تواجه العلاقات المصرية- السودانية في هذه المرحلة قدرًا لا يُستهان به من توازنات حرجة في ملفات عدة، مطلوب أن يتم صياغتها بقدر من توافق يساهم في دعم قدرات حكومة الثورة بالسودان في إنجاز أهدافها المتعلقة بالاستقرار والتنمية، وصولًا إلى محطة الانتخابات، وبما يدعم أيضًا المصالح المصرية المتمثلة في ضمان استقرار مؤسسة الدولة السودانية، وبما يحفظ أمن الحدود المشتركة والأمن الإقليمي ويساعد في مواجهة التحديات المشتركة في ملفي سد النهضة وأمن البحر الأحمر، وبما يدعم كذلك الرؤى المستقبلية فيما يرتبط بصيغ التعاون بين دول حوض النيل.
في هذا السياق، يجب الاعتراف بأن الأداء المصري في التفاعل مع مجريات الثورة السودانية قد واجه بعض المشكلات. كما وفرت سلسلة التحولات الجديدة في السودان منذ سقوط “البشير” فرصة مواتية لتصاعد أدوار قوى إقليمية أخرى، والتفاعل السريع مع المتغيرات على الأرض. ربما من بين المشكلات التي واجهت التحرك المصري في هذا المجال الميل إلى التصرف وفقًا لمدركات تقليدية فيما يتعلق بحالة المجتمعات المتنوعة عرقيًّا والمنقسمة سياسيًّا.
لكن ذلك لا ينفي نجاح القاهرة في إتاحة الفرصة لصيغ توافقية بين الأطراف السودانية، وذلك عبر تأجيل انتقال السلطة من المجلس العسكري إلى تحالف الثورة السودانية المعنون بتحالف الحرية والتغيير لمدة ثلاثة أشهر، وذلك في مقابل طرح الاتحاد الإفريقي الذي طالب بتسليم السلطة للمدنيين السودانيين في غضون أسبوعين فقط، وسط حالة من سيولة سياسية هائلة.
وقد اتسمت حسابات القاهرة بقدر من الواقعية في هذا الموقف طبقًا لعدد من الحقائق الماثلة على الأرض، أهمها سيطرة ميليشيا الدعم السريع على العاصمة السودانية، وهي ميليشيا منتمية للغرب السوداني ومتهمة بارتكاب عنف في دارفور. من ذلك أيضًا وجود حركات مسلحة على تخوم السودان شرقًا وغربًا مناوئة للمركز، فضلًا عن تحدي الدولة العميقة المتمثلة في البيروقراطية السودانية المنتمية لنظام الجبهة القومية الإسلامية (إخوان مسلمون)، وهي الجبهة التي تملك تنظيمات مسلحة ساهمت جزئيًّا في فض عنيف لاعتصام الثورة السودانية أمام القيادة العامة للقوات المسلحة، وذلك طبقًا لتحقيقات غير مستقلة قام بها المجلس العسكري.
وقد ساهم هذا التأجيل في إعطاء الفرصة في بلورة توافق سوداني بعد مخاض صعب، وذلك بأن يكون المجلس السيادي -يملك صلاحيات رئيس الجمهورية- مجلسًا مشتركًا بين المدنيين والعسكريين.
وقد عكس هذا التوافق ذاته في وثيقة دستورية وقّعتها الأطراف السودانية في ١٧ أغسطس الماضي ضمنت محددات التفاعل أثناء الفترة الانتقالية خصوصًا، وهي فترة طويلة تمتد لـ٣٩ شهرًا. كما بلورت هياكل السلطة خلال هذه الفترة، وهي: مجلس سيادي، وحكومة تكنوقراط، ومجلس تشريعي، وذلك تحت مظلة نظام سياسي برلماني.
وإلى جانب الموقف المصري في تأجيل تسليم السلطة للمدنيين، حافظ الخطاب الرسمي للقاهرة منذ اندلاع الثورة السودانية على مقولات لم تدعم أبدًا الرئيس “البشير” منذ ١٩ ديسمبر ٢٠١٨، ولم يتم ذكر اسمه في أية تصريحات رسمية لأي مسئول مصري، ولكنها تحدثت في المرحلة الأولى عن احترامها لخيارات الشعب السوداني، وثقتها في الجيش، ولكن سرعان ما تخلت القاهرة عن دعم مؤسسة الجيش في خطاباتها الرسمية، خصوصًا بعد سقوط “البشير”، واكتفت بعبارة احترام خيارات الشعب السوداني.
في هذا السياق، قام وزير الخارجية المصري “سامح شكري” بزيارة الخرطوم بعد الإعلان عن تكوين الحكومة الانتقالية مطلع سبتمبر الجاري، وأكد على دعم القاهرة للحكومة الجديدة التي هي تعبير عن الثورة السودانية وخيارات الشعب السوداني. وأكد أيضًا على دعم القاهرة للحكومة السودانية، خاصة في مجالات الربط الكهربائي، وإحياء مشروعات اللجان المشتركة بين البلدين.
