نقلا عن :المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
مثلما قدمت حركة حسم” (المدرجة على القوائم الأمريكية والبريطانية للإرهاب) دليلًا قاطعًا على صلتها التنظيمية بالإخوان المسلمين، من خلال بيانها بالأمس الذي ذكرت فيه: “أن مرسي كما كانت له بالأعناق بيعة، فقد صار له اليوم ثأر لا ينطفئ…”؛ فقد أعادت أيضًا ردود أفعال تنظيمات “القاعدة” و”داعش”، على وفاة “محمد مرسي”؛ الجدل من جديد حول طبيعة العلاقة بين الإخوان وجماعات السلفية الجهادية بمختلف تسمياتها. فبينما نعت حركة “طالبان أفغانستان” “مرسي” في بيانها، واصفة إياه بأنه “منارة مشرقة”؛ فقد أضاف “أبو قتادة الفلسطيني”، مفتي تنظيم “القاعدة”، إلى ذلك، ووصف “مرسي” بأنه “صاحب القلب الطاهر”. وعلى النقيض من ذلك، فقد ذكر تنظيم “داعش” في بيانه: “نهنئ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بهلاكه…”.
هذه الاستجابات المتباينة إزاء وفاة “مرسي” أعادت طرح الأسئلة من جديد حول طبيعة التفاعلات بين الإخوان وتلك التنظيمات، خاصة أن معطيات ما سُمي بالربيع العربي منذ عام 2011 وحتى الآن ما تزال تكشف عن جوانب وأبعاد جديدة لتلك العلاقة المركبة بين المعسكرين، وتقدم معطيات مثيرة عن تلك التجليات الحركية والفكرية بينهما. والشاهد هنا أن لحظات التغيير الكبرى التي شهدتها مصر منذ يناير 2011 وحتى وقت قريب، أفضت إلى تقارب بين استراتيجيات العمل التي تتبناها التيارات السلفية الجهادية بشكل خاص، وقطاعات من جماعة الإخوان المسلمين، من أجل الوصول إلى أهدافهم. هذا التقارب -والتداخل أحيانًا- فرض تحديًا كبيرًا لدراسة ودارسي الإسلام السياسي، من خلال لفت الانتباه إلى ضرورة إعادة النظر في التصنيفات والمفاهيم التحليلية الشائع استخدامها في هذا الحقل، حيث لا يزال هناك تيار في أدبيات الحركات الإسلامية يشدد على التمييز بين “الإخوان المسلمين” بوصفهم نمطًا مغايرًا ضمن التيار الإسلامي، والحركة السلفية، من حيث الأيديولوجيا واستراتيجية العمل.
في مصر ما قبل عام 2011، بدأ التمايز بين الإخوان والحركة السلفية واضحًا، وبالتالي أمكن من الناحية التحليلية تصنيف هذه الحركات والتمييز فيما بينها. لكنّ معطيات ما بعد يناير 2011 أفضت إلى تلاشي الحدود التحليلية الفاصلة بين هذين التيارين الكبيرين، نتيجة تشظٍّ مهم حدث في المواقف داخل معسكريهما. ومن ثم، تشكلت هويات جديدة على حدود وتخوم وهوامش هذه الحركات، بشكل سهّل كثيرًا من التعاون والتنسيق بين قطاعات داخل الإخوان المسلمين، وقطاعات أخرى داخل مختلف التيارات السلفية، سواء تلك التي ما تزال تحظى بشرعية العمل كحزب وتيار سياسي، أو تنظيمات “السلفية الجهادية” التي تمارس العنف والإرهاب المسلح.
“أجناد مصر” انعكاس لتعاون الإخوان مع حزب الفضيلة السلفي
أولى محطات التعاون بين الإخوان وتنظيمات السلفية الجهادية تتجسد في تنظيم “أجناد مصر” الذي كان يُعد طوال الفترة من يناير 2014 حتى أبريل 2015 أنشط جماعة إرهابية عاملة في مصر خارج شبه جزيرة سيناء. فقد نفّذ هذا التنظيم (الذي عمل في نطاق منطقة القاهرة الكبرى) 31 هجومًا قبل أن يدخل في مرحلة صمت بعد مقتل زعيمه “هشام عطية” في تبادل لإطلاق النار أثناء محاولة القبض عليه في أبريل 2015.
