في العام 1936، جُنِدت هيلدغارد تروتز في الجيش الألماني، مع ضباط قوات شوتزشتافل (وحدات شبه عسكرية كانت مهمتها حماية الزعيم النازي أدولف هتلر) باعتبارها من المصنفات «نقية عرقياً» .
وكانت هيلدغارد جزءاً من برنامج مدعوم من الدولة يُدعى «ليبنسبورن» (ومعناها: ينبوع الحياة) وهي مبادرةٌ لمواجهة انخفاض معدلات المواليد في ألمانيا وإنجاب سلالة سائدة، وفقاً لعلم تحسين النسل من منظور النازية، فكانت تنجب من أعضاء هذه القوات.
وخلال السنوات الاثنتي عشرة من الرايخ الثالث، أي في الفترة بين (1933-1945) وُلد نحو 20 ألف طفل في ألمانيا والنرويج.
يسلط الصحفي والمؤرخ البريطاني جايلز ميلتون الضوء على تجربة هيلدغارد تروتز، ويكشف عن سبب رغبة هذه الشابة الألمانية في الإنجاب من أجل هتلر، وفقاً لما ذكره موقع History Extra البريطاني.
داعمة مخلصة للنازية
كانت هيلدغارد تروتز داعمة مخلصة للنازيين منذ تولِّي هتلر السلطة، إذ كانت قد انضمت إلى رابطة الفتيات الألمانيات (النسخة الأنثوية من منظمة شباب هتلر) في عام 1933، وكانت تصرح بأنها كانت مهووسة بأدولف هتلر وبسياساته.
سرعان ما أصبحت هيلدغارد شخصيةً بارزة في منظمتها بسبب شعرها الأشقر وعينيها الزرقاوين فكان يُشار إليها كخير مثال على المرأة الألمانية.
وفي عام 1936، عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها، أنهت هيلدغارد دراستها وكانت في حيرة بشأن ما يجب عليها فعله بعد ذلك، وعليه تحدثت مع أحد قادة رابطة الفتيات الألمانيات الذي قدم لها اقتراحاً سيُغير حياتها إلى الأبد؛ إذ قال لها: «إذا كنتِ لا تعلمين ما يجب فعله، فلمَ لا تنجبين طفلاً من أجل الزعيم هتلر؟ ما تحتاج إليه ألمانيا أكثر من أي شيء آخر هو مخزون عرقي ذو قيمة» .
عرفَت ما ينبغي عليها فعله بعد التخرج
لم تكن هيلدغارد على علمٍ بالبرنامج الذي ترعاه الدولة والمعروف باسم «ليبنسبورن»، كان البرنامج يهدف إلى زيادة معدل إنجاب الأطفال الآريين ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء من خلال التهجين. واختيرت النساء النقيات عرقياً، في رأي الألمان، لهذا الغرض على أمل أن يصبحن حوامل.
أوضح لها قائد الرابطة بالضبط كيفية عمل برنامج ليبنسبورن؛ إذ ستخضع لسلسلة فحوصات طبية، إلى جانب إجراء تحقيق شامل عن أصولها؛ إذ كان من الضروري ألا تكون لها أصول يهودية، وبعد تجاوز كل هذه المراحل بنجاح، يمكنها اختيار شريك جنسي من مجموعة من ضباط شوتزشتافل.
استقبلت هيلدغارد هذا الاقتراح بحماس شديد، إذ اعترفت لاحقاً قائلةً: «لقد كان اقتراحاً رائعاً»، واشتركت في البرنامج على الفور، ولأنها تعلم أن والديها لن يوافقا، أخبرتهما بأنها ستحصل على دورة داخلية في الاشتراكية القومية.
اصطُحِبت هيلدغارد إلى قلعة قديمة في ولاية بافاريا، بالقرب من بلدة تيغرنسي، كانت هناك 40 فتاة أخرى في مكان الإقامة وجميعهن كُنَّ يعشن بأسماء مستعارة، وكل ما احتجن إليه لقبولهن في المخيم شهادة إثبات أصولهن الآرية حتى أجداد أجدادهن.
