في زيارة خاطفة للعاصمة الكاتالونية، برشلونة؛ مقصد السياح الثامن عالميًا، لم أحظَ إبان إقامتي القصيرة بالقبض على روح هذه المدينة المتغلغلة في نخاع الزمن، ولكني حظيتُ بالإقامة داخل جنّتها الأثرية؛ تلك المسماة “المدينة القديمة”، والضياع في أزِقّتها القروسطية، حيث للحجر فيها، وللبلاط، والخشب، والزجاج الملوّن، حكايات وروائح وألوان وتعاويذ سحرية، تخترق القلب والحواسّ من دون تفرقة بين عابر سبيل ومُقيم. إنّها المدينة – المتحف، على غرار روما أو لشبونة أو أثينا؛ تسكنكَ رهبة زوار المتاحف لمجرّد المشي في شوارعها، وتأمّل كنوزها المعمارية التاريخية، ومعالمها الفنية الفريدة. تتركُ لعينيكَ أن يسافرا عبر سُحُب من الحنان، في ماضي الحجر والحديد، بحثًا عن جنة أرضية مفقودة. الزمن يسيل من الجدران والأعمدة والشرفات والنوافذ؛ المدينة تبلِّل روحكَ بحَجَرها قبل بحرها، وتبسط لك كفّها كي تغوص في تاريخ خطوطها السحرية العميقة.
في مرآة الزمن
المؤرخون المعاصرون يشكّكون في الأصل القرطاجي – الفينيقي لهذه المدينة، وفي أنّ هملقار برقا؛ والد هانيبعل، أسّسها في القرن الثالث قبل الميلاد، وسمّاها “برقينو” أو “برقينون” (الاسم الذي تحوّل إلى “برسينو” ثم إلى “برشلونة”)، وبعضهم يمنح هرقل الإغريقي شرف إقامتها منتصف القرن السادس قبل الميلاد، والبعض الآخر لا يستهويه سوى أصلها الإيبيري الخالص، ويعيد تاريخها إلى الألف قبل الميلاد. قد يكون الإيبيريون سبقوا غيرهم إلى سُكنى هذه المدينة، وقد يكون الإغريق وصلوا إليها بعدهم، غير أنّ الإقامة على شواطئها لا تعني بالضرورة إقامة مدينة وتأسيسها. أنا ابنة البلاد الفينيقية والطبيعة المتوسطية، وهيهات أن تفوتني صلة القرابة بين هذه المدينة، والمدن المتوسطية الأخرى، الفينيقية الأصل، الممتدة على الساحل الفلسطيني واللبناني والسوري. في هواء برشلونة رائحة مكاني الأول؛ إحساس يعزّزه موقعها الجغرافي الذي أَلِفَتْه عيناي من قبل، حيث البحر أمامها، ومن جهاتها الثلاث تلفّها تلال من خلفها جبال، وما سلسلة جبال لبنان الغربية إلّا سلسلة “مونتسيرات” عينها!
الرومان كانوا هنا منذ القرن الأول الميلادي، ثم القوطيون الغربيون، وفتحها المسلمون في القرن الثامن الميلادي، ولكن بعد أقلّ من قرن، استطاعت المسيرات الإسبانية من خلال ما سُمي حروب الاسترداد، السيطرة عليها والانطلاق منها إلى بقية أراضي شبه الجزيرة الإيبيرية. وكان البحر بوابة مشرّعة لطرد الموريسكيين بسهولة إلى شمال أفريقيا وبلاد الشام وتركيا وغيرها. (قليلة الآثار المعمارية العربية في برشلونة مقارنة بمدن الأندلس بسبب قصر مدة حكم المسلمين لها). في القرن الثالث عشر، في عهد خايمي الأول ملك أراغون وكونت برشلونة، ازدهر مرفؤها بعد تعزيز وتنظيم تجارتها البحرية، وهو يعدّ اليوم من أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط. ومع بداية العقد الثاني من القرن التاسع عشر، استولى عليها نابليون، الذي لن تتحرر منه إلا بعد هزيمته. لاحقًا نالت المدينة نصيبها التدميري الكارثي من الحرب الأهلية الإسبانية (٤٤ طنًا من القنابل ألقتها طائرات موسيليني على المدنيين)، فيما وحشية فرانكو لم تقف عند منع أهلها من التكلّم باللغة الكاتالونية المحلية. والمعروف أنه منذ القرون الوسطى تُعاني منطقة كاتالونيا من أجل الحفاظ على خصوصية هويتها ولغتها وثقافتها، وقد تقلّب عليها الدهر بين الحظي بالاستقلال التام أو الحكم الذاتي، والحرمان منهما، إلى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، وتحوّل الحكم في إسبانيا إلى ملكي دستوري برلماني، حيث استعادت كاتالونيا قدرًا كبيرًا من الاستقلالية في الشؤون السياسية والتعليمية والبيئية والتنموية والثقافية، وهي الآن بعاصمتها المزدهرة صناعيًا وسياحيًا، واحدة من أكثر المجتمعات ديناميكية اقتصاديًا في إسبانيا.