هنا تتبدى أهمية الإشارة إلى أن التقارب الفكري بين حزب الفضيلة السلفي وجماعة الإخوان، كان مقدمة للتقارب على الصعيد العملي على الأرض بين الجانبين. فقد تحرك الحزب بالفعل باتجاه التقارب مع جماعة الإخوان المسلمين، وتماهى معهم بعد الإطاحة بهم من الحكم، ولجأ إلى دمج عناصر من السلفيين الجهاديين بين صفوفه. بل إن مؤسس الحزب “محمود فتحي”، كان أول من دعا من إسطنبول إلى الاشتباك المسلح ومهاجمة الجنود من الجيش والشرطة.
هذا التقارب في المواقف بين الجانبين، بالتزامن مع زيادة انخراط بعض من سبق لهم القتال في الخارج، وتحديدًا هنا المدعو “همام محمد عطية”؛ أفرز في النهاية تنظيم “أجناد مصر” الإرهابي الذي ضم في بنيته التنظيمية السلفي إلى جانب الإخواني. ومن ثم عمل هذا التنظيم -في الحاصل الأخير- كمفصل أو رابطة أيديولوجية بين الإخوان والسلفية الجهادية.
اللجان النوعية للإخوان كأحد روافد “السلفية الجهاية”
منذ شهر مايو 2015، بدا أن هناك مؤشرات على وصول جماعات إرهابية متعددة الأهداف والتوجهات إلى نقاط تقارب يمكن أن نُطلِق عليها “وحدة شبكية”، بحيث تقاربت تلك الجماعات على اختلاف توجهاتها وأهدافها، وأصبحت أكثر تلاحمًا وتنسيقًا، بل وحاولت أن تستلهم تجارب بعضها بعضًا، وأحيانًا تبادلت الأدوار معًا بشكل مثير، حتى ولو لم تتلقَّ تدريبًا مشتركًا.
من ناحيةٍ أولى، بدا في تلك المرحلة أن مخزون الغضب لدى شباب الإخوان، المعرضين للتجنيد والتوظيف، كان قد تعمق بشكل خطير، نتيجة استمرار قيادة التنظيم ومنصاته الإعلامية في الخارج في تغذية الآلاف من شباب الإخوان بهذا الفكر، وذلك في الوقت الذي بدا فيه أنه لا فارق -من الناحية العملية- بين من يقول بأن النظام كافر أو مرتد (كما هو طرح السلفية الجهادية) وبين من يقول إنه نظام باغٍ (كما هو طرح الإخوان المسلمين)، فالمحصلة تقود أو تدفع نحو هدف واحد يتمثل في النيل من “النظام” ومؤسسات الدولة بشكل عام.
وقد تبدّت خطورة هذا المعطى -آنذاك- بالنظر إلى الظهور المتزامن لخلايا “داعش” في الوادي والدلتا، والتي كانت قد أعلنت مسئوليتها (تحت مسمى “الدولة الإسلامية- مصر”) عن هجمات في نفس المنطقة التي تعمل فيها الخلايا النوعية للإخوان المسلمين، مثل: الاعتداء على مبنى القنصلية الإيطالية، وتفجير مبنى الأمن الوطني في شبرا في صيف عام 2015.. إلخ.
وكان ظهور تلك الخلايا التابعة لتنظيم “داعش” في داخل منطقة القاهرة الكبرى يعكس رغبة هذا التنظيم -آنذاك- في أن يوجد لنفسه موضعًا أقوى في مصر. ومن ثم، كانت احتمالات انضمام العشرات من شباب الإخوان إلى ذلك التنظيم كبيرة للغاية، خاصة من بين هؤلاء الأكثر غضبًا وتطرفًا، ولا يرضيه ما يسمى “الجهاد التدرجي” (وفقًا لمفهوم دفع الصائل) الذي يمارسه الإخوان. والشاهد على ما نقول، هو ذلك التحول الواضح الذي شهدناه على أداء “اللجان النوعية” للإخوان المسلمين في تلك الفترة، سواء لجهة استهداف المدنيين، أو لجهة محاولة استلهام أسلوب ودعاية “داعش” في سيناء.
فعلى سبيل المثال، نشرت “حركة العقاب الثوري” في 25 يونيو 2015، فيديو بعنوان “غضبة العقاب”، تضمّن استجواب أحد المدنيين ويدعى “وليد أحمد علي”، وتسجيل اعتراف منه بتعاونه مع شرطة قسم حلوان والإرشاد عن المطلوبين في مسيرات الإخوان المسلمين. وبعد اعترافه نفّذت فيه الحركة حكمًا بالإعدام رميًا بالرصاص. صحيح أن تلك الواقعة لم تكن الأولى التي تستهدف فيها تلك الجماعة مدنيين علنًا، ولكن نشر هذا الأمر كان هو الجديد! فقد حاكى الفيديو أسلوب شرائط “ولاية سيناء” التي تبدأ بآيات قرآنية وبنشيد، وصور تدريبات عسكرية، وتحذير المدنيين من مساعدة قوات الأمن، وينتهي بتنفيذ إعدام شخص أو أكثر.
