نقلا عن :المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
مع اندلاع موجات الاحتجاجات (الثورات) في عدة دول عربية منذ نهاية عام 2010، واختطافها من قبل جماعة الإخوان المسلمين؛ كانت تركيا هي الأخرى جاهزة ومستعدة لاختطاف الإعلام العربي بهدف النفاذ إلى الرأي العام العربي، وتهيئته للمشروعين الإخواني والتركي لقيادة المنطقة، فجعلت من وكالة أنبائها الرسمية “وكالة أنباء الأناضول” وكالة رسمية لمشروع الإخوان المسلمين. وكانت الوكالة قد تحولت قبل ذلك إلى وكالة لمشروع “أردوغان” للسيطرة على المنطقة في إطار مشروعه الذي عُرف باسم “العثمانية الجديدة”. وفي هذا الصدد، وصف نائب “حزب الشعب الجمهوري” المعارض “طورجوت ديبك”، الوكالة بأنها مجرد أداة في يد “أردوغان”، إذ تقوم بتعيين الموالين له في كوادرها، كما تستخدم كوسيلة للضغط على صحف المعارضة. وقد استغل “أردوغان” حاجة الإخوان المسلمين لتدشينِ ثم تثبيت مشروعهم إلى رافد إعلامي يتماهى مع مشروعهم، لا سيما في ظل المقاومة التي أبداها الإعلام في الدول التي سيطروا عليها، ورفضه السير في ركاب مشروعهم. واستطاع النفاذ من خلال السياسة التي اتبعتها الجماعة في التعامل مع الإعلام المصري، وهي سياسة الإزاحة والإحلال. وهي السياسة التي قامت على خلق كيانات موازية للمؤسسات القائمة يمكن الوثوق فيها وفي ولائها للنظام الحاكم في مصر، أو على الأقل الوثوق في أنها تتماهى مع “المشروع الإسلامي”.
وبما أن فكرة إنشاء كيانات إعلامية كبيرة في الفترة الحالية تعترضها الكثير من الصعوبات، لعل أهمها المشكلات الاقتصادية؛ فقد لجأ الإخوان إلى دعم مؤسسات إعلامية غير مصرية قائمة بالفعل تتمتع بمستوى ما من النفاذ. وفي هذا السياق، كان البديل التليفزيوني الجاهز هو قناة “الجزيرة” القطرية، وتحديدًا “الجزيرة مباشر مصر”. وكانت الخطوة الأولى هي إطلاق النسخة العربية من وكالة أنباء الأناضول، واختيار القاهرة في نوفمبر 2012 لتكون مقرًّا لمكتب الوكالة الإقليمي المسئول عن مكاتب الوكالة في الشرق الأوسط. وتأكيدًا لذلك قال “كمال أوزتورك” (المدير العام ورئيس مجلس الإدارة) ردًّا على سؤال حول علاقة إطلاق النسخة العربية بما تم في المنطقة بداية من عام 2011 بتأكيده أن أمر توسع الوكالة كان معدًّا سلفًا، لكنه قال: “دون أن ننفي أن الثورات العربية والأحداث التي تمر بها المنطقة قد يكون لها دور إلى حد ما في تسريع البدء بالتنفيذ، لذا أقول ربما تأخرنا، ولكننا أتينا في الوقت المناسب”.
