تأتي الذكرى الخمسون لإحراق المسجد الأقصى يوم أضرمت النيران في جنباته يد الحقد المسعور والعنصرية المقيتة، في وقت مازالت فيه الغطرسة والعنجهية الصهيونية تواصل عربدتها ومجونها في المدينة المقدسة المحتلة باعتداءات واستفزازات يومية بحق المقدسيين في محاولة لتهويد القدس وطمس هوية المدينة المقدسة بالكامل .
المؤسف أن هذه الذكرى الأليمة لم يعد لها ذلك الوقع الواجب إيمانياً وعقدياً وقومياً، بما يمثله ذلك من التزام أدبي وأخلاقي وعربي وإسلامي ليحييها جميع العرب والمسلمين، وإنما غدت مجرد ذكرى عابرة لا تكاد تذكر في نشرات الأخبار، بل وتتعمق جراح النسيان مع اقتصار إحيائها على الشعب الفلسطيني الذي أحيا الذكرى الخمسين لإحراق المسجد الأقصى المبارك في الحادي والعشرين من أغسطس عام 1969، بعد أن أقدم اليهودي المتطرف مايكل دينيس ذي الجنسية الأسترالية بإشعال النيران في المسجد، حيث أتت ألسنة اللهب على أثاث المسجد المبارك وجدرانه ومنبر صلاح الدين الأيوبي، الذي يعتبر تاريخياً حيث أعده القائد صلاح الدين لإلقاء خطبه من فوقه بعد انتصاره وتحريره لبيت المقدس، كما أتت النيران الملتهبة في ذلك الوقت على ثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب شمالا داخل المسجد الأقصى.
لم تكن جريمة إحراق المسجد الأقصى سوى البداية لمخطط شامل يستهدف القضية الفلسطينية برمتها، ينطلق من الاستيلاء على القدس والمسجد الأقصى، فليس مدهشاً أو مفاجئاً امتلاك الجماعات اليهودية المتطرفة المنادية ببناء ”المعبد” مكان المسجد الأقصى جماعات ضغط فاعلة ومؤثرة، سواء على مستوى قطعان المستوطنين أو على مستوى المواقع القيادية في حكومة الاحتلال وبرلمانه، وتنامي الدعم الحكومي لهذه الجماعات المتطرفة، والزعم بحق قطعان المستوطنين بالصلاة في المسجد الأقصى.
وإذا ما تقصينا ملابسات كل جريمة اعتداء تعرض لها المسجد الأقصى، وجدنا تشابهاً في الأهداف وفي سلوك القيادة الإسرائيلية التي تسارع بعد كل حادث إلى تشكيل لجنة أو عقد محكمة كوسيلة لامتصاص غضب الرأي العام العالمي والمحلي، ثم تدفن الجريمة في غياهب التاريخ، ولهذا فإن تكرار الاعتداءات وأسلوب تعامل القيادة الإسرائيلية معها يثبتان وجود نهج يستهدف الأماكن المقدسة، والهدف المشترك لكل الاعتداءات كان ومازال فرض ”التهويد” على المدن والأماكن العربية المقدسة، ومحاولة طمس معالمها العربية، الإسلامية والمسيحية، فالنهج الإسرائيلي يحفز على الاعتداء على الأماكن المقدسة إلى أقصى حدٍّ، تلك الاعتداءات التي توصف فيما بعد بالخطأ أو سهو وقع على مستوى وحدات قتالية دنيا أو أفراد يمكن وصفهم فيما بعد تنفيذ الجريمة بالمجانين.
إذن لم تكن جريمة الإحراق حدثاً عابراً، بل كانت خطوة على طريق سار فيها الصهاينة منذ قيام كيانهم الغاصب عام 1948، بزعم إعادة بناء الهيكل اليهودي المزعوم مكان المسجد الأقصى بعد إزالته رغم كل المواثيق الدولية التي تمنع المساس بالمقدسات والآثار. ففي تموز عام 1948 أغار الصهاينة على القدس حيث وجهت المدفعية قذائفها صوب الأماكن المقدسة، فأصابت إحدى هذه القذائف مسجد الصخرة وقُتل بعض المصلين، كما نتج عن تتابع القصف حدوث خرق كبير في سقف الرواق الأوسط لقبة الصخرة، وتحطم شباك القبة المصنوع من الفسيفساء والزجاج المذهب الذي كان من التحف النادرة.
وفي عدوان حزيران عام 1967، اعتدى الصهاينة على المسجد الأقصى، حيث استباحوا قدسيته وقتلوا العديد من الأبرياء، وأقاموا صلواتهم داخل الحرم، ثم تتابعت اعتداءاتهم بذرائع واهية، فأخذت السلطات الإسرائيلية تقوم بالحفر في أماكن متعددة في الأحياء العربية المصادرة داخل السور والمناطق الملاصقة للحائطين الجنوبي والغربي للحرم الشريف. وتغلغلت إلى مسافة 230م أسفل الحرم وعقارات الوقف الإسلامي التابعة له وبعمق عشرة أمتار وعرض 6 أمتار. وترتب على هذه الحفريات تصدع الزاوية الغربية الفخرية (مقر مفتي الشافعية)، فضلاً عن تهديد سور الحرم.
كما سعت إسرائيل لوضع يدها على مقبرتي باب الرحمة واليوسفية الملاصقتين للحرم الشريف من الجهة الشرقية وضمهما إلى متنزَّه إسرائيل الوطني.