من ناحية ثانية، بدا في تلك الفترة أن لـ”داعش” مستوى ما من التأثير غير المباشر على استراتيجية وتكتيكات “العقاب الثوري” الإخوانية. وبالفعل، في يناير 2016، زعمت “العقاب الثوري” و”الدولة الإسلامية- مصر” مسئوليتهما عن هجوم إرهابي واحد في إحدى الشقق التي كانت تُستخدم كمصنع للمتفجرات في منطقة الهرم بمحافظة الجيزة. وتكرر الأمر في هجوم الثامن من مايو 2016 على إحدى دوريات الشرطة بمنطقة حلوان، ولكن هذه المرة بين “الدولة الإسلامية- مصر” و”حركة المقاومة الشعبية” الإخوانية أيضًا.
من ناحية ثالثة، تغيرت التكتيكات المتبعة من قبل “الدولة الإسلامية– مصر” منذ أن زعمت مسئوليتها عن أول هجوم لها على القنصلية الإيطالية في القاهرة. ففي صيف عام 2015، نفذت الجماعة سلسلة من التفجيرات الشاملة لسيارات مفخخة ضد منشآت حكومية رئيسية (مثل مبنى الأمن الوطني في شبرا). ولكن بحلول نوفمبر 2015 تحولت الجماعة إلى تكتيك إطلاق النار على المستهدف. والأرجح أن ذلك يعود إلى أن تنفيذ هذه الهجمات تم بواسطة أعضاء جدد كانوا في السابق ينتمون إلى مجموعتي “العقاب الثوري” و”حركة المقاومة الشعبية” الذين تبدو خبراتهم في تجهيز السيارات المفخخة شبه منعدمة، على عكس تلك العناصر التي تنتمي لخلايا السلفية الجهادية. وهذا يعني -في التحليل الأخير- أن عددًا كبيرًا من عناصر مجموعتي “العقاب الثوري” و”حركة المقاومة الشعبية” انتقل -نتيجة تأثرهم بنموذج “داعش”- من التنسيق مع خلايا “داعش” إلى الاندماج معها بالمطلق. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عناصر الإخوان الذين سبق لهم القتال في سوريا، وعادوا من هناك، عملوا -على الأرجح- كجسور للتواصل بين الفريقين، إلى أن تحقق الاندماج بالفعل، أو بالأحرى ذابت العناصر الإخوانية داخل الهياكل التنظيمية والعملياتية لخلايا “داعش”.
والشاهد على ذلك اختفاء هاتين المجموعتين تمامًا عن الساحة المصرية منذ شهر يونيو 2016، فضلًا عما كشفته الوقائع بعد ذلك.
وفي هذا السياق، تكفي الإشارة إلى نموذجين؛ الأول: هو “محمود شفيق محمد مصطفى” أو “أبو عبدالله المصري” كما كانت تسميه “داعش”. والثاني: هو “عمر إبراهيم الديب”، نجل القيادي الإخواني “إبراهيم الديب”. الحالة الأولى تمثل أحد كوادر اللجان النوعية للإخوان المسلمين بمحافظة الفيوم، الذي قرر دون سبب معروف تسليم نفسه إلى “ولاية سيناء” التي أعادت “تأهيله” من جديد وأرسلت به إلى “الكنيسة البطرسية” لينفذ بها عمليته الانتحارية في ديسمبر 2016. وقد ظهر واضحًا بالصوت والصورة في الفيديو الذي أذاعته “ولاية سيناء” في فبراير 2017 تحت عنوان “وقاتلوا المشركين كافة”. أما الحالة الثانية فتُمثل أحد أبناء قيادة إخوانية معروفة، كان قد انضوى مبكرًا ضمن اللجان النوعية للإخوان، إلى أن أعلنت أجهزة الأمن المصرية اسمه في قائمة من تمت تصفيتهم في إحدى المداهمات الأمنية لبعض البؤر الإرهابية، في 10 سبتمبر 2017، فيما عُرف إعلاميًّا بـــ”خلية أرض اللواء” التابعة لتنظيم “داعش”.
آنذاك، استمرت المنصات الإعلامية التابعة للإخوان المسلمين في تكذيب رواية وزارة الداخلية المصرية إلى أن ثبتت صحة روايتها في فبراير 2018، عندما أصدرت “داعش” في سيناء إصدارها المعنون “حماة الشريعة”، وظهر خلاله “عمر إبراهيم الديب” بالصوت والصورة معلنًا احترامه وتبجيله لخليفة “داعش” “أبو بكر البغدادي”!
