لم تشهد الولايات المتحدة الأميركية في السابق ما تعيشه هذه الأيام من عنفٍ كلامي كبير يصدر عن رئيسها ترامب ضدّ معارضيه من الحزب الديمقراطي وفي مواجهة العديد من المؤسّسات الإعلامية، بل حتّى ضدّ موظّفين في إدارته وعاملين في أجهزة أمنية يقومون بواجبهم كما نصّت عليه القوانين الأميركية. فالتغريدات العنيفة الصادرة عن ترامب وصلت إلى حدّ التهديد بحربٍ أهلية إذا قرّر الكونغرس عزله، بعد التحقيقات الجارية بشأن ضغوطاته على الرئيس الأوكراني من أجل إثبات صفقات فساد يريد ترامب إلحاقها بالمرشّح الديمقراطي للرئاسة جو بيدن وابنه هانتر.
وفي تغريدةٍ أخرى اتّهم ترامب رئيس لجنة المخابرات في مجلس النواب، آدم شيف، بالخيانة ودعا إلى إلقاء القبض عليه!. فترامب الحريص دائماً على التمسّك بالتعديل الثاني للدستور، والذي يؤكّد على حقّ حيازة الأسلحة، لا يبدو أنه يحرص أيضاً على “التعديل الأول” الذي يؤكّد على حرّية الرأي والتعبير، فكيف إذا كان الرأي يصدر عن مسؤولين في السلطة التشريعية مهمّتهم أصلاً مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية التي على رأسها الآن ترامب؟!.
وهذه ليست المرّة الأولى التي يُهدّد فيها ترامب بعنف الشارع من مؤيّديه، فقد قال كلاماً مشابهاً منذ أشهر قليلة خلال تحقيقات مجلس النواب في قضية التدخّل الروسي بانتخابات العام 2016. كذلك يدرك ترامب بأنّ العديد من الداعمين له في عدّة ولايات أميركية هم أيضاً من دعاة التمسّك بحيازة الأسلحة وهم مستعدّون للنزول للشوارع تأييداً له، بل ربّما باستخدام العنف أيضاً، كما فعل أفرادٌ منهم في أمكنة عدّة ضدّ مهاجرين لاتينيين أو ضدّ مراكز لأقلّيات دينية وعرقية.
وهذا التهديد من ترامب بإمكانية حدوث “حرب أهلية” ليس موجّهاً فقط للديمقراطيين وللأجهزة الأمنية، بل أيضاً لأعضاء الكونغرس من “الحزب الجمهوري” لردعهم عن التضامن مع الدعوة لعزله من الرئاسة، من خلال تخويفهم بقوّة قاعدته الشعبية التي هي الآن أساس القوّة الشعبية للجمهوريين.
لقد جرى التحقيق مع الرئيس السابق بيل كلينتون في حقبة التسعينات والسعي لعزله، فقط لأنه أنكر أولاً علاقته الجنسية مع الطالبة لوينسكي ونتيجة قضية مالية في ولاية أركنسو حينما كان حاكماً لها. وجرى دفع الرئيس السابق ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة في حقبة السبعينات لأنّه أنكر أولاً معرفته بتجسّس الحزب الجمهوري على مكتب الحزب الديمقراطي في “عمارة واترغيت”، وهي المسألة التي كشفتها صحيفة “الواشنطن بوست”. فكيف يهضم أيُّ عقلٍ الآن بأنّ الرئيس ترامب ما زال يحكم في البيت الأبيض رغم الفضائح التي جرى الكشف عنها، والكثير من المخالفات السياسية والمالية والسلوكية التي تورّط بها ترامب طيلة السنوات الماضية؟!.
ولا نعلم بعد ما الذي منع المحقّق السابق روبرت موللر من وضع استنتاجاتٍ حاسمة في تقريره العلني حول تورّط حملة ترامب في علاقات مع روسيا، رغم ما توفّر لديه من معلومات ووثائق نشرتها وأكّدتها كافّة أجهزة المخابرات الأميركية، ورغم اعترافات مايكل فلين الذي اختاره ترامب ليكون مستشاراً للأمن القومي فور انتخابه رئيساً للولايات المتّحدة، ورغم العديد من المعلومات التي نشرتها الصحف الأميركية الكبرى، وبعضها كان يتعلّق بصهر الرئيس (جاريد كوشنر) وابنه البكر (دونالد جونيور) واجتماعاتهما مع أشخاص لهم علاقة بالحكومة الروسية، إضافةً إلى ما كشفه المدير السابق لحملة ترامب الانتخابية (بول مانافورت) أمام المحقّق موللر، وأيضاً المحامي الخاص السابق لترامب (مايكل كوهين) أمام الكونغرس من تفاصيل تدين الرئيس الأميركي في أكثر من قضية سياسية ومالية وسلوكية.
فهل كان سبب غموض نتائج تحقيقات موللر عائداً إلى مخاوفه من حدوