كان يوماً مأساوياً بالنسبة لعلماء الفضاء جعلهم يبكون كثيراً، أُعلِنَ عن موت روبوت Opportunity على المريخ، في الثالث عشر من فبراير/شباط 2019، بعد ثمانية أشهر من آخر اتصال مع الأرض.
على مدار 15 عاماً تقريباً، تجولت مركبة الاستكشاف ذات العجلات الست وحجم عربة الغولف على الكوكب الأحمر، حيث وجدت في 45 كيلومتراً دليلاً قاطعاً على أن جارنا الكوكب الأحمر كان يضم مسطحات كبيرة من المياه السائلة في الماضي البعيد.
تسببت عاصفة ترابية عنيفة في حجب الألواح الشمسية بالطوافة، ومنعتها من إعادة شحن بطارياتها.
وداعاً أيها الروبوت.. الدموع في عيون علماء الفريق الذي عمل معه
قال جون كالاس، مدير المشروع في مختبر الدفع النفاث: «مع توأمه Spirit، جعل Opportunity المريخ مكاناً مألوفاً»، حسبما ورد في تقرير لموقع El País الإسباني.
قامت وحدات التحكم في السيارة بأكثر من 835 محاولة للاتصال بالروبوت الجيولوجي، حتى إنهم أرسلوا Oppy -كما كانوا يدللونه- أغنية أخيرة لإيقاظه: I’ll Be Seeing You لبيلي هوليدي، والتي دفعت الدموع في عيون عديد من أعضاء الفريق.. ولكن الصمت كان الجواب الوحيد.
كانت تلك هي النهاية.. قال كالاس بجنازة نظمت في باسادينا بولاية كاليفورنيا: «هذا يوم صعب».
وتابع: «على الرغم من أنه آلة وأننا نودِّع بعضنا بعضاً، لا يزال الأمر صعباً للغاية ومؤثراً».
وكتبوا على حساب تويتر الرسمي لـOpportunity: «ارقد الآن أيها الروبوت، لقد انتهت مهمتك».
انتشرت تعبيرات الألم عبر الإنترنت، وقال الكاتب جوسلين ريش: «لم أتخيل قط أنني سأجلس أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بي وأنا أبكي للحصول على آخر رسالة من روبوت على المريخ، لكنني أجلس هنا وأمسح الدموع».
كيف يمكن أن يتورط البشر في علاقة عاطفية مع الآليين؟
أظهرت مظاهر التكريم تلك نزعة بشرية لا تُصدَّق؛ ألا وهي التورط العاطفي مع الجماد.
بعد كل شيء، كان Opportunity جسماً غير طبيعي، هيكل من الألومنيوم والكابلات، وكاميرات ولوحات. كان «شيئاً» في النهاية.
توضح كيت دارلينغ، من Media Lab في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «نحن مُبرمَجون بيولوجياً لإسقاط النية والحياة على أي شيء يبدو قائماً بذاته، ولهذا السبب يعامل الناس جميع أنواع الروبوتات كما لو كانوا أحياء».
بالنسبة إلى هذا الاختصاصية في الأخلاقيات والقانون والتي تُقدَّم في مؤتمر IBM Think بسان فرانسيسكو باسم Mistress of machines (عشيقة الروبوتات)، لدينا ميل عام إلى إضفاء الطابع الإنساني على الحيوانات وحتى الكائنات غير الحية من حولنا أو التي نتفاعل معها بصورة متكررة.
يخلق البشر روابط عاطفية مع دُمى الحيوانات والسيارات وغيرها من الآلات، وإذا كانت مجهزة بملامح أو أجزاء جسم مميِّزة للكائنات الحية -مثل العيون أو الذراعين- فإننا نعتبرها كيانات بدلاً من كونها أجهزة أو أدوات؛ نُطلق عليهم أسماء، ونتعامل مع روبوت المكنسة الكهربائية على أنه «هو» بدلاً من «هذا».
تحذر كيت من أن «الروبوتات ليست لها مشاعر، لكن الأشخاص الذين يتعاملون مع الروبوتات لديهم مشاعر تجاهها. وهذا لم يتم استكشافه بالكامل».
كاد يضحي بحياته من أجل كرة طائرة
أظهر البشر على مدى أجيال ميلاً غريباً إلى مصادقة الأشياء، إما كإسقاطات وِإما في بحثنا المستمر عن المودة والصحبة.
بالفيلم الأمريكي «Castaway» في عام 2000، تخاطر الشخصية التي أدى دورها توم هانكس بحياتها لإنقاذ كرة طائرة تدعى ويلسون، الذي أصبح أفضل وصديقه المقرب في عزلته على جزيرة صحراوية بالمحيط الهادئ.
ومع ذلك، والآن بعد أن أظهرت ابتكاراتنا عوامل ذكاء أولية، فإن الروابط التي يقيمها البشر مع الآلات أصبحت أكثر إثارة للإعجاب.
أمور غريبة يقوم بها جنود الجيش الأمريكي من أجل الروبوتات
أصبحت الحروب في أفغانستان والعراق دراسة ميدانية غير مسبوقة في العلاقات الإنسانية مع هذه الكائنات الاصطناعية.