وكانت برشلونة شهدت نهضة صناعية منتصف القرن التاسع عشر، تبعتها نتيجة نمو الثروات، نهضة عمرانية وثقافية مقرونةً بالقومية الناشئة. فالمدينة التي ضاقت على قاطنيها، توسّعت خارج أسوارها التي هدمتها عام 1854، واستعانت بنخبة من أشهر المهندسين المعماريين من أجل، أولًا: شقّ شارع وسط المدينة يربط جزءها الأعلى بالبحر؛ فاسْتُحْدِثَ الشارع الشهير المسمى “لا رامبلا”. وثانيًا: بناء منطقة حضرية جديدة، سُميت “إكسامبل”. وقد ابتدعت مهارات المهندس المعماري “إلديفونس سيردا” لهذه المنطقة، تصميمًا حضاريًا لكُتَل المباني والشوارع، المربعة والمتوازية، يُراعي حركة المرور، وضرورة التهوية، ووصول أشعة الشمس، وتوفير مساحات للحدائق. كذلك، فإنّ تُحَف فنان العمارة أنطوني غاودي، الملقب بِـ “معماري الربّ”، في “إكسامبل”، يقصدها الناس من أطراف الأرض، ككنيسة “ساغرادا فاميليا” ومبنى “كازا باتلو” (“كازا” تعني منزل)، و”كازا ميلا” المسمى “المَحْجَر”.
مدينة المدن الاروبية
في بداية القرن العشرين، لُقّبت برشلونة بِـ “زهرة النار”؛ إذ كانت تتفتّح من أعماقها لانطلاقة الحداثة في المجالات كافة، ولا سيما المعمارية والفنية، وليضوع شذاها في أُنوف المدن الأوروبية المتغطرسة. ولا غُلُوّ في القول، إنه مهما طالت مدة إقامة السائح فيها، فلن يستطيع احتواء مغرياتها التاريخية والجمالية كافة. فهناك متاحف الآثار والفنون، كالمتحف الوطني للفنون، متحف الفن المعاصر، متحف الأركايولوجيا، متحف الشمع، متحف الشوكولاتة. وهناك المواقع التاريخية، والنصب التذكارية، والتحف المعمارية من أبنية وقصور وكنائس، معظمها ضمن قوائم اليونسكو للتراث العالمي، مثل: ساغرادا فاميليا؛ معجزة غاودي، بارك غويل؛ تحفته الأخرى فوق تلة الكرمل في حي لا سالو، قصر غويل في شارع لا رامبلا، كاتدرائية برشلونة في الحي القوطي (تلك التي استغرق بناؤها مئتي عام من القرن 13م إلى 15م)، المعبد الروماني في الحي نفسه، كنيسة سانت باو ديل كامب في حي الرافال، قوس النصر (أرك دي تريومف) وسط المدينة، قصر الموسيقى الكاتالونية في حي بورن. وهناك الساحات؛ تلك المتاحف في الهواء الطلق، التي تزينها التماثيل والنوافير ويعشقها الحَمَام، مثل: ساحة كاتالونيا التي تفصل المدينة القديمة عن الحديثة، وبلاكا دي سانت جامي (ساحة القديس جيمس) وهي الأكبر مساحة، وفيها مبنى البلدية والبرلمان الكاتالوني. وهناك المسارح، والمراكز الثقافية، والصالات لرقص الفلامنكو. والأخيرة تسمى هنا “الطاولات الراقية”، وغالبًا ما تُؤدى فيها العروض من دون الاستعانة بمكبرات الصوت أو أيّ من التقنيات الحديثة، بحيث يتناهى صوت الفلامنكو نقيًا وخاليًا من أي مؤثرات صوتية مصطنعة. وهناك المفاتن البحرية بشواطئها ومطاعمها ومقاهيها، ناهيكَ عن القرية الأُولومبية بمينائها الناشط ليلَ نهار. وتجدر الإشارة الى أنّ ما أسهم في نهضة برشلونة المعمارية والحضارية وتطوير بناها التحتية، احتضانها حدثين أساسيين: المعرض الدولي في القرن التاسع عشر، والألعاب الأولمبية لعام 1992.
