، ولكن التصرفات الأمريكية بدت وكأنَّها سببٌ في الضرر، إذ ساعدت في صعود قوى الانتقام والنزعات القومية الموتورة داخل روسيا.

ويُعَدُّ توقُّف الولايات المتحدة عن الالتفات للدول الأخرى في لحظة القطب الأوحد، بمثابة أكبر خطأ اقترفته مع روسيا وغيرها من الدول. إذ كان الأمريكيون يرغبون في العودة إلى الالتفات لشؤون بلادهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد فعلوا ذلك بالفعل.

الهيمنة الخاوية
إذ ظلَّت الولايات المتحدة تُولي اهتماماً عميقاً للأحداث في أمريكا الوسطى، وجنوب شرق آسيا، ومضيق تايوان، وحتى في أنغولا وناميبيا، إبان الحرب الباردة، ولكن بحلول منتصف التسعينيات فقدت واشنطن اهتمامها بالعالم.

وانخفضت أوقات البث للمكاتب الخارجية في شبكة NBC من 1013 دقيقة في عام 1988، إلى 327 دقيقة في عام 1996. واليوم، تُخصِّص الشبكات الرئيسية الثلاث مُجتمعةً نفس الوقت الذي كانت تُخصِّصه كل شبكةٍ على حدة للقصص الإخبارية الواردة من المكاتب الخارجية في عام 1988.

وفقد البيت الأبيض والكونغرس شهيته لبذل جهود طموحة تُحدِثُ تحوُّلاً داخل روسيا إبان حكم إدارة بوش الابن، ناهيك عن الاهتمام بطرح نسخةٍ جديدة من مشروع مارشال، أو الانخراط بشكلٍ أعمق في شؤون البلاد.

وتعثر صُنَّاع القرار الأمريكيين وارتجلوا في أوج الأزمات الاقتصادية الخارجية التي ظهرت خلال عهد إدارة كلينتون، لعلمهم أنَّ الكونغرس لن يُخصِّص أيّ أموال لإغاثة المكسيك أو تايلاند أو إندونيسيا. ولم يُقدِّموا سوى النصائح التي لم تتطلب عادةً سوى مساعدةٍ بسيطة من جانب واشنطن، وكان سلوكهم أقرب ما يكون لشخصٍ يتمنى الخير من بعيد، وليس سلوك قوةٍ عظمى لها رأيٌ في الأحداث العالمية.

وكانت الولايات المتحدة تُريد إحداث تحوُّلٍ في العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى. وبدا ذلك ممكناً أكثر من أي وقتٍ مضى في التسعينيات. إذ كانت جميع الدول حول العالم تتحوَّل إلى الاتجاه الأمريكي، وبدت حرب الخليج وكأنَّها علامةٌ فارقة في النظام العالمي، لأنَّها اندلعت من أجل الحفاظ على «الأعراف الإقليمية» من وجهة نظر واشنطن، وكان نطاقها محدوداً، وحظيت بموافقة القوى الرئيسية، واكتسبت شرعيةً بحكم القانون الدولي.

ولكن الولايات المتحدة فقدت الاهتمام في أوج كل هذه التطورات الإيجابية. واحتفظ صُنَّاع السياسات الأمريكيين بالرغبة في إحداث تحوُّل عالمي، ولكن دون أن يتكبَّدوا كُلفة الأمر. ولم يكن لديهم ما يلزم من الموارد، أو رأس المال السياسي، لينخرطوا في الأمر بجدية. ويُعَدُّ هذا الأمر أحد الأسباب التي تدفع واشنطن إلى توجيه النصيحة ذاتها إلى الدول الأجنبية: العلاج بالصدمة الاقتصادية، وإحلال الديمقراطية فوراً.

ورفضت واشنطن أيَّ شيءٍ آخر أبطأ وتيرة، أو أكثر تعقيداً، أو يُشبه الطريقة التي تحوَّل بها الغرب نفسه إلى الاقتصاد الليبرالي والديمقراطية السياسية. وكان التكتيك الأمريكي المُتَّبع عند مواجهة التحديات، قبل أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، هو المواجهة من بعيد بموجب المنهج المزدوج المتمثل في فرض عقوبات اقتصادية وتوجيه الضربات الجوية القوية والدقيقة.

ولا شكَّ في أنَّ الخطاب الأمريكي لم يتغير بفعل القيود المفروضة على استعداد الولايات المتحدة لتكبُّد النفقات وتحمُّل الأعباء. لذا أشرتُ في مقالٍ، كتبته لصحيفة New York Times الأمريكية عام 1998، إلى أنَّ السياسة الخارجية الأمريكية تتَّسم بـ «أقوالٍ تدعو إلى إحداث التحول، وأفعالٍ تدعو إلى التأقلُم»، وهو ما أسفر عن «هيمنةٍ خاوية»، واستمرَّ طابع الخواء منذ ذلك الحين.