كانت هذه الحروب هي الأولى في التاريخ التي تشهد انتشاراً واسعاً لآلاف الروبوتات القتالية المكلفة مسح الطرق لكشف الأجهزة المتفجرة، والعثور على قنابل تحت السيارات، والتجسس على العدو.. وأيضاً لإبادة الأشخاص.
رغم ذلك، ما زال الأمر الأكثر إثارة للدهشة أن قدرات هذه الآلات هي التأثيرات التي تحدثها على المتحكمين فيها من البشر.
في عام 2007، أجرى مراسل صحيفة The Washington Post الأمريكية، جويل غاريو، مقابلة مع أفراد من جيش الولايات المتحدة حول علاقاتهم مع الروبوتات.
انتهى الأمر بالكولونيل الذي أشرف على تمرين اختبار روبوت صُمِّمَ للمشي وتفجير الألغام الأرضية، بأن يطلب منه التوقف، لأن صورة الروبوت الذي كان يزحف محطماً عبر الحقل بعد الانفجار «غير إنسانية» أبداً.
قائد بالجيش الأمريكي رفض استخدام الروبوت الذي دربه في تفجير الألغام
الجنود، الذين وضعوا حياتهم في كثير من الحالات بأيدي هذه الآلات، لم يعطوها أسماءً حميمة فحسب، بل فعلوا أكثر من ذلك بكثير.
يروي بيتر وارن سينجر في كتاب Wired for War: The Robotics Revolution and Conflict in the 21st Century، قائلاً: «هناك قصص عن الجنود الذين خاطروا بحياتهم لإنقاذ الروبوتات التي عملوا معها.. حتى إن الروبوتات العسكرية تلقت أوسمة شرف وجنازات رسمية».
علاقات مغرية ولكنها مدمرة
نظراً إلى أن المساعدين الرقميين أصبحوا في كل مكان، أصبحنا معتادين التحدث معهم كما لو كانوا كائنات حساسة.
هناك أولئك الذين تعاملوا بالفعل مع Siri أو Alexa أو Google Home على أنهم من المقربين، كأصدقاء ومعالجين نفسيين.
تقول كيت: «نعمل يوماً بعد يوم على خلق مساحات تتجه فيها التكنولوجيا الآلية إلى التفاعل مع البشر، ويثير ميلنا إلى إضفاء سمات حقيقية في الروبوتات تساؤلات حول استخدام التكنولوجيا وآثارها».
في كتابها Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other، تشعر عالمة النفس شيري توركل بالقلق من أن علاقات الروبوتات المغرية، والتي يُفترض أنها أقل توتراً من العلاقات مع البشر، تجعل الأشخاص يتجنبون التفاعل مع أصدقائهم وأفراد أسرتهم.
نظراً إلى تغلغل الذكاء الاصطناعي في حياتنا، يجب أن نواجه احتمال أن يؤثر في عواطفنا ويعيق الروابط الإنسانية العميقة.
تدرس كيت بالتحديد الآثار الاجتماعية والأخلاقية والقانونية قصيرة المدى الناتجة عن دمج التكنولوجيا الروبوتية في المجتمع، واستكشفت كيف تعمل الروبوتات الاجتماعية باعتبارها انعكاسات لإنسانيتنا؛ كيف تثير عواطفنا، وكيف تفجر مشاعر التعاطف لدينا، فضلاً عن عملها في مرافقة الأشخاص المصابين بطيف التوحد أو في مجتمع يزداد فيه عدد كبار السن.
أوقِفوا تعذيب الروبوتات
في عام 2013، بورشة عمل في جنيف، أعطت كيت خمسة فرق من الأشخاص روبوت Pleo، وهو لعبة ديناصور للأطفال، له عيون واثقة وحركات حنونة. وطلبت منهم أن يُطلقوا عليه اسماً والتفاعل معه مدة ساعة تقريباً.
تتذكر كيت قائلةً: «ثم قدمنا لهم مطرقة وفأساً، وقلنا لهم أن يعذبوا ويقتلوا هذه الروبوتات».
لم يوافق أيٌّ من المشاركين على القيام بذلك، وأخيراً، هدَّدَت كيت: «سندمر جميع الروبوتات ما لم يدمر أحدهم أحدها بفأس».
حينها، وقفت امرأةٌ، وأخذت الفأس وضربت الروبوت في رقبته، فارتعدت الغرفة بأكملها.
تقول: «لقد كان ذلك مأساوياً أكثر مما توقعنا».
إنها ليست مجرد حكاية؛ ففي إحدى الدراسات، استخدم باحثون من جامعة دويسبورغ-إيسن بألمانيا ماسحاً ضوئيا وظيفياً للرنين المغناطيسي لتحليل ردود فعل الناس على فيديو لشخص يعذب روبوتاً على هيئة ديناصور Pleo؛ خنقه، ووضعه داخل كيس من البلاستيك وضربه.
اكتشفت عالمة النفس أستريد روزنتال فون دير بوتن وزملاؤها أن المشاركين شعروا بالتعاطف عندما رأوا روبوتاً يتعرض للتعذيب.