أمشي في شارع لا رامبلا أو جادة لاس رامبلاس السياحية المزدحمة بصفتي السائحة رقم 32 مليون +1، وفق إحصاءات العام المنصرم (2018)، علمًا أنّ عدد سكان برشلونة إضافة الى قاطني ضواحيها لا يتجاوز 6 ملايين نسمة. أخطو برشاقتي الروحية وبرأسٍ متخفف قدر موهبتي، كي أتيح لتاريخ المدينة أن يتسرب بفطرة تحت جلدي. أبدأ من اسم لا رامبلا الذي يُقال إن أصله كلمة “الرملة” في اللغة العربية، وذلك لقرب الشارع من رمل الشاطئ، وهناك من يرجّح اشتقاق الاسم من معنى فعل “تسكع” في اللغة الكتالونية. وبصرف النظر عن أصل الاسم وفصله، فهو كان قد ضاق على شارع ما برحت تتّسع عوالمه؛ فكان أن قُسِّم إلى خمسة أجزاء، لكلٍ منها اسم يحمل دلالاته. أهمية لا رامبلا أنه شريان برشلونة الرئيس الذي تمتدّ بمحاذاته مراكز حكومية ومالية وروحية، والذي يفصل بين حيين قديمين: شرقًا الحي القوطي (باري غوتيك) حيث الفندق الذي أُقيم فيه، وغربًا حي الرافال الذي كان يشتهر سابقًا بالمخدرات والدعارة ويلقب بالحي الصيني، وأصبح حاليًا مع موجات الهجرة الجديدة يُلقب بِـ”رافالستان” نظرًا لعدد سكانه المتعاظم من الباكستانيين. ويتميّز حي الرافال بمقاصفه الليلية الكثيرة، وحاناته القديمة (كحانة لندن، التي كان يقصدها في ما مضى أمثال دالي وبيكاسو وهيمنغواي)، ناهيك عن كنوزه الثقافية العريقة ومنها: متحف برشلونة للفنّ المعاصر، والمتحف البحري، وقصر غويل. وفيه توجد أيضًا سوق لا بوكيريا الشهيرة. وهي عبارة عن كرنفال بصري طاووسيّ، تُزينُ مروحةَ ريشِه المنفوش الخضارُ، والفواكه الطازجة والمجففة، واللحوم، والمحار، والتوابل، والمثلجات، والأجبان، والخبز، والأطعمة المحلية، وأنواع الزيتون من ألفه إلى يائه (يوجد أكثر من 250 نوعاً من الزيتون في إسبانيا أفضلها المسمى أوخي بلانكا)، وقوارير زيت الزيتون الرباني التي تُقتنى بكبرياء سيدات تقتنين أثمن العطور. (لِمَ لا، وهذه الشجرة المقدسة التي جلبها الفينيقي معه منذ أكثر من 3000 عام، لا يزال يُقطف زيتونها هنا، ولا سيما في الجنوب الإسباني، بالأيدي، ليُعبأ في السِّلال ويُعصر في خلال ساعتين فقط من قِطافه حرصًا على طعم زيته من المرارة). في هذا البازار الذي لا ينقصه سوى بيع الأحلام، أُصادف أفواهًا من أقطاب الأرض، ممغنطة بما لذّ وطاب، مانحةً حاسّة الذَّوق حصة الأَسَد، بينما لا يَسْتَأْسِدُ فيَّ غير بَصَري، منقضًا على بهاء اللَّون لا الطَّعم. خلف السوق يتناهى إليَّ عزف فرقة غجرية لزبائن أحد المطاعم، فأتبع الصوت إلى منبعه الذهبي، ثم أتعجب؛ كيف للغويين الإسبان أن يحرفوا في قواميسهم القديمة والمعاصرة، معنى هذا السِّحر والجمال في كلمة “غجري” إلى “محتال”؟! (في مشرقنا العربي، كانت تُحكى الخُرافات للصِّغار عن أنّ الغجر خاطفو أطفال!) أتقدم نحو قبعة الغجري الممدودة، وأُلقي فيها من كرمي الشرقي. وبالمناسبة، لفتني في هذه البلاد كم يقدرون البقشيش، مهما كان زهيدًا، ويتلقفونه بخفر ورضا كما لو نعمة غير متوقعة! في البلد الذي أقيم فيه، يُفترَض ألا يقل البقشيش عن نسبة 15 في المئة إلى 20 في المئة من قيمة الفاتورة، تدفعه ولا تتوقع أن تُشكَر على واجب!