على الجانب السوداني، تم التفاعل مع الموقف المصري على مستويين؛ الأول: هو المرتبط بأطراف الصراع السوداني قبل تكوين المجلس السيادي، حيث تم تبادل وجهات النظر مع كل من المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير فيما يخص الحفاظ على الكيان السوداني في مراحل السيولة الثورية. أما المستوى الثاني فهو موقف الرأي العام السوداني السلبي نسبيًّا تجاه الأداء المصري وحجم دعمه للنقل الفوري للسلطة إلى تحالف الحرية والتغيير منفردًا.
ويبدو لي أن القاهرة تراهن على الوقت في تعديل إدراكات الرأي العام السوداني تدريجيًّا، خاصة مع طبيعة مصاعب الفترة الانتقالية، وما ينتج عنها من ارتفاع سقف التوقعات من حكومة الثورة في ضوء ما تمتلكه الأخيرة من إمكانات محدودة خاصة على المستوى الاقتصادي.
في هذا السياق، يبدو على القاهرة إدراك عدد من المتغيرات الإقليمية والدولية المرتبطة بالسودان، منها أن الحكومة الانتقالية مدعومة دوليًّا على عكس حكومة “البشير”، وهو أمر يجعل الخرطوم أقل اعتمادًا على الخارج في عدد من الملفات، ومنها رفع اسم السودان من على قائمة الدول الراعية للإرهاب مثلًا، والحصول على المساعدات الاقتصادية الدولية أو الإقليمية. كما أن التفاعل الإفريقي الإيجابي مع الثورة السودانية والمدعوم دوليًّا ساهم في بلورة موقف سوداني سلبي من المحيط العربي، وهو أمر يخل بالتوازن السوداني التاريخي بين مكوناته العربية والإفريقية، وينعكس سلبًا على مكوناته الداخلية. أضف إلى ذلك أن الانقسام الخليجي الراهن سوف يلعب دورًا في توسيع الفرص أمام الخرطوم في السياق الإقليمي.
من هنا، فإن الاعتماد على عنصر الوقت ربما لا يبدو مناسبًا في ضوء بروز ثلاثة ملفات مرتبطة بالمصالح الاستراتيجية المشتركة بين مصر والسودان، وهي: مجريات سد النهضة وتعثر الوصول إلى اتفاق فني مع إثيوبيا بشأن قواعد الملء والتخزين للمياه خلف السد، وإشكالية أمن البحر الأحمر والمطلوب فيه التحرك العربي الإفريقي المشترك في ضوء سيناريوهات دولية مفارقة ربما للمصالح الأفرو-عربية. وأخيرًا، فإن الملف الليبي هو ملف مؤثر على الأمن القومي لكل من مصر والسودان خصوصًا.
ولعل هذه المشتركات الاستراتيجية تدفع بالعاصمتين المصرية والسودانية لضرورة التفكير خارج الصندوق التاريخي والتقليدي للعلاقات الثنائية، خاصة أن الرسائل السودانية الـ١٦ التي ألقاها ممثل الحرية والتغيير “محمد ناجي الأصم” في حفل التوقيع على الوثيقة الدستورية تفتح بابًا لمثل هذا الأداء، وذلك فيما يتعلق بعلاقات السودان الخارجية.
في هذا السياق، يكون على القاهرة على المستوى الأمني والعسكري التفاعل في مسألة احتياجات مؤسسة القوات المسلحة السودانية بما يدعمها إزاء مكون الدعم السريع، حيث يجب التفكير في انخراط هذه الميليشيات في المؤسسات النظامية للعسكرية السودانية، بما يضمن قواعد مشتركة للعقيدة القتالية، ويحقق تاليًا ربما استقرار السودان.
أما على المستوى السياسي فإنه من المطلوب تحديث أدوات الدبلوماسية المصرية لتمتد إلى تفعيل أدوات جديدة على المستويات غير الرسمية بين البلدين، ومنها اللجوء إلى مراكز التفكير في العاصمتين لطرح القضايا والتحديات المشتركة، ومحاولة الوصول إلى منظور يلبي مصالح الطرفين. كما أنه من المطلوب أن يكون لوكالة الشراكة مع إفريقيا التابعة للخارجية المصرية أدوار مركزية بالسودان في هذه المرحلة من حيث دعم قدرات دولة السودان، خاصة في مجالات الصحة والكوارث البيئية.
أما على الجانب السوداني، فإنه تقع على عاتق الحكومة الانتقالية برئاسة “د. عبدالله حمدوك” مسئولية ترشيد الحوار العام بشأن مصر حتى لا يتخذ اتجاهات شعبوية ضد مصالح البلدين، وأيضًا الانتباه لأهمية الحفاظ على التوازن الإقليمي للسودان، وهو التوازن الملبي للمكونات السودانية في المقام الأول، وله تداعياته الخطرة داخليًّا في حالة الإخلال به.
نقلا عن المركز المصري للفكر والدراسات الاسترتيجية