كانت القلعة نفسها قمةً في الفخامة، وكانت هناك غُرف مشتركة للرياضات والألعاب، ومكتبة، وغرفة موسيقى، بل وصالة سينما. ووفقاً لهيلديغار «كان الطعام أفضل ما تذوقته على الإطلاق، ولم يكن علينا أن نعمل لأنه كان هناك عدد كبير من الخدم» . كانت هيلدغارد باعترافها كسولة ومنغمسة في الملذات، وسرعان ما عرفت كيف تستمتع بحياتها في القلعة.
قالت هيلدغارد: «كان المكان بأكله مسؤولية أحد الأساتذة وأحد الأطباء رفيعي المستوى في قوات شوتزشتافل، الذي فحص كلاً منَّا بشكل كامل بمجرد وصولنا. لقد توجب علينا إصدار تصريح قانوني يفيد بعدم وجود أي حالات مصابة بأمراض وراثية أو إدمان الكحول أو أمراض عقلية في عائلاتنا» .
تنازل عن الأطفال لصالح الدولة
كذلك حذر الأستاذ المسؤول عن القلعة الفتيات من أنه سيتوجب عليهن التوقيع على وثيقة تنازل عن أي طفل ينجبنه؛ لأنه سيصبح ملكاً للدولة وستجري تربية هؤلاء الأطفال في مؤسسات خاصة ترسخ فيهم الولاء المطلق للنازية.
وبعد قبولهن، قُدِمت هيلدغارد والفتيات الأخريات لرجال شوتزشتافل، قالت هيلدغارد «كانوا جميعاً طوال القامة وأقوياء للغاية ولديهم عيون زرقاء وشعر أشقر»، كانت هناك جلسة تعارف بين الطرفين، إذ لعبوا وشاهدوا الأفلام معاً واستمتعوا بالأمسيات الاجتماعية في القلعة.
وتضيف: «مُنِحنا نحو أسبوع لاختيار الرجل الذي أعجبنا وأُخبِرنا بضرورة التأكد أن شعره وعينيه تتوافق تماماً مع شعرنا وعينينا» . لم تُخبَر الفتيات بأسماء أي من هؤلاء الرجال، إذ كان إخفاء الهوية مبدأً أساسياً في برنامج ليبنسبورن.
كانت هيلديغار متحمسة جداً، لأنها كانت ستفعل كل ذلك من أجل زعيمها المحبوب هتلر، ترى أنها كانت تؤمن جداً بأهمية ما تفعله، بل تراه واجباً وطنياً لذلك لم تشعر بأي خزي أو عار من أي نوع.
أصبحت هيلدغارد حاملاً على الفور ونُقِلت إلى إحدى دور الولادة في الأشهر التسعة التالية، لم تكن ولادة سهلة، لأن النساء الألمانيات لا يلجأن للحصول على أي مساعدات اصطناعية مثل الحقن لتخفيف الألم.
إغراء من أجل المزيد من الأطفال
فطمت هيلدغارد رضيعها لمدة أسبوعين ثم أُخِذ منها ونُقِل إلى منزل خاص بقوات شوتزشتافل حيث ستجري تربيته ليصبح خادماً مخلصاً للدولة النازية. لم ترَ هيلديغارد ابنها أو والده على الإطلاق.
وفي السنوات التي تلت ذلك، أُغريت هيلدغارد لإنجاب المزيد من الأطفال، لكنها وقعت في حب ضابط شاب وتزوجا. وعندما أخبرت زوجها الجديد عن مشاركتها في برنامج ليبنسبورن، كانت مندهشة بعدما اكتشفت أنه لم يكن سعيداً بالشكل الذي توقعته، لكنه ومع ذلك أخفى انتقاده لها، معتبراً أنها كانت تؤدي واجبها تجاه الزعيم هتلر.
لم تعلم هيلدغارد مصير ابنها وظل هذا الأمر لغزاً، ومثل الكثير من أطفال برنامج ليبنسبورن، من المؤكد أنه وجد نفسه منبوذاً في ألمانيا بعد الحرب، إذ اعُتبرت كيفية إنجابه وتربيته وصمة عار لا يمكن التخلص منها أبداً.
جرى تبنّي العديد من هؤلاء الأطفال بعد الحرب، حين أُتلِفت سجلات مولدهم وحتى يومنا هذا، لم يكن غالبيتهم مدركين للحقيقة وراء إنجابهم.