في شارع لا رامبلا
أعود إلى لا رامبلا، شارع المشاة المغناطيسي المكتّظ، الذي تصطّف على جانبيه أشجار الدُّلْب التي تألفها عيناي لأنها تُحاكي القَيْقَب في الفناء الخلفي لمنزلي في الشمال الأميركي. خلف الصف الشجري، أبنية قديمة متلاصقة، في أسفلها مقاه، ومطاعم متعددة الجنسيات، ومحال تجارية، يستقبلك فيها كثير من الوجوه من جنوب آسيا، ولا سيما الباكستان. وسط الشارع لا يخلو أيضًا من الباعة المتجولين، وأكشاك محشوة بالهدايا التذكارية، التي معظمها بالطبع صنع في الصين، وعلى رأسها ما يحمل خصوصية البلد الحضارية والثقافية؛ ولذا، لم أشترِ صنوج الأصابع، ولا مرواح اليدّ البلاستيكية، ولا شال راقصة الفلامنكو، مُمنية النفس باقتنائها لاحقًا من منابعها الغجرية، في محطاتي التالية في الجنوب الإسباني الأندلسي. واكتفيت بشراء الورد، من بائعة غجرية على الرصيف، فهذا لعمري تربية محلية! الورد يذكرني بجنة العريف في الحمراء؛ فغرناطة مدينة الورد، أما برشلونة، فسأسميها مدينة الجيرانيوم. فهذه النبتة الساحرة بهيأتها الزاهية من دون مساحيق تجميلية، تصافحني كيفما التفتْتُ، من الشرفات والنوافذ، بحضورها الشعبي المزركش، الذي يشبه حضور هذه المدينة التي على الرغم من زخرفتها الفائقة لا تفرّط بأناقتها، إنما تخلق من فوضى اللون هندسة هارمونية “غاودية” معقدة، في الوقت الذي تحافظ على طبيعيتها وأُلفتها وتواضعها، كأنما وجدت وفنّ اللون في جيناتها. كيف لا، وقد حباها الله بطبيعة بحرية وجبلية، أنجبت فنانًا من طراز خوان ميرو، يجعل لكل شكل في لوحته روحه اللونية الفاقعة، وسط فضاء واسع ولا نهائي، بأسلوبه الطفولي الفطري والتلقائي، الذي لا بدّ اكتسبه من جمال طبيعة محيطه. في كلّ لوحة لميرو، يتراءى لي ميرو الطفل البرشلوني، ينظر مبهورًا إلى سماء زرقاء شاسعة، فيكتفي برسم فضاء فارغ؛ إذ ماذا بوسع المرء أن يُبدع أمام هكذا زرقة؟! ولذا، يبدو لي أنّ لزرقة سماء برشلونة دورًا في تواضع أهلها وعفويتهم؛ فهم ودودون ومضيافون من دون رياء أو انفعال كاذب. وهم ليسوا بشعب نقّاق أو متذمر أو متطلب أو مزهو بفرادته، سوى أنهم يعرفون نعمة الحفاظ على الجوهر الطبيعي والفني والتاريخي، لمدينتهم وثقافتهم، بفخر لا يشوبه التبجّح، ولا العنجهية والشوفينية، كالتي تخرج اليوم إلى العلن، مع التيارات الشعبوية المتنامية في بلدان عديدة، ولا سيما في أميركا حيث جمر العنصرية لا يني يكشّر عن أنيابه البيض من تحت رماد الديمقراطية الرأسمالية.