أضاف الصهاينة جريمة جديدة حين واصلوا حفرياتهم، وأعلنوا عام 1981م أنهم توصلوا إلى نفق يمتد تحت المسجد الأقصى، يصل ما بين أسفل حائط المبكى وقبة الصخرة المشرفة، وزعم بعض الحاخامات أن هذا النفق هو أقدس الأماكن اليهودية، وأنه أهم من حائط المبكى، إذ هو ـ على حد زعمهم ـ بوابة كيفونوس الواردة في كتاب التلمود، وهي أهم مكان للصلاة. ويقوم عدد من اليهود المتشددين والمستوطنين بمحاولة دخول باحة المسجد الأقصى بشكل شبه يومي مستغلين زيارات سياحية.
إن تهويد القدس، وتغيير معالمها، وبناء المستوطنات على مرأى من العالم كله، وطرد أهلها… كل ذلك ينبىء بما قاله هرتزل: ”محو كل أثر لا يمت إلى اليهودية بصلة”. فما حدث ويحدث في فلسطين والقدس برهان قاطع على أن البشرية كلها تغوص في مستنقع اللاشرعية التي تهدد العدالة في العالم. فالقانون الدولي يغيب حينما تحضر القضية الفلسطينية، ويحضر حين تغيب تلك القضية. يقول الأديب الراحل غسان كنفاني: ”إذا فشل المدافعون عن القضية، فيجب أن نغير المدافعين، لا أن نغير القضية”. وفي قول آخر للمفكر الفرنسي جورج مونتارون: ”أنتم العرب أسوأ مدافعين عن أقدس قضية”. القدس هي فلسطين… وفلسطين هي العروبة، وهي رمز للتآخي الإسلامي المسيحي الذي جسدته العهدة العمرية الموقعة بين كل من الخليفة عمر بن الخطاب والبطريرك صفرونيوس بطريرك القدس، وهو عربي دمشقي الأصل، اشترط باسم المسيحيين ألا يسكن القدس يهود… فكان له ذلك.
تعد العهدة العمرية الصادرة عام 15 هجري، الموافق 636 ميلادي أساساً استراتيجياً للتسامح بين المواطنين المسلمين والمسيحيين وتعايشهم في القدس التي هي امتداد تاريخي للثقافة والتراث العربي ولكل الثقافات الأخرى العريقة التي تجلت في هذه المدينة المقدسة. وكان القائد البطل صلاح الدين الأيوبي حين نظر إلى السماء في إحدى الليالي وناجى ربه قائلاً: ”يا رب إني أستحي أن أنظر إليك والقدس يعبث بها المحتلون… ولن يهدأ لي بال حتى أحررها، وقد تم له ذلك عام 1187 ميلادي”. يقول الدكتور محمد عمارة المفكر والمؤرخ المصري: ”مدينة القدس بناها الكنعانيون، وهم عرب أجداد الشعب العربي الفلسطيني في الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل ظهور الديانة اليهودية بثلاثة قرون، فأين هي علاقة القدس بالديانة اليهودية التي لم تكن قد وجدت بعد؟!
القدس اليوم بعد أن احتل الصهاينة قسمها الشرقي في حرب حزيران عام 1967 نتيجة تواطؤ استعماري غربي، وضعف وتمزق عربي لا مثيل له في تاريخ هذه الأمة، يُفرض عليها واقع القوة الذي يراد له أن يخلق حقاً لليهود فيها، وأن يلغي حقاً تاريخياً وحضارة للعرب والمسلمين.
والعيب كل العيب إعادة تذكير كل عربي ومسلم بما تمثله القدس من رمزية دينية عالية وغالية في أنفس ومهوى قلوب معشر العرب والمسلمين، وما يشكله المسجد الأقصى من مكانة كبيرة جدًّا وقيمة تعطي للقضية الفلسطينية رمزيتها التاريخية، لكن المؤلم أن قطار الزمن يقطع أشواطاً متسارعة على قضبان التاريخ، وتتوالى معه ذكرى إحراق المسجد الأقصى الواحدة تلو الأخرى، فيما لم يحرك حجر المياه الراكدة خلال هذا الفضاء الزمني الواسع، ولا يزال يرزح تحت نير التدنيس والتهويد، سواء من خلال الاقتحامات اليومية أو النخر المستمر لأساساته.
إن هذه الذكرى المؤلمة لهذه الجريمة لم ولن تكون الجريمة الأولى والأخيرة، وإنما تأتي في إطار السلسلة المتواصلة من عمليات التدنيس والتهويد الصهيونية الممنهجة ضد المسجد الأقصى، وبينما تستمر هذه الاعتداءات غير المسبوقة يتم سوق الفلسطينيين إلى مفاوضات تحت حراب الاستيطان والتهويد، وكل إرهاصاتها تشير إلى أنه يراد منها أن تكون اللحظات الحاسمة والمصيرية في ترتيب نهائي وبرعاية أميركية لصالح الاحتلال الصهيوني، يعلن فيها النهاية الحقيقية للقضية الفلسطينية، بحيث تتحول إلى ذكرى جديدة كذكرى النكبة وإحراق المسجد الأقصى وإحراق الحرم الإبراهيمي وغيرها، ومما يلاحظ أن هناك سباقاً نحو الزمن لاستغلال الراهن العربي المتضعضع تحت ضربات الفوضى الأميركية الخلاقة للوصول إلى الهدف الصهيو ـ أميركي المنشود.
لكن ورغم كل هذا التمادي الصهيوني غير المسبوق ضد المسجد الأقصى المبارك، فإن الرهان على الشعب الفلسطيني لا يزال قائماً، والثقة فيه كبيرة، بالاستمرار في تقديم التضحيات وبذل الغالي والنفيس من أجل حماية ثالث الحرمين الشريفين، وتطهيره من الرجس والدنس، وكذلك إفشال المؤامرات القائمة والمستمرة لتصفيته وتصفية قضيته العادلة.