أخبار العالم
لماذا تعترض تركيا على التنقيب المصرى – القبرصى عن غاز شرق المتوسط؟
تعددت الأزمات التي تموج بها منطقة الشرق الأوسط، وفي الآونة الأخيرة أضيفت إليها أزمة جديدة، وهي النزاع بين دول شرق المتوسط على حقوق استخراج الغاز الطبيعي في تلك المنطقة، حيث هددت إسرائيل لبنان بمنعها من التنقيب عن الغاز الطبيعي في البلوك (9) بذريعة أنه داخل المياه الإقليمية الخاصة بها. كما تصدرت تركيا مشهد الاعتراض السياسي على تنقيب مصر وقبرص مما مثّل أزمة جديدة في العلاقات المتوترة بين أنقرة والدولتين.
مظاهر الإعتراض:
إتخذ الاعتراض التركي على تنقيب مصر وقبرص عن الغاز الطبيعي في شرق المتوسط عدة صور سياسية وعسكرية، من بينها:
* تصريحات “أوغلو”: صرح وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” في 5 فبراير 2018، خلال حواره مع صحيفة يونانية، أن بلاده لن تعترف بإتفاق ترسيم الحدود بين مصر وقبرص الموقع عام 2013. والذي تم بناء عليها تحديد المناطق الاقتصادية للدولتين في شرق البحر المتوسط المنطقة الغنية بالغاز الطبيعي. وادعى أن الاتفاقية تعتدي على “الجرف القاري التركي” الذي تزعم أنقرة أنه يمتد لخطوط الطول(32، 16، 18) درجة شرق البحر المتوسط. وهي التصريحات التي رفضتها القاهرة وردت عليها بطريقتين .. الأولي سياسية، حيث أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا يؤكد أن اتفاق ترسيم الحدود بين مصر وأنقرة ليس محل نقاش لأي جهة، لأنها تتسق وقواعد القانون الدولي، وتم إيداعها كاتفاقية دولية في الأمم المتحدة، وأي محاولة للمساس أو الانتقاص من حقوق مصر السيادية في تلك المنطقة، تعتبر مرفوضة وسيتم التصدي لها. والثانية عسكرية، حيث تم تنفيذ عدة تدريبات للتصدي لأى أعمال عدائية بالبحر المتوسط ضمن عملية (سيناء 2018) لمكافحة الإرهاب في سيناء، وشاركت فيها قطع عسكرية بحرية تمركزت في شرق البحر المتوسط وبمحيط حقل “ظهر”، مما شكل رسالة غير مباشرة لتركيا وغيرها من الدول التي تحاول الاقتراب من المياه الإقليمية والاقتصادية المصرية.
* اعتراض سفينة “إيني”: أعلنت شركة” إيني” الإيطالية العاملة بمجال التنقيب عن الغاز أن سفينتها أُمرت بالتوقف من قبل بوارج تركية فى 9 فبراير 2018 لوجود “نشاطات عسكرية في المنطقة المقصودة”، وذلك بعد إبحارها للبدء باستكشاف (البلوك 3) من المنطقة الاقتصادية القبرصية، مما يمثل اعتداء صارخاً من قبل أنقرة على السفينة، ومخالفة تركية لكافة الأعراف والمواثيق الدولية التي تنص على عدم التعرض للسفن المدنية، كما أنه يضع إيطاليا كطرف في الأزمة باعتبار أن الشركة إيطالية الجنسية.
* تحذيرات “أردوغان”: حذر الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” يوم 13 فبراير 2018 الشركات الأجنبية العاملة في مجال استكشاف الغاز الطبيعي من التورط في الخلاف القائم بين بلاده وقبرص حول أحقية كلٍ منهما في استكشاف الغاز الطبيعي بشرق البحر المتوسط. وهدد بمنعها من التنقيب عن الغاز في المناطق المتنازع عليها، وهو ما حدث بالفعل أمام سواحل قبرص بعدما منعت قطع عسكرية تركية شركات تنقيب تابعة “لإيني”، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي لدعوة أنقرة إلى الالتزام بعلاقات حسن الجوار والتسوية السلمية واحترام السيادة الإقليمية لدوله. كما هاتف رئيس المجلس الأوروبي “دونالد توسك” الرئيس القبرصي “نيكوس آناستاسيادس”، ودعا تركيا لتفادي التهديدات أو التحركات ضد أي عضو في الاتحاد، الأمر الذي يضاعف الأزمات بين أنقرة ودول الاتحاد الرافض حتى الآن ضمها لعضويته.