يكتسب شارع لا رامبلا حيويته من إضفاء الروح الفنيّة على حركة البيع والشراء فيه. فهو يغصّ بالرسامين والتماثيل البشرية ورسامي الكاريكاتير والراقصين والعازفين، وحيويته لا تقتصر على الأرصفة، بل تمتدّ إلى الأعلى، لتُطير فستان مارلين مونرو، المطلة من شرفة المتحف الإيروتيكي وظنّها أنّ لحمها أكثر إغواءً من حجارة المدينة! لم أصادف في لا رامبلا السائحين والمواطنين الكاتالونيين فقط، إنما الكثير من المهاجرين أيضًا. منهم القدماء الذين رحلوا خلال الحرب الأهلية من جنوب البلاد الأفقر (مناطق الأندلس ومرسيا) إلى شمالها الأغنى، (برشلونة في الشمال الشرقي لإسبانيا) حيث موسم الهجرة لا يغير اتجاهه؛ فهذا ديدن سكان جنوب الخرائط الراحلين في أحلامهم أبدًا ولسان حالهم: “وأَما الشمال، الشمال البعيد فليس بجغرافيا أو جهة إنه مجمع الآلهة” (م. د.). ولم تكن برشلونة آنذاك، بازدهارها النسبي على الصعيدين: التجاري والصناعي، لتخيب آمال المهاجرين، أصحاب اللسان الإسباني لا الكاتالوني، الذين بدورهم لم يكونوا ليخيبوا آمالها، إن في الإسهام في انفتاحها اللغوي والاجتماعي والثقافي أو في الإسراع بخطى تقدمها وتنميتها وتحضرها، ولا سيما أن التزايد السكاني أدى إلى تطوير شبكة المترو والبنى التحتية كافة.
ويبدو أن المدينة في الزمن المعاصر ظلت على دَيْدنها في استقبال المهاجرين الجدد، القادمين من أوروبا وأميركا اللاتينية وشمال إفريقيا (ولا سيما المغرب)، إضافة إلى الباكستانيين والصينيين. ومع تزايد عدد السياح الخرافي الذي بات يساوي 20 ضعف العدد السكاني للمدينة، بات البرشلونيون يفضّلون المهاجرين المنخرطين في بناء اقتصاد المدينة، على السائحين المستهلكين فحسب، والأشبه بجَراد يكتسح لبّ المدينة، على الرغم مما ينفقونه فيها من أموال طائلة. والمعروف أنّ السياحة في برشلونة أدت إلى ارتفاع أسعار الإيجارات على المواطن والمهاجر، وإلى استهلاك معدلات كبيرة من المياه والكهرباء، عدا عن ازدحام وسائل النقل العمومية، التي باتت تربك حركة المواطنين، وتؤخرهم عن الوصول الى أعمالهم. ولا ننسى أن المدينة غدر بها الإرهاب الوحشي عام 2017، مستغلًا حركة مجرّتها السياحية. ثم الأهم؛ الوجه الحضاري والثقافي للمدينة، الذي باتت تحجبه أمواج السياحة، بما تحمله من مظاهر العولمة المتفاقمة. أصوات حقائب السياح التي تجر على حصى الأرصفة، أصبحت تعلو على أصوات أجراس الكنائس! وللحق أن فستان شارع لا رامبلا، غدا كوزموبوليتيًا أكثر منه غجريًا – إسبانيًا، تُزينه كشاكش بشرية من مختلف دانتيلا الأرض، وعلى الباحث مثلي عن الأصل، ألا تحرمه بهرجة فلامنكو العصر، من النظر إلى فِتنة العَظْم (عَظْم الشارع)؛ ولذا، فأنا لم أخشَ من السير ناظرةً إلى أسفل، علّني أقع، فأقع على بلاطة من تصميم أنطوني غاودي أو جوزيب بويج الأول كادافالش أو سواهما من أشهر فناني العمارة في المدينة. فهؤلاء كانت استعانت بهم بلدية برشلونة في أوائل القرن الماضي لتصميم أرصفة المدينة. وثمة ما يفوق الثلاثة عشر تصميمًا فنيًا لبلاطات موزعة في أرجاء المدينة كافة.
