اعتاد العالم خلال السنتين الماضيتين على مستوى معين من عدم الاتساق في السياسات الخارجية المتبعة من قبل إدارة ترامب. تصريحات ترامب عن كوريا الشمالية، وحلف الناتو، ومواضيع أخرى كانت تناقض في أحيان كثيرة تصريحات مسؤولين آخرين، بل ناقضت تصريحاته هو الشخصية في بعض الأحيان. ولكن، وحتى بالأخذ في الاعتبار معايير ترامب هذه، فإن اليومين الماضيين كانا صادمين، كما تقول صحيفة The New Yorker الأمريكية.
ترامب لا يعرف ماذا يريد
مساء الأحد 15 سبتمبر/أيلول، واليوم الذي تلى الاعتداء على منشآت النفط بالسعودية، صرح ترامب عبر تويتر: «هناك سبب للاعتقاد بأننا نعرف من الجاني، ورد فعلنا جاهز ولكنه محجوب في انتظار التحقق قبلاً». أصدرت صحيفة Wall Street Journal تقريراً يوم الإثنين 16 سبتمبر/أيلول بأن مسؤولين أمريكيين قد أدلوا بمعلومات للحكومة السعودية استناداً إلى تقارير مخابراتية أمريكية تفيد بأن «إيران قد أطلقت ما يزيد عن 20 طائرة مسيرة بدون طيار، وما لا يقل عن 12 صاروخاً عند منشآت النفط السعودية يوم السبت 14 سبتمبر/أيلول».
مع ذلك، وفي الحين نفسه، حدث تغيُّرٌ في نبرة ترامب. فقد كرر في تصريحاته للصحفيين بالمكتب البيضاوي بالبيت الأبيض بأن الأدلة تشير إلى أن إيران هي المسؤولة عما حدث، ثم أضاف: «أنا لا أريد حرباً مع أي كان.. بجانب كل ما أُدلِيَ به فإننا بالتأكيد نود أن نتفادى الانخراط فيه». وقد أصدر آخرون من مسؤولي الإدارة تصريحات في محاولة لتمويه –إن صح القول وفقاً لما هو ظاهر- تصريح ترامب عبر تويتر الذي أصدره مساء الأحد 15 سبتمبر/أيلول.
فقال مارك شورت، مدير مكتب نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس: «أعتقد أن قول الرئيس بأن رد فعلنا جاهز ومحجوب قد يحتمل دلالات عدة»، واستكمل قائلاً: «إحدى الدلالات المحتملة هي أن أمريكا اليوم تحت قيادة الرئيس ترامب على استعداد أتم وأفضل بكثير للتعامل مع هذا النوع من الوقائع، بصفتنا الآن مصدّراً رئيساً للنفط».
ما الذي تغير في يومين؟
ما الذي تغيَّر بين يوميّ الأحد والإثنين؟ الشيء الذي تغير هو فتح الأسواق المالية، وازدياد سعر برميل النفط الخام بحوالي 9 دولارات، أو ما يربو على 15%، وهي أكبر قفزة في سعر النفط منذ ما يزيد على عقد من الزمن. وقد دفعت الهجمات السعودية إلى خفض إنتاجها من النفط بنحو 5.7 مليون برميل يومياً، أو ما يقرب الـ50%. حين تقل الإمدادات يرتفع السعر. وهذه التعديلات الجديدة في الأسعار، والتي وقعت بالرغم من إعلان ترامب خلال نهاية الأسبوع أنه سوف يسحب من المخزون النفطي الاستراتيجي «ليحافظ على إمدادات السوق» على حد قوله، أوضحت بدورها أمرين.
أول الأمرين، أنها أزالت الغموض عن الشائعة التي حرص ترامب، وشورت، وغيرهما على إذاعتها، وهي حقيقة أن الولايات المتحدة الآن هي أكبر منتج للنفط الخام، ما يعني أن الاقتصاد في حماية من الاضطراب الحادث بالخارج. حديث ترامب عن استقلال أمريكا فيما يخص النفط، بحسب قول جيسون بوردوف، المسؤول السابق بإدارة أوباما، والأستاذ بمركز سياسات الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا: «قد أدى إلى فهم خاطئ بأن الولايات المتحدة مستقلة بشكل ما فيما يتعلق بالطاقة، وأنها منعزلة عن الارتباك الذي تخوضه أسواق النفط العالمية».
ثانياً، إن الحركة التي حدثت بأسواق النفط يوم الإثنين 16 سبتمبر/أيلول أوحت بأن تفجيراً عسكرياً شاملاً في منطقة الشرق الأوسط قد يتسبب في قفزة أكبر بكثير في السعر. ففي سنة 1973، دفع نشوب حرب أكتوبر/تشرين الأول منظمة أوبك إلى إعلان حظر النفط، وارتفعت أسعاره حينذاك بأربعة أضعاف. زادت أسعار النفط الضعف أيضاً سنة 1990، عقب غزو العراق للكويت، وحشد الولايات المتحدة لقوات عسكرية من أجل مواجهة صدام حسين. من الصعب التنبؤ بردود فعل تجار النفط إذا افترضنا وقوع أمر مثل هجوم الولايات المتحدة على مصافي النفط الإيرانية التي حثت طهران، أو أحد حلفائها الإقليميين، على مهاجمة محطة تحلية مياه سعودية. في يوم الإثنين 16 سبتمبر/أيلول، كان هناك تناقل لأحاديث حول احتمالية وصول سعر النفط الخام إلى 100 دولار أو أكثر في حال حدوث صراع شامل.