الدوافع التركية:
تعددت الدوافع التركية للاعتراض على تنقيب دول شرق المتوسط عن الغاز الطبيعي في مياهها الإقليمية رغم معرفة أنقرة التامة بعدم قانونية موقفها ومخالفتها لقواعد القانون الدولي، لأن اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص أبرمت عام 2013، وتأسست بناء على قواعد ومبادئ القانون الدولي واتفاقية قانون البحار لعام 1982، والاتفاقية تم إيداعها وتوثيقها بالأمم المتحدة وفقا للمادة (102) من ميثاق المنظمة، وتركيا لم تعترض عليها آنذاك ولا يحق لها الاعتراض عليها الآن. وقد راعت الدولتان حقوق كافة الدول الجوار البحرية وتحديدا الساحلية المتجاورة والمتقابلة في شرق البحر المتوسط، تجنبا لأي منازعات مستقبلية أو ادعاءات لحقوق أي من الدول سواء في الجرف القاري أو المناطق الاقتصادية المختلفة كما نازعت تركيا من قبل. إلا أن أنقرة تصر على موقفها، الذي يعتمد على عدة دوافع منها..
* التغطية الإعلامية: بدأت تركيا في 19 يناير 2018 عملية عسكرية موسعة في مدينة عفرين شمال شرق سوريا للقضاء على الفصائل المسلحة الكردية بها والعملية تمثل اعتداء صارخاً على سيادة الدولة السورية. ورغم أن “أردوغان” قد أعلن أنه سيقضي عليهم في أسبوع واحد، إلا أنه بعد مرور شهر كامل تقريبًا لا يوجد أى مدى زمني لانتهاء العملية أو لمحددات الانتصار فيها، كما أن هناك تعتيما تركيا على أعداد القتلي من الجنود الذين جاوز عددهم وفق بعض المصادر 20 جنديا، والمتوقع أن تمتد العملية العسكرية لتشمل “منبج” وربما مدنا سورية أخرى. ولذا سعى “أردوغان” لافتعال أزمة خارجية جديدة عبر تصريحاته ضد قبرص ومصر للتغطية على تورطه العسكري في سوريا.
* البحث عن مصادر الطاقة: تركيا دولة اقتصادية يبلغ عدد سكانها 81 مليون نسمة، وهي سوق كبير في حاجة مستمرة لمصادر جديدة للطاقة نظرًا لكونها تفتقر لأي منها، ولذا تسعى لضمان حصتها من غاز شرق المتوسط، لاسيما بعد الكشف عن مخزون غازي كبير بتلك المنطقة، وبدء التنقيب عنه من قبل دول المتوسط. حيث نجحت مصر في افتتاح حقل “ظُهر” الذي اكتشفته شركة “إيني” الإيطالية ويعد أكبر الاكتشافات الغازية في المنطقة وكذلك ستبدأ التنقيب عن 11 منطقة جديدة داخل المياه الاقليمية المصرية بشرق البحر المتوسط. وبدوره أعلن وزير الطاقة القبرصي “جورج لاكوتريبيس” اكتشاف مخزون جوفي للغاز الطبيعي في المياه القبرصية.
* تخبط سياسي: أصبح التخبط وافتعال الأزمات هما السمة الغالبة علي السياسة الخارجية التركية منذ عدة سنوات، حيث نجح “أردوغان” في “توتير” علاقات بلاده الخارجية مع كافة دوائره الاقليمية ودول الجوار. فها هو يعاني من توتر علاقاته مع دول الاتحاد الأوروبي، فضلا عن أزماته مع العراق وسوريا، وتراجع علاقته بدول الخليج العربي خاصة السعودية والامارات بعد انحيازه للدوحة في الأزمة القطرية. وكذلك هناك العديد من القضايا الخلافية بين أنقرة وواشنطن. ولذا أصبحت السياسة الخارجية التركية تعاني باستمرار من الأزمات المفتعلة التي تؤثر سلبا على مستقبلها وسيكون لها العديد من الانعكاسات السلبية داخليًا وخارجيًا.
* قضية قبرص: ثمة خلاف مستمر منذ أربعة عقود بين تركيا وقبرص واليونان حول انقسام جزيرة قبرص، حيث سيطر القبارصة الأتراك على ثلث الجزيرة الشمالي في 1974 بعد التدخل العسكري التركي وأعلنوا دولة بأسم “جمهورية شمال قبرص التركية” بيد أن المجتمع الدولي لا يعترف بها وتعترف بها أنقرة فقط. فيما سيطر القبارصة اليونانيون على ثلثي الجزيرة وهي “دولة قبرص” عضو الأمم المتحدة والأتحاد الأوروبي. وهناك جهود أممية مستمرة لتوحيد الجزيرة بيد أنها تفشل بفعل التعنت التركي في الدفاع عن حقوق القبارصة الأتراك السياسية والاقتصادية ويمثل الموقف التركي الرافض للاعتراف باتفاقية ترسيم الحدود بين قبرص ومصر جزءا من سياسة أنقرة الخارجية حول انقسام الجزيرة حيث إنها ترفض الاعتراف بأى اتفاق تبرمه قبرص لا يمثل فيه “القبارصة الأتراك” كنوع من “المناكفة السياسية” لدولة قبرص.