المشي في لا رامبلا (ومعظم شوارع برشلونة) يحيلكَ فسيفساءَ صغيرة في عمل موزاييكي ضخم، ومدهش بتفاصيله الملغزة، من أعمال غاودي؛ مَفخرة المدينة، أو يحيلك لطخة في إحدى لوحات الفترة الوردية لبيكاسو؛ الفترة التي قضاها الفنان متنقلًا بين فرنسا ومأواه الفردوسي: برشلونة. وليس مستغربًا أن يخصّ بيكاسو هذه المدينة بمتحف أعماله الأولى، على أن يقام في مسقط رأسه؛ العاصمة الأندلسية مالقة. ويقع متحف بيكاسو الذي أنشئ عام 1963 في حي رايبيرا؛ ثالث أحياء المدينة القديمة، وتحديدًا في شارع مونتكادا المشهور بقصوره العائدة لأثرياء التجار والنبلاء من العصر القوطي إلى عصر الباروك. ويضم ما يفوق الأربعة آلاف عملًا فنيًا، مما يجعله أكثر متاحف الفنان في العالم اكتمالًا وشمولية.
يمتدّ لا رامبلا – الشارع الذي مشى فيه يومًا الشاعر الغرناطي فيديريكو غارسيا لوركا وقال إنه “الشارع الوحيد في العالم الذي أتمنى ألا ينتهي أبدًا” – على مسافة ميل تقريبًا، من ساحة كاتالونيا وسط المدينة، لينتهي عند port vell ميناء الواجهة البحرية القديم، وتحديدًا في ميدان بورتال دي لا باث، حيث يرتفع أكبر نُصب تذكاري في العالم لكولومبوس. ويمكن الزائر أن يرتفع أيضًا، عبر مصعد داخل عمود التمثال إلى ما تحت قدمَيْ كولومبوس بقليل، ليرى المدينة من علٍ. وعلى الرغم من أيقونية هذا المَعلم التراثي الكاتالوني الذي أبدعته أيادي نخبة من الفنانين عام 1888، في إطار تحسين معالم المدينة تمهيدًا لانعقاد المعرض العالمي فيها، إلا أن ثمة أصوات معاصرة من الأحزاب القومية واليسارية الكاتالونية، باتت تنادي اليوم بإزالته أو نقله إلى الأراضي القشتالية، نظرًا لما تسبب به صاحبه باكتشافه لأميركا من ويلات ومذابح أصابت السكان الأصليين من الهنود الحمر، ناهيك عن أن ممول بناء التمثال، كان من أثرياء الإمبراطورية الإسبانية المتورطين في تجارة الرقيق.
(لاحقًا، سأرى ضريح كولومبوس داخل كاتدرائية إشبلية، معززًا، مكرمًا، محمولًا على أكتاف أربعة ملوك مجازيين، يمثلون الممالك الأربع في إسبانيا خلال حياة المُستكشِف. وسأعرف أنّ رحلاته ميتًا لم تكن أقل من رحلاته حيًا؛ فرُفَاته ظلّت لقرون تتنقل بين مستعمرات إسبانية عديدة إلى أن عادت إلى موطنها واستقر بها المطاف أخيرًا في إشبلية).
أزقة للضّياع وتلّة للصّفاء
أسعدني أنّ لغرفتي في الفندق شرفة صغيرة تطلّ على زُقاق في الأسفل يمتدّ غربًا إلى شارع لا رامبلا (الجزء المسمى “لا رامبلا الكبوشيين”) وشرقًا إلى متاهات من الأزقة إحداها تؤدي الى بلازا ريال؛ إحدى ساحات المدينة القديمة، ومتنفس فسيح للاستراحة والترفيه والسمر، تحيط بها المقاهي، وتتوسطها نافورة ماء، وأشجار سامقة من النخيل، ومصابيح إنارة من تصميم غاودي، إضافة إلى العازفين والمغنين الجوالين. قبالتي شرفات صغيرة لمبنى قديم يبدو أن قاطنيه مواطنون وليسوا سائحين. معظم المباني السكنية القديمة هنا، أعيد تحديثها من الداخل، لتحظى بالمواصفات والتجهيزات العصرية كافة من مصاعد، وأجهزة تبريد وتدفئة، وخدمة إنترنت، وغير ذلك، ولكن مع الحرص الشديد على صيانة واجهاتها الأمامية لتحافظ على معالمها الأثرية التي آلت إليها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
الليل هنا شبه هادئ، تصلني موسيقى مختلطة من مطاعم “تاباس” (مقبلات أو وجبات خفيفة من المطبخ الإسباني) في الأسفل، والمطعم المغربي القريب. مزيج الأصوات المتداخلة يعكس هجانة الموسيقى الكاتالونية التي هي أمشاج من موسيقى كوبية انتقلت مع البحارة الإسبان العائدين من حرب الاستقلال هناك، وموسيقى أندلسية، وأخرى كاتالونية محلية. تصلني أيضًا بعض دردشات الزبائن أمام واجهة محل لبيع التحف والأواني الخزفية، يتخللها أصوات حياة قديمة كامنة في الجدران والظلام. لا بدّ لي من الفصل بين صوت المدينة الأصلي وضجيج العابرين في سريرها لليلة! ثمة خمسون ألف مواطن يعيشون كالظّلال في المدينة القديمة، ويصعب تعقب خطاهم بين ملايين السياح. والحقيقة أن عبوري الشبحي في هذا الزاروب أو ذاك، لا يؤهلني للقاء أشباح حتى ولو كنت أرى غسيلهم على الحبال وأحيانًا أسمع نباح كلابهم. بالطبع، يوجد كلاب هنا فقط وما من ثيران! اللهم ما عدا تلك الثيران الرمزية من الموزاييك المعروضة في الواجهات. حتى حلبة الثيران التي مررت بها في ساحة “بلازا دي إسبانيا” وأدهشني بناؤها البديع على الطراز المغربي، قد تحولت إلى مركز للتسوق!