كانت الاستجابات الفسيولوجية والعاطفية التي قاسوها أقوى بكثير من المتوقع، على الرغم من إدراكهم أنهم كانوا يشاهدون روبوتاً.
تُلاحَظ هذه الأنواع من ردود الفعل على الشبكات الاجتماعية في كل مرة تقوم فيها شركة Boston Dynamics برفع مقطع جديد لأحد الروبوتات التي تتلقى ركلاً وقرصاً، لإظهار أنها تستطيع التعامل مع قوى غير مقصودة.
في عام 2015، قالت منظمة حقوق الحيوان PETA: «في حين أن ركل روبوت رباعي الأرجل أفضل بكثير من ركل كلب حقيقي، إلا أن معظم الأشخاص المنطقيين يعتقدون أنه حتى فكرة هذا العنف ليست مقبولة».
فضلاً عن أنهم أشاروا إلى رأي مسلسل Westworld، حول انتفاضة الآليين بعد عقود من الإخضاع.
في هذا السياق، نشأت حملة Stop Robot Abuse: «اشترِك معنا في وقف الإساءات والقسوة تجاه الروبوتات! إساءة استخدام الروبوت مشكلة حقيقية ويجب أن تتوقف فوراً! انضم إلينا وساعدنا بتعليم الأطفال من البشر كيفية معاملة الروبوتات بشكل أفضل، من عمر مبكر».
ومع ذلك، فإن مشكلة تعذيب الروبوت لا علاقة لها بالروبوت نفسه، بل بالقيم الاجتماعية والدوافع لدى الأشخاص الذين يشاهدون ذلك.
حتى إن الناس يخجلون من الروبوتات
مظهر الآلات له دور مهم في كيفية تعاملنا معها؛ إذ اكتشف الباحثون عام 2016 بجامعة ستانفورد، أن الأشخاص يشعرون بعدم الارتياح حقاً عندما يطلب منهم لمس الأجزاء الحميمة من الروبوت.
يقول جامي لي، أحد مؤلفي الدراسة: «يستجيب الناس للروبوتات بطريقة فطرية واجتماعية».
وأضاف: «تنطبق الأعراف الاجتماعية حول لمس الأجزاء الخاصة لشخص آخر أيضاً على أجزاء جسم الإنسان الآلي».
في كثير من الحالات، تأتي تصورات الناس حول ماهية الروبوت وما يستطيع فعله من الكتب الخيالية.
تقول كيت: «أعتقد أننا محاصَرون للغاية في أفكار الخيال العلمي وثقافة البوب حول ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي والروبوتات أو لا يستطيعان فعله؛ فالناس في بعض الأحيان يبالغون في تقدير أو التقليل مما يمكن أن تفعله التكنولوجيا».
نعرض على الروبوتات معلومات أذكى مما لديهم، لا تزال الروبوتات غير قادرة على التعامل مع الأشياء خارج نطاق محدود للغاية.
في بعض الحالات، يمكن أن يكون ذلك ممتعاً وفي حالات أخرى، قد يمثل مشكلة.
ونثق بها أكثر مما ينبغي
وكما تتذكر الباحثة، يوجد مفهوم يُطلق عليه تحيز الأتمتة: «في بعض الأحيان نعتمد كثيراً على الآلات. نثق ثقة عمياء باتخاذها للقرارات، أو نثق بأن الخوارزمية محايدة وليست منحازة. في كثير من الأحيان، الأمر ليس كذلك».
في حالة Opportunity، ربما كان التصور الاجتماعي يتأثر بشخصيات مثل روبوت Wall-E. وكذلك بالنسبة للأسلوب الغريب في كتابة حسابات تويتر الرسمية لهذا النوع من الآلات أو ما يُعرف باسم التأطير المجسم: في شبكاتهم الاجتماعية، يبدون أحياء ولهم شخصية وإرادة.
ومن ثم فإن تسلل هذه الكائنات الاصطناعية في المجتمع وفي بيئتنا الخاصة يفتح مجالاً غير مستكشف بالنسبة لعلم النفس.
تقول الباحثة: «وصول الروبوتات يبدو كأنه جنس فضائي يهبط على الأرض».
السعودية تمنح الروبوت صوفيا الجنسية/ويترز
تشك في أننا سوف نعامل الروبوتات كحيوانات أليفة خلال المرحلة الأولى، ونحن لا نعرف ما يجب القيام به.
الخطوة التالية؛ هل تتمتع الروبوتات الاجتماعية بحقوق قانونية؟
هذه الخطوة الآن تنتمي إلى مجال الخيال العلمي والتكهنات.
حسناً، ليس كثيراً؛ ففي عام 2017، أصبحت المملكة العربية السعودية أول دولة تمنح الجنسية للروبوت.
دون أن تكون مُلزَمة بارتداء الحجاب أو أن تكون بصحبة ولي أمرها، تحصل هذه المرأة الاصطناعية على بعض الحقوق التي لا يمكن أن تتمتع بها المرأة السعودية نفسها في بلدها.