نرجسية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونجاحه السابق كرجل أعمال في عقد صفقاتٍ بعدّة أمكنة في العالم، واعتماده في سنواتٍ طويلة من سيرة حياته التجارية والمالية والعقارية على العلاقات الشخصية وعلى الإعلام، ذلك كلّه جعله يعتقد بأنّ ما نجح به من أسلوب في حياته الشخصية يمكن أن ينجح أيضاً في عمله السياسي كرئيس للولايات المتّحدة. ولو راجعنا تصريحات ترامب عن زعماء آخرين في العالم لوجدنا بأنّ المعايير الشخصية هي التي تسود في تعليقاته حيث المبالغة والتضخيم في المدح أو الذمّ للأشخاص، وليس معايير المصالح الأميركية وتقاليد العلاقات بين الدول والحكومات.
فما كان من أسلوبٍ ناجح في الحياة الشخصية لترامب أصبح الآن سبباً لفشل ترامب في حياته السياسية والتي بدأها فقط منذ انتخابه في العام 2016. وهاهي سياسات ترامب الخارجية تتعثّر الواحدة تِلْوَ الأخرى، وتصطدم بما هو قائم من معايير المصالح في العلاقات بين الدول وليس بين الأشخاص الذين يحكمونها فقط. عاملٌ آخر لا يحسب حسابه جيداً الرئيس ترامب وهو دور مؤسّسات الدولة الأميركية في صنع القرارات الهامّة المرتبطة بالسياسة الخارجية، وذلك بغضّ النظر عمّن هو الحاكم في “البيت الأبيض”.
ولعلّ خير أمثلة على ما سبق ذكره، من اصطدام أسلوب ترامب الشخصي مع المصالح العليا للدولة الأميركية، هو ما حدث مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون وفشل مراهنات ترامب على قمّتين معه، ثمّ ما حدث بشأن تراجع ترامب عن قراره بسحب القوات الأميركية من سوريا نتيجة اعتراضات “البنتاغون” واستقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس احتجاجاً على هذا القرار. وهاهو الأمر يتكرّر الآن في موضوع أفغانستان حيث اضطرّ ترامب للتراجع عن عقد قمّة سرّية في “كامب ديفيد” مع زعماء “طالبان” بسبب المعارضة لهذه القمّة ومكانها وتوقيتها من قِبَل “البنتاغون” وأركان في الإدارة وفي “الحزب الجمهوري”.
أيضاً، نرى التعثّر في سياسات ترامب الخارجية مع كلٍّ من الصين وروسيا ومع بعض الحلفاء في أوروبا، حيث نلمس أيضاً الفوارق بين “رغبات” ترامب وبين ما تفرضه مصالح الدولة الأميركية، كما تظهر بوضوح الخلافات العميقة بين ترامب وبعض الفاعلين في إدارته، وبين بعضهم البعض، وهو ما حدث قبلاً مع وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي أقاله ترامب عبر “تويتر”، ثمّ مع مستشار الأمن القومي السابق ماكماستر، ثمّ مع وزير الدفاع ماتيس ومع السفيرة في الأمم المتحدة نيكي هالي، وغيرهم الكثير ممّن أقالهم ترامب أو استقالوا احتجاجاً على سياسات ترامب وأساليبه في التعامل مع أزماتٍ دولية معنيّة بها الولايات المتّحدة.
ومن التحدّيات التي يواجهها ترامب في مسائل السياسة الخارجية مصير السياسة التي سار عليها في موضوع الملفّ النووي الإيراني منذ العام الماضي، والتي بدأت بقرار الانسحاب من الاتّفاق الدولي مع إيران في العام 2015 ثمّ بتصعيد العقوبات الأميركية ضدّها، ثمّ بفرض عقوبات على من يشترون النفط الإيراني، ثمّ بزيادة الحشود العسكرية في منطقة الخليج ووصول الأمور إلى حافّة الانفجار العسكري الكبير، والذي أوقفه ترامب باللحظات الأخيرة، وذلك على الأرجح بضغوطاتٍ من “البنتاغون” وأجهزة المخابرات، وهي المؤسّسات التي تدرك التبعات الخطيرة على المصالح الأميركية في حال المواجهة العسكرية مع إيران.
حالةٌ مشابهة حدثت في سياسة ترامب تجاه فنزويلا حيث كانت احتمالات التدخّل العسكري الأميركي المباشر من أجل إسقاط نظام الرئيس مادورو على قاب قوسين أو أدنى، وبتشجيعٍ كبير من مستشارين لترامب ومن بعض “الجمهوريين”، لكن حسابات مصالح الدولة الأميركية منعت حدوث ذلك خاصّةً بسبب الموقف الروسي الرافض لهذا التدخّل الأميركي.