“أخونة” الأناضول
تُعد وكالة أنباء الأناضول من أقدم الوكالات الإخبارية في المنطقة، إذ تأسست في عام 1920 قبيل إعلان الدولة التركية الجديدة التي أنهت وجود الخلافة العثمانية، ثم تحولت إلى شركة تركية مساهمة في عام 1925، حيث تلقت دعمًا كبيرًا من “مصطفى كمال أتاتورك”. والوكالة هي الوكالة الرسمية لتركيا. وشأنها شأن كل الوكالات الرسمية للدول، فإنها تخضع لملكية الدولة التي تشرف عليها عبر أجهزتها المختلفة. وجدير بالذكر هنا أن فكرة الوكالات الرسمية للدول ترجع بداياتها إلى النصف الأول من القرن التاسع، أي ما بين 1840 إلى 1850 في الدول الغربية. ومع استقلال دول العالم الثالث، شرعت جميعها، تأسيًا بالغرب ولحاجتها لمصدر إعلامي وطني للتعامل مع الأخبار، إلى إنشاء وكالات رسمية يُفترض أنها مسئولة عن بث الأخبار المتعلقة بالدولة ضمانًا لعدم تشويهها أو تحريفها من قبل أي من الوكالات أو وسائل الإعلام الأخرى. وفي هذا السياق، أكد رئيس مجلس إدارة وكالة الأناضول أن الوكالة تعكس سياسة تركيا؛ إذ لا يمكن لأي وكالة وطنية رسمية أن تكتب ما يخالف أو يتناقض مع سياسة الدولة، لكن هذا لا يتناقض مع مبدأ المصداقية الذي لطالما عُرفت به الوكالة لعشرات السنين. ومع ذلك فإن وكالة أنباء الأناضول قد تحولت في ظل “أردوغان” إلى وكالة رسمية له ولحزبه بدلًا من أن تظل وكالة رسمية للدولة، وعملت الوكالة على خدمة مشروع “أردوغان” وحزب العدالة والتنمية، ويظل التطور الأهم في ذلك السياق هو إطلاق النسخة العربية من الوكالة، الذي تم في عام 2012، أي بعد مضي 92 عامًا على تأسيسها.
ومع أنه يُمكن اعتبار إطلاق النسخة العربية من وكالة الأناضول تطورًا طبيعيًّا يُعبّر عن تطلع الوكالة لمزيد من الانتشار عبر البث بلغات مختلفة؛ إلا أن ذلك الإطلاق يعود بالأساس لأسباب سياسية وليست إعلامية. إذ ارتبط إطلاق النسخة العربية بصعود “المشروع الإسلامي” في المنطقة العربية منذ عام 2011، وتطلعات “أردوغان” نفسه لإعادة إنتاج العثمانية بحلة جديدة يكون فيها السلطان أو خليفة للمسلمين. ومن ثم كان لا بد أن يكون هناك جسر بينه وبين العرب، وهو الدور الذي سعت للعبه للوكالة بنسختها العربية، أو تكون على حد تعبير رئيس مجلس إدارة الوكالة “همزة الوصل التي ستربط تركيا بالشعوب العربية بعدما كانت لسنوات طويلة تصل أخبارنا إليهم والعكس صحيح، عن طريق وكالات أجنبية”.
وقد تم افتتاح مكتب الوكالة في القاهرة في 18 نوفمبر 2012 ليكون مكتبًا إقليميًّا قبل أن يغلق في عام 2015، وهو المكتب الذي افتُتح في إطار خطة الوكالة للتوسع وذلك بافتتاحها مكاتب إقليمية في البوسنة وبروكسل ونيويورك، وأصبح لها حتى عام 2013 مكاتب في 42 دولة في مختلف أنحاء العالم، مع وجود خطة أكبر للتوسع لتصل إلى 80 دولة في الذكرى المئوية الأولى للوكالة التي تحل في عام 2020 في إطار الهدف الأكبر لتكون الوكالة ضمن أول 5 وكالات عالمية.
وكان ملفتًا للنظر حضور وزير الدفاع التركي، إلى جانب كل من وزير الخارجية التركي، حفل الافتتاح. كما أكد “كمال أوزتورك” (المدير العام للوكالة) أن اختيار القاهرة لاستضافة المكتب الإقليمي للأناضول، جاء لما يمكن أن يمثله اتحاد أقوى بلدين في الشرق الأوسط وهما مصر وتركيا. أما “حسام مرغني” (مسئول المكتب السياسي لجماعة الإخوان آنذاك) فقد أكد أن افتتاح مكتب للوكالة في القاهرة سيسهم في إيصال رسالة واضحة وصريحة عن المكنون الحقيقي للدول العربية والإسلامية في الوقت الذي شوهت فيه الدول الإسلامية من خلال وكالات معلوم اتجاهها، مشيرًا إلى أن افتتاح مقر وكالة أنباء الأناضول بالقاهرة يشكل نقلة متقدمة في العلاقات بين الدولتين على المستويات المختلفة، وسيكون له دور كبير في التأثير الثقافي وتكوين الرأي العام، كما سيكون له تأثير في القرارات السياسية وخاصة في تغطيتها لقضايا الأمة الكبرى. ولعل تلك التصريحات تؤكد حضور الأبعاد السياسية في قرار تركيا بتوسع وكالة أنباء الأناضول في الشرق الأوسط واختيار القاهرة مقرًّا لمكتبها الإقليمي.