جئت برشلونة تتلبسني رواية “لعبة الملاك” للإسباني كارلوس زافون، الذي جعل مسرحها المدينة القديمة، ممعنًا في وصف عوالمها الخفيّة السحريّة، وأزقتها، ومدافنها، وبيوتها الأثرية. وهكذا رحت أتسكع على طريقة “دافيد مارتين” بطل الرواية، من دون وجهة محددة، علني أهتدي إلى “مكتبة سيمبيري” أو “بيت البرج” في 30 شارع فلاساديرس قرب حي بورن، أو زقاق أرك دل تياتري، حيث تقبع “مقبرة الكتب المنسية” خلف بوابة خشبية عملاقة. وتقصدتُ زيارة أماكن ذكرت في الرواية مثل: قصر غويل في شارع لا رامبلا في حي الرافال، وكنيسة سانتا ماريا دل مار، وشارع كوندي دل آسالتو في الرافال الذي اكتشفت أنه الاسم القديم لشارع كارير نو دي لا رامبلا، وحظيت برؤية فيلات حي بيدرالبيس حيث يقيم الدون “بيدرو فيذال” (البطل الثاني في الرواية)، وحيث روائع غاودي الزخرفية عند مدخل المتنزه العام.
متحف الفنون الكاتالوني
وبالطبع ما كان ليفوتني زيارة تحفة غاودي والمعجزة المعمارية (المذكورة في رواية زافون): ساغرادا فاميليا؛ كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية، تلك التي بدأ تشييدها منذ 137 عامًا على أن تضمّ 18 برجًا لم ينجز منها حتّى الآن سوى ثمانية، ويُؤمل مع التقدم التكنولوجي الحاصل الانتهاء من بناء بقية أبراجها بحلول عام 2026، تزامنًا مع ذكرى مرور مئة عام على وفاة غاودي (1852-1926). ولهذه التحفة حديث آخر تفاصيله لا يتّسع لها المقام ولا الزمان الذي قد ينتهي قبل أن ينتهي بناؤها! وسأنتقل للحديث عن تحفة من نوع آخر، ابتدعتها الطبيعة في برشلونة، هي تلّة “مونتجويك”؛ تاج المدينة المرصّع بالمتاحف والحدائق والمتنزهات، والمطل على مينائها الساحر. هذه التلة القائمة عند أقدام البحر، وخلفها نهر، جَعلت من جسدها منذ عهد الرومان، مَقلَع حجارة من أجل تشييد المدينة من حولها وتحتها وفوقها، وتعرّت من بعض غاباتها من دون أن تفارق الورود وجنتيها. ثمة قلعة – قصر على قمتها، تعود إلى القرن السابع عشر، مع أبنية مضافة. استخدم هذا القصر قديمًا سجنًا، وشهدت ساحاته إعدامات في عهد فرانكو، واليوم أصبح متحف الفنون الكاتالوني. انتعاشة التلّة العمرانية تجدّدت بتجدّد المناسبة؛ فالموقع كان اختير مرتين، في عامي 1882 و1929، لاستضافة المعرض الدولي، ثم أعيد تحديث المنطقة، وصيانة ملاعبها ومسابحها، استعدادًا لاستقبال الألعاب الأولمبية لعام 1992. واستمرت التلّة في ازدهارها العمراني والسياحي، وهي تضم اليوم مواقع ومعالم مميزة منها: بلازا دي إسبانيا وبرجاها المبنيان على الطراز البندقاني، الأستاد الأولمبي، النافورة السحرية، متحف ميرو، المتحف الأولمبي، حديقة النباتات، مقبرة مونتجويك، متنزهات، القطار الهوائي. ولكن أكثر ما يستقطب السياح في التلّة هو “بوبلي