* مناهضة التحالف الثلاثي: اتخذت تركيا موقفًا مناهضًا من التحالف الثلاثي “المصري-اليوناني-القبرصي” منذ الإعلان عنه في 2014، حيث ترى أنه موجه ضدها نظرًا لأن علاقاتها متوترة مع دوله الثلاث. ورغم نفي (القاهرة، وأثينا، ونيقوسيا) أن تعاونها موجه ضد أى دولة في البحر المتوسط إلا أن أنقرة لم تقتنع بذلك. ويرجع الفضل لهذا التعاون الثلاثي في ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص وبدء اكتشاف حقول الغاز المصرية التي أبرزها حقل “ظهر”. وقد برز الاستياء التركي من دول التحالف الثلاثي جليًا بعد عقد القمة الخامسة بالعاصمة القبرصية نيقوسيا في 21 نوفمبر 2017، حيث رفضت ما جاء في البيان الختامي للقمة من دعوة لحل القضية القبرصية وفق قرارات الأمم المتحدة. كما اعترضت أنقرة على إجراء اليونان ومصر مناورات (ميندوزا5) العسكرية البحرية قرب سواحل جزيرة “رودوس”، وأجرت مناورات بحرية في الموقع نفسه، مما يدل على استياء أنقرة وتخوفها من نجاح التعاون الثلاثي، لانه يهدد مصالحها في شبه جزيرة قبرص، وشرق المتوسط، وداخل الاتحاد الأوروبي، وفي المقابل يعزز المكانة الإقليمية لثلاث دول محل خلاف معها.
* إستعداء مصر: اتخذ “أردوغان” موقفا سلبيًا من الدولة المصرية حكومة وشعبًا منذ ثورة 30 يونيو 2013 ورفض الاعتراف بها، وتم تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد تبادل سحب السفراء، وقد تعددت بعد ذلك أساليب وسبل “أردوغان” لمعاداة القيادة السياسية المصرية والعمل ضدها عبر دعم التنظيمات الإرهابية واستضافة عناصرها. ورغم وجود بعض صور التقارب المصري – التركي التي برزت في نهاية عام 2017، ومنها انخفاض حدة الخطاب السياسي السلبي الموجه من قبل “أردوغان” ضد مصر، ووجود تنسيق مصري – تركي لحل قضية القدس، واستئناف عقد منتدى الأعمال المصري – التركي وعزمه تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، إلا أن “أردوغان” يرى مصر منافسا إقليميا قويا له ويعمل على افتعال الأزمات دوما معها لاستعدائها، ووقف التنمية الاقتصادية والصعود السياسي الاقليمي الذي تمكنت القيادة السياسية المصرية من تحقيقه في السنوات الأربع الأخيرة، وهي ذات السنوات التي شهدت تراجعًا تركيًا حادًا في كافة المجالات داخليًا وخارجيًا. وموقفه العدائي من التنقيب عن غاز المتوسط هو محاولة لجر مصر لمواجهة عسكرية بحرية تستنفز قوتها، بيد أن القيادة السياسية واعية لمثل تلك المحاولات اليائسة التي تهدف لعرقلة جهود التنمية المصرية ولذا كان رد القاهرة عليه سياسيا عبر بيانات وزارة الخارجية وعسكريا عبر تنفيذ عمليات بحرية واسعة في شرق المتوسط، تؤكد جهوزية الجيش المصري العاشر على مستوى العالم للتصدي لأى عدوان ضد المياه الإقليمية المصرية.
وختاما، نجد أن الاعتراض التركي للتنقيب عن غاز المتوسط من قبل مصر وقبرص غير قانوني ويدل على إفلاس سياسي ورغبة في افتعال الأزمات الخارجية، وسيؤثر سلبًا على العلاقات التركية الأوروبية لأن الاتحاد الأوروبي سيرفض أى تهديدات ضد دوله وربما يتدخل سياسيًا ويفرض عقوبات ضد أنقرة حال تمادت في معاداة قبرص. وكذلك سيؤثر ذلك الاعتراض سلبًا على العلاقات التركية المصرية المتوترة منذ 2013. ورغم إبداء كل من أنقرة والقاهرة رغبتهما في تعزيز التعاون الاقتصادي بينهما بما يعود بالنفع على البلدين، إلا أن العلاقات السياسية ستظل تحتفظ بأقل مستوى تمثيل دبلوماسي وسيستمر “الجفاء السياسي” بين البلدين طالما استمرت معاداة “أردوغان” للقيادة السياسية المصرية التي تحولت لعداء شخصي من جانب أردوغان يعرقل أى تقدم في مستوى العلاقات بين القاهرة وأنقرة.
مجلة السياسة الدولية