صعود ترامب.. الضربة القاضية للنفوذ الأمريكي
كان صعود الرئيس الأمريكي الشعبوي دونالد ترامب بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للنفوذ الأمريكي/ رويترز
كان صعود الرئيس الأمريكي الشعبوي دونالد ترامب بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للنفوذ الأمريكي/ رويترز
زادت إدارة ترامب طابع الخواء الذي سيطر على السياسة الخارجية الأمريكية. ويميل ترامب بطبيعته إلى أسلوب تفكير الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جاكسون، من حيث إنَّه لا يهتم بما يحدث في العالم إجمالاً، لكنَّه يعتقد أنَّ معظم الدول تحاول إلحاق الأذى بالولايات المتحدة.

وترامب رجلٌ قومي، وحمائي، وشعبوي، يُصِرُّ على وضع «أمريكا أولاً»، لكن الوصف الذي ينطبق عليه أكثر من أيّ شيء آخر هو أنَّه «غادر الساحة الدولية بالكامل». إذ انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، ومن المشاركة مع آسيا عموماً، في ظل إدارة ترامب.

إلى جانب انفصالها عن شراكتها الممتدة مع أوروبا منذ 70 عاماً. فضلاً عن تعاملها مع أمريكا اللاتينية في نطاقٍ يقتصر على منع دخول المهاجرين، أو كسب الأصوات بولاية فلوريدا، لدرجة أنَّها نجحت في مجافاة الكنديين، وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم، وفوَّضت أمر سياسات الشرق الأوسط إلى إسرائيل والسعودية. والأمر الأكثر وضوحاً في السياسة الخارجية لترامب هو «غيابها»، مع بعض الاستثناءات المُندفعة التي تتمثَّل في رغبته النرجسية في الفوز بجائزة نوبل، من خلال محاولة عقد معاهدة سلام مع كوريا الشمالية.

وتآكلت هيمنة المملكة المتحدة بفعل عديد من القوى الهيكلية، حين كانت القوة العظمى في زمانها، مثل صعود ألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. غير أنَّها فقدت السيطرة على الإمبراطورية البريطانية أيضاً، بسبب غطرستها وتوسُّعاتها الإمبريالية.

ولم تكن غالبية المستعمرات البريطانية في أوائل القرن العشرين، حين كان ربع سكان العالم تحت الحكم البريطاني، تُطالب بشيءٍ سوى الاستقلال المحدود -أي «حالة الدومينيون» أو «الحُكم الذاتي» بعبارات اليوم. وربما كانت المملكة المتحدة ستنجح في تمديد عمرها الإمبريالي عقوداً مُقبلة، في حال منحت تلك المستعمرات ما طلبته سريعاً. لكنَّها لم تفعل ذلك، وأصرَّت على مصالحها الضيقة والأنانية، بدلاً من التأقُلم مع «مصالح الإمبراطورية» الأوسع.

وتتشابه الحالة السابقة مع حالة الولايات المتحدة. فلو كانت واشنطن قد تصرَّفت بشكلٍ أكثر بالتوافق مع سعيها لتحقيق المصالح والأفكار الأوسع، لكان نفوذها قد استمر عقوداً (وإن كان ذلك بصورةٍ مختلفة).

الخلاصة
يقول فريد زكريا إن قاعدة توسيع الهيمنة الليبرالية تبدو بسيطة: كُن أكثر ليبرالية، وأقلَّ هيمنة. غير أنَّ واشنطن سعت وبشكل واضح لتحقيق مصالحها الضيقة، وهو ما باعد بين واشنطن وحلفائها، وزاد جرأة أعدائها. ولكن نهاية حقبة الهيمنة الأمريكية تختلف عن المملكة المتحدة، إذ ليست الولايات المتحدة مُفلسةً ولا مُفرطةً في التوسُّع الإمبريالي. وهي لا تزال الدولة الأقوى في العالم، وربما ستظل مُحتفظةً بنفوذٍ أكبر من أي دولةٍ أخرى، ولكنَّها لن تُحدِّد شكل النظام العالمي أو تُهيمن عليه كما كانت تفعل ما يقرب من ثلاثة عقود.

ولن يبقى من تلك الحقبة سوى الأفكار الأمريكية، إذ كانت الولايات المتحدة دولةً ذات هيمنةٍ فريدةٍ من نوعها، حيث وسَّعت نفوذها لإنشاء النظام العالمي الجديد الذي كان يحلم به الرئيس وودرو ويلسون، وبدأ تحقيقه على يد الرئيس فرانكلين روزفلت. وهو عالَمٌ خُلِقَ نصفه بعد عام 1945، ويُطلقُ عليه أحياناً «النظام العالمي الليبرالي»، وانشقَّ عنه الاتحاد السوفييتي ليبني عالمه الخاص.

غير أنَّ «العالَم الحُرَّ» صمد أمام الحرب الباردة، وتوسَّع بعد عام 1991 ليشمل معظم أرجاء العالم. وأسفرت أفكاره الخاصة عن «استقرارٍ ورخاء» دام على مدار ثلاثة أرباع قرن. والسؤال الآن هو: هل سينجو النظام العالمي الذي رعته الولايات المتحدة رغم أفول نجم النفوذ الأمريكي؟ أم أنَّ الولايات المتحدة ستشهد هي الأخرى تراجع إمبراطورية الأفكار الخاصة بها؟

المصدر:وكالات

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version