ترامب يتابع الأسواق المالية بهوس
تقول صحيفة The New Yorker الأمريكية إن ترامب يتابع الأسواق المالية عن كثب، إن لم يكن بهوسٍ شديد. وقد حدث تراجع في أسعار الأسهم على الأقل مرتين هذه السنة، مما دفع ترامب إلى تخفيف حدة توجُّهه في الحرب التجارية مع الصين. من الجلي أيضاً أنه يبدي حساسية مفرطة تجاه أي تهديد بالركود، أو أي شكل من أشكال التباطؤ الاقتصادي، وتأثير ذلك على موقفه في الانتخابات. وإلا ما السبب وراء ضغطه على الاحتياطي الفيدرالي من أجل خفض معدل الفائدة طوال التسعة أشهر المنقضية في اعتقادك؟ استعاد ترامب المشهد يوم الإثنين 16 سبتمبر/أيلول، ملاحظاً أن الحكومات الأجنبية كانت تدفع معدلات فائدة منخفضة على سنداتهم، ثم يضيف قائلاً: «والآن، وفوق كل هذا، تأتي ضربة النفط. ويحدث انخفاض كبير في معدل الفائدة، يا له من أمر مثير!».
يعي ترامب جيداً أيضاً أنه قد أقام حملته على وعد بإنهاء حروب أمريكا الأبدية، لا على إشعال حروب جديدة. هو يعرف أن حتى أكثر مؤيديه حماسة لن يرغبوا في تحمل أسعار أعلى مقابل الغاز مع بداية السنة الانتخابية، وبالطبع لن يرغب غيرهم من المصوتين في ذلك أيضاً. ومن جهة أخرى، هو يريد أن يظهر في مظهر القوة. وهو بالفعل قد ألغى هجمة عسكرية على إيران هذه السنة. كان ذلك في شهر يونيو/حزيران، بعد أن ضرب الجيش الإيراني طائرة أمريكية استكشافية بلا طيار.
ترامب في ورطة كبيرة
تلخيصاً لما سبق. يقع ترامب في مأزق، وهو نفسه المسؤول عن وضع نفسه في هذا المأزق. ومن خلال تنصل الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، وشنه حملة عقوبات على إيران، فإنه يوجه حرباً اقتصادية ضد طهران، وبذلك يعزز من موقف المتشددين الإيرانيين، كما يزعزع استقرار المنطقة التي تموج بالاضطراب بالفعل. بالإضافة إلى إتاحته للسعودية قصف اليمن ومسؤوليته عن ممارسة جرائم حرب مروعة، فهو بذلك قد شارك في كارثة إنسانية هائلة.
ووفقاً للأمم المتحدة، هناك حوالي 3.3 مليون يمني من الذين هربوا ظلوا بلا مأوى، و14 مليوناً آخرين في حاجة ماسة إلى الطعام، والدواء، وغيرها من المعونات. خلال فترة رئاسته الممتدة إلى هذه اللحظة، تنصل ترامب بشكل موسع من المسؤولية الشخصية، أو العواقب السياسية لسياساته السيئة والهوجاء. والآن، تتجه بعض انعكاسات الأفعال نحو مصدرها الأصلي.
إذا استعادت منطقة الخليج هدوءها، وإذا عادت منشآت النفط السعودية إلى الخط مرة أخرى، ستكون العواقب الاقتصادية للهجوم الذي حدث نهاية الأسبوع ضئيلة نسبياً. في يوم الثلاثاء 17 سبتمبر/أيلول، ظهرت تقارير تفيد بأن الاستعادة الكاملة لإنتاج النفط يمكن أن تتم في خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وأن أسعار النفط الخام قد انتعشت بعض الشيء. وفي الوقت نفسه، طَرَحَ اقتصاديون في شركة Goldman Sachs أن وجود أسعار عالية للنفط، مع تحفيز استثمار رأسمالي في صناعة الطاقة، قد يؤدي إلى تعزيز الناتج المحلي الإجمالي قليلاً.
بالأخذ في الاعتبار التباطؤ الاقتصادي لهذه السنة مقارنة بالسنة المنقضية، لسنا متأكدين إن كان ترامب سيجد هذه الإرهاصات شيئاً مبشراً، ولا يلام على ذلك. فهو يعلم ماذا فعلت أسعار النفط المتزايدة والمشاكل الاقتصادية مع اقتراب الانتخابات بمصير جيمي كارتر، وجورج بوش. فلا عجب أن خطاباته قد خفَّت لهجتها، بالرغم من أننا من الصعب أن نعرف على وجه الدقة ما الذي يقصده من وراء ذلك، أو حتى ما إذا كان هو نفسه يعرف أم لا.
في الوقت ذاته الذي أشار فيه إلى أنه لا يريد حرباً، فقد طَرَحَ أن الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بضربة ثأرية، ثم إدانة الحكومة السعودية بها. قال ترامب: «إذا قررنا القيام بشيءٍ كهذا فالحقيقة أن لدى الجانب السعودي عدة مسببات تستجلب تورطه في الأمر»، ثم تابع قائلاً: «سيكونون متورطين في الأمر بشدة، مما يتضمن التورط المادي بالضرورة، وهم يدركون ذلك بشكل كلي». ربما هم كذلك فعلاً. بالنسبة لأي شخص آخر، يبدو هذا تصريحاً آخر كغيره، مريعاً وغير متسق.