باختصار، سعت تركيا لتدعيم دورها السياسي في المنطقة وعلاقاتها مع مصر في ظل الإخوان عبر مساندة الإخوان إعلاميًّا من خلال وكالة أنباء الأناضول، كما تفعل قطر من خلال قناة “الجزيرة”. ومع فشل مشروع الإخوان بثورة 30 يونيو 2013، فعلت تركيا ووكالة أنبائها ما فعلته قطر وقناة “الجزيرة”، إذ شنت كل من وكالة أنباء الأناضول وقناة “الجزيرة” حربًا إعلامية ضد الدولة المصرية من خلال التركيز على كل السلبيات وتضخيمها، بل وحتى اختلاقها فيما بات يُعرف بحرب الشائعات. علاوة على ذلك فقد انخرطت وكالة أنباء الأناضول في بث أخبار مزيفة تستهدف التأثير على علاقات مصر الإقليمية على نحو ما حدث إزاء تغطية الوكالة لبعض التطورات في كلٍّ من إثيوبيا والسودان. فعلى سبيل المثال، ادعت الوكالة أن مصر تدعم “جبهة الأورومو” أثناء الاحتجاجات التي شهدتها إثيوبيا قبل نحو عامين. ورغم صدور نفي رسمي من الجانب الإثيوبي، فإن الوكالة لم تُعره أي اهتمام. كما زعمت أثناء الإعلان عن استئجار تركيا قاعدة سواكن السودانية، أن هناك تواجدًا لقوات مصرية في المثلث الحدودى بين السودان وإريتريا وإثيوبيا”، الأمر الذي ساهم طبقًا للهيئة العامة للاستعلامات بشكل كبير في تصعيد الحملات الإعلامية بين مصر والسودان.
صوت “أردوغان” العربي
بينما قال رئيس مجلس إدارة وكالة الأناضول، إن الوكالة تعتمد في عملها على “المهنية” و”الحيادية”، وإنها تستهدف أن تكون “الصوت العربي” لتركيا أو “الوسيط” بين تركيا والعرب؛ فإن المعارضة التركية ترى أن الوكالة، خاصة في رافدها العربي، قد تحولت لتصبح “صوت أردوغان” ووسيلة لنشر سياسته وميوله، وتنتقد بُعدها التام عن الحيادية، فهي لا تغطي أخبار المعارضة مثلما تغطي أخبار الحزب الحاكم. ووصف نائب حزب الشعب الجمهوري المعارض “طورجوت ديبك”، وكالة الأناضول بأنها مجرد أداة في يد “أردوغان”، إذ تقوم بتعيين الموالين له في كوادرها، كما تُستخدم كوسيلة للضغط على صحف المعارضة. ومع افتتاح مكتب وكالة الأناضول بالمغرب والتمكين لها في الساحة الإعلامية المغربية، علقت إحدى الصحف المغربية على تنامي نفوذ الوكالة بمساعدة الإخوان في المغرب بتأكيدها أن “الأناضول لم تعد وكالة الدولة التركية، وإنما أصبحت وكالة أردوغان وحزب العدالة والتنمية”.