إسبانيول” (البلدة الإسبانية)، وهي عبارة عن متحف في الهواء الطلق، يتكون من 117 مبنى، تُعيد إنشاء القرى الإسبانية، إضافة إلى وجود مسرح، ومطاعم، وورش عمل حرفية، ومتحف للفنّ المعاصر. يلطمني جمال المدينة من أعلى هذا التّل كالأمواج. كلّ هذا الزَبَد في العينين من حمرة قرميد البيوت! يا لنقاء الشعور في هذا المرتفع وقد رمى أثقاله في البحر وعاد جنينًا كحبة رمل! لا يتملكني غرور السائح واقفًا في موقع مَن أَحكَم طوقه حول عُنق المدينة وعصر جمالها في عينيه. مثلما يعجزني النَّظر إلى الشمس تعجزني حجارة أدراجها، ومرأى حوض حجري على الطريق يعلوه صنبور حديدي قديم. وها قد شربت من مائه السحري، مثلما شربت قبلًا من نافورة دي كاناليتيس (أي “القنوات المائية” في الأصل العربي للاسم) في الجزء الأعلى من شارع لا رامبلا، علّني أعود بحسب الأسطورة الرائجة هنا، كي أشرب مجددًا من أسرار جمال هذه المدينة التي لا تشبع منها عين ولا قلب.
وبينما أنا في أوج انتعاشي وفوران متعتي، أتذكّر أنّ برشلونة هي مسقط رأس الكاتب الإسباني العظيم خوان غويتيسلو، الملقب بِـ إدوارد سعيد الإسباني، الذي انشغل بالآثار العميقة للغة العربية والحضارة الإسلامية في المجتمع الإسباني، والذي ناصر بحماسة القضية الفلسطينية، ومجمل قضايا الشعوب العربية. وأفكّر كيف دفعه عشقه للثقافة العربية إلى أن يمضي العقود الأخيرة من حياته في مراكش، وأتعجّب كيف لم تُغره برشلونة؛ موطنه الأصل، بالعودة إليها حتّى وهو ميّت، (على الرغم من أنه شرب من مائها الأسطوري!) وآثر أن يُوارى الثرى إلى جانب صديقه جان جينيه في مدينة العرائش المغربية.
بالنسبة إلي، فأمنيتي أن أعود إلى هذه المدينة للضياع في تلافيف أحشائها. فجمالها لا يفتح أبوابه السرية للعابر فيها بمزاج المُنتصر وقد التقط ألف صورة تذكارية! إنّها مدينة تفوق قدرة القلب والعين والذاكرة على تجميدها في لحظة؛ ذلك أنّها مدينة المنحنيات والدوائر والدهاليز والأزقة والأروقة والممرات والتعرجات والتفرّع والتقوّس والالتفاف والتصماميم التي تلوي قلب كلّ قاعدة هندسية مستقيمة ثابتة. إنّها مدينة تنكسر فيها الزوايا الحادّة بقوة المرونة والانفتاح على فضاء البرّ والبحر وكلّ جديد. ولعلّ أسلوب غاودي، المبدع الأشهر فيها، يعكس طبيعتها بما تختزنه من متاهات وسراديب وألغاز وأسرار، ويعكس قدرتها على الجذب والإغواء بزخارفها وأضوائها وعتماتها؛ فهو مثلها يبتدع جمال زهرة من جمجمة. مات غاودي تحت عجلات تقدمها السريع (داسته حافلة ترام) أو هكذا ظَنّ! لكنّ برشلونة أحيته فيها إلى الأبد، في كلّ حجر، مثلما أحيت كلّ المبدعين الذين ألهبوا فنّ عمارتها، ومنحوها جمالًا بركانيًا وسط جمال طبيعتها، حتّى ليحلم المرء لو أنّ قلبه قُدَّ من حجارتها!
المصدر:وكالات