تنظيم “فجر الكنانة” انعكاس لتعاون عناصر الإخوان مع “القاعدة”
انزياح وتفلت العشرات من عناصر اللجان النوعية للإخوان نحو خلايا وتنظيمات “السلفية الجهادية” (وكذلك نجاحات أكيدة حققتها أجهزة الأمن في ملاحقة تلك المجموعات)، يبدو أنه دفع القائمين على قيادة العمل الإرهابي المسلح داخل الإخوان المسلمين إلى اللجوء لمرحلة الكمون الحركي والعملياتي منذ الثلث الأخير من عام 2015 وحتى منتصف عام 2016، بهدف محاولة “تجويد” مراحل الإعداد الحركي التنظيمي، وبناء هياكل سرية تنظيمية أكثر تقدمًا، مع تطوير مستوى الأهداف والتنفيذ، والظهور بصورة جديدة وتسميات مختلفة. وبالفعل فقد أعقبت مرحلة الكمون تلك، جملة من الهجمات الإرهابية العنيفة التي دللت على تطور نوعي وتكتيكي لهذه المجموعات. وبالتالي يمكن اعتبار حركتي “حسم” و”لواء الثورة” هما الامتداد المطور لسابقاتها، أو “الطبعة الثالثة” مما يمكن تسميته “الإخوانية الجهادية”.
والثابت هنا أن حركتي “حسم” و”لواء الثورة” منذ ظهورهما في يوليو وأغسطس 2016 وحتى وقتنا هذا، نفذتا نحو 23 هجومًا إرهابيًّا في العديد من المحافظات المصرية ومنطقة القاهرة الكبرى.
لكن ومثلما حدث تعاون ثم اندماج بين بعض عناصر اللجان النوعية للإخوان وبين تنظيم “داعش” في مصر (على النحو الذي سبقت الإشارة إليه)؛ ظهرت أيضًا مؤشرات على تعاون بين أفراد من حركة حسم الإخوانية، وبعض عناصر “القاعدة”.
البداية كانت في أواخر أكتوبر 2018 عندما بثت العناصر التابعة لجهاز الإعلام داخل حركة “حسم” فيديو جديدًا على صفحة “إعلام المقاومة” بعنوان “الكمين القاتل” يحكي عن عملية الواحات البحرية الإرهابية في أكتوبر 2017، التي نفذها عناصر تنظيم “أنصار الإسلام” المرتبط بالمدعو “هشام عشماوي” ومساعده “عماد عبدالحميد”، والتي راح ضحيتها 14 من عناصر الشرطة المصرية. ثم تطور الأمر من “تعاون” إلى “ائتلاف” بين عناصر من حركة “حسم” وبعض خلايا “القاعدة”، وتجلّى ذلك في تنظيم جديد يُسمى “فجر الكنانة” أعلن عن نفسه في بيانه الأول بتاريخ 23 فبراير 2019، متوعدًا بالثأر لإعدام المتورطين في قضية النائب العام “هشام بركات”.
والأرجح أن هذا التنظيم قد تعمد تأخير الإعلان عن نفسه عدة شهور، لأسباب أمنية. وإليه يعود استهداف حافلتين سياحيتين في 29 ديسمبر 2018، و19 مايو 2019 بمنطقة المريوطية، وأمام المتحف المصري الكبير. وكذلك محاولة استهداف قوات أمنية بميدان الجيزة في 18 فبراير 2019. ومثلما أبدت بعض رموز “القاعدة” تعاطفها مع وفاة “مرسي”، ربما سيحاول هذا التنظيم القيام ببعض العمليات الإرهابية في سياق “الانتقام” لوفاته أيضًا.
لكن وبغضّ النظر عن ممكنات تطور أداء هذا التنظيم الجديد أو العكس، فالاستخلاص الأهم من كل ما سبق أنه متى توافرت تلك السياقات التي يُتاح فيها التواصل والاحتكاك بين جماعات العنف الإخوانية، وعناصر السلفية الجهادية؛ تكون الغلبة دائمًا للفريق الثاني. بمعنى أن تقارب الإخوان والسلفيين الجهاديين كان في اتجاه واحد فقط، أي تبني الإخوان لــ”النهج الجهادي”، بما يؤكد المقولة الدارجة التي لطالما رددها الكثيرون بأن الإخوان كانوا دائمًا بمثابة “المفرخة” للجماعات الأكثر راديكالية.