ومقابل الدعم السياسي الذي تقدمه وكالة الأناضول لأردوغان، فإنه وفر لها دعمًا ماليًّا كبيرًا بالشكل الذي يُمكِّنها من القيام بالمهمة الأساسية الملقاة على عاتقها. إذ تداولت المعارضة التركية ما كشف عنه تقرير لهيئة الإعلام والصحافة التابعة لرئاسة الوزراء التركية، الذي يؤكد أن الهيئة قامت خلال عام 2014 -على سبيل المثال- باستقطاع مبلغ 144 مليون ليرة تركية من ميزانيتها البالغة 197 مليون ليرة تركية، أي ما يمثل 73% من تلك الميزانية، لصالح وكالة أنباء الأناضول. وفي ظل تلك العلاقة يبدو مفهومًا تمامًا الدور الذي تلعبه الوكالة في الهجوم على المعارض التركي “فتح الله جولن”، وإشاعة الكثير من الأخبار الكاذبة بشأنه. كما يبدو مفهومًا أيضًا موقف الوكالة في الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا ومن قبلها الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث تعرضت الوكالة لهجوم من المعارضة بسبب انحيازها التام لأردوغان وحزب العدالة والتنمية بتعمد إذاعة أرقام ثبت عدم صحتها بشأن النسب التي حصل عليها “أردوغان” في الانتخابات الرئاسية، وكذلك بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية. وفي ذلك السياق، قدم نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري “أوتكو شاكر أوزار”، استجوابًا برلمانيًّا حول تغطية وكالة أنباء “الأناضول” أثناء الانتخابات المحلية التي جرت في 31 مارس 2019. علاوة على ذلك، ووفق بعض المصادر، فإن الوكالة عمدت إلى القيام بأنشطة استخبارية في الدول التي توجد فيها مكاتبها، وقدم مراسلوها خدمات استخباراتية عديدة، حيث عرّضت في تقاريرها حياة عدد من المعارضين الأتراك في المهجر للخطر، على نحو ما حدث في ولاية نيوجيرسي الأمريكية العام الماضي مع زوجة “عادل أوكسوز” المطلوب في قضية محاولة الانقلاب، وكذلك مع المعارض التركي والأستاذ بجامعة يوتا “أمر الله أوسلو” في عام 2017، حينما صورهما مراسلو الوكالة دون إذنهما بما سهّل مهمة المخابرات التركية في التعامل معهما. ويُرجع “أوسلو” ما تقوم به وكالة الأناضول إلى إعادة الهيكلة التي أدخلتها عليها المخابرات التركية في عام 2011 و2012 بأوامر من “أردوغان” حتى أصبحت ذراعًا تابعًا لها.
خلاصة القول، إن الرافد العربي لوكالة أنباء الأناضول الذي أُنشئ بغرض معلن هو أن يُمثّل مع قناة TRT العربية -التي انطلقت في عام 2010- صوت تركيا العربي، أو الوسيط والجسر بين تركيا والعرب في إطار الطموحات التركية الأردوغانية للتوغل في المنطقة والقفز على مقعد قيادتها؛ إذا به -أي ذلك القسم العربي لوكالة أنباء الأناضول- يتحول إلى صوت “أردوغان” وذراعه التي ينال بها من العديد من الدول العربية، وفي مقدمتها مصر التي أفشلت مشروعه لقيادة المنطقة وإحياء مشروعه العثماني في ثوبه الجديد، وهو الأمر الذي جعل “أردوغان” يُسخّر طاقة ذلك القسم العربي ليكون منصة تمارس من خلاله جماعة الإخوان التي تستضيف تركيا الكثير من أعضائها وقياداتها الهاربين من مصر، حربًا إعلامية مكتملة على الدولة المصرية، بينما كان حلم الوكالة -ممثلًا في قسمه العربي- أن يصبح الوكالة الرسمية لمصر بديلًا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط، أو على الأقل أن يصبح القسم العربي للوكالة الركيزة الأساسية لمشروع الوكالة في المنطقة العربية. وهو الأمر الذي أدى -في النهاية- إلى تحول وكالة أنباء الأناضول من وكالة صحفية نشأت قبل نحو مائة عام إلى آلة سياسية يصفها البعض بأنها أصبحت استخباراتية تخدم مشروع “أرودغان” على المستويين الداخلي والخارجي.