ولقد أشار ترامب قبل قمّته الثانية مع زعيم كوريا الشمالية بأنّه يستحقّ جائزة نوبل للسلام! كان يراهن على حدوث ذلك قبل اصطدام طموحاته بالأمر الواقع الأميركي والكوري الشمالي. وكان ترامب يراهن على قدرة إدارته على ممارسة ضغوطات على الفلسطينيين لقبول مشروع “صفقة القرن” وفشل حتّى الآن بذلك. وراهن ترامب على إمكان تركيع الصين تجارياً من خلال سياسية فرض الرسوم، وهاهو الاقتصاد الأميركي وولايات صوّتت لترامب يدفعون ثمن هذه السياسة. وراهن ترامب على ضغوطاتٍ مارسها على المكسيك لكي تساهم ماليّاً في تكلفة الجدار على الحدود معها وفشل بذلك، فقرّر ترامب عوضاً عن ذلك استخدام أموال مخصّصة لحالات الإغاثة والطوارئ في ميزانية وزارة الدفاع من أجل إقامة الجدار!.
“فقاعات” ترامب بالسياسة الخارجية على مدار أكثر من سنتين زادت أزمات العالم تعقيداً ولم تُحلّ أيٌّ منها بعد. حتّى حلفاء أميركا وأعضاء في حلف “الناتو” يعانون من آثار السياسة الخارجية لترامب، ويختلفون معه في المواقف من قضايا دولية عديدة، بينها طبعاً الملفّ الفلسطيني والملفّ النووي الإيراني، إضافةً إلى تأزّم في العلاقات الثنائية كما حدث تجارياً مع فرنسا وألمانيا وكندا.
فالخلافات بين إدارة ترامب والاتّحاد الأوروبي تزداد حول قضايا عديدة ممّا جعل التحرّك الخارجي لترامب حراكاً أميركياً فقط، ولا يحظى بالغطاء الدولي أو حتّى الأوروبي كما كان يحدث مع إداراتٍ سابقة. فلا التصعيد “الترامبي” ضدّ إيران والصين هو مدعومٌ الآن من مرجعية دولية أو أوروبية، ولا “خطّة السلام” للشرق الأوسط تشارك فيها أوروبا أو ترضى عنها روسيا والصين.
ويتزامن التراجع في آمال ترامب بتوقيع اتّفاق مع كوريا الشمالية مع التصعيد الحاصل في الحرب التجارية مع الصين والتي اندلعت في العام الماضي بين أكبر قوّتين اقتصاديتين في العالم. فالأزمة مستمرّة بين البلدين رغم أنّ الولايات المتّحدة والصين ليس لهما مصلحة في استمرار هذه “الحرب”، والتي تسبّبت بأضرار في البلدين معاً ورغم محاولة ترامب إظهار أنّ الضرر كان على الصين وحدها. وطبعاً أيُّ اتّفاقٍ لواشنطن مع كوريا الشمالية سيحتاج إلى موافقة بكين الراعية الأهمّ لنظام بيونغيانغ.
ثغراتٌ وعقباتٌ عديدة داخلية تقف أيضاً في وجه السياسات الخارجية لترامب، فالمؤسّسات العسكرية والأمنية الأميركية ما زالت تشكّك في نوايا وخطوات الزعيم الكوري الشمالي، وهي اختلفت أيضاً مع ترامب بشأن سحب القوات من سوريا وأفغانستان، و”البنتاغون” غير متحمّس جدّاً لتحسين العلاقات مع الصين وروسيا حيث يعتبرهما الخطر الأكبر المنافس للولايات المتحدة. ومجلس النواب الأميركي تقوده الآن غالبية من الأعضاء الديمقراطيين الذين يصرّون على متابعة نتائج تحقيقات موللر، وعلى مواصلة التحقيق مع العديد من الأشخاص الذين عملوا في حملة ترامب الانتخابية، وعلى التحرّك ضدّ قرار ترامب بتمويل الجدار على الحدود مع المكسيك من خلال ميزانية الطوارئ، والتحذير أيضاً من مخاطر السياسة التي يتّبعها ترامب بحقّ المهاجرين من أميركا الجنوبية.
ربّما يراهن ترامب الآن على اجتماعات الجمعية العامّة للأمم المتّحدة من أجل ازالة بعض العقبات التي تعترض طموحاته في السياسة الخارجية، أو لتحقيق تقدّم في أزماتٍ يسعى ترامب للعب دور البطل المنقذ فيها، لكن المشكلة ستكون مجدّداً في اعتماد ترامب على “خبرته” العقارية وعلى أسلوب المعايير الشخصية، بينما واقع الحال هو أنّ ترامب عديم الخبرة في الحكم والسياسة وفي فهم كيفية صنع القرار في أميركا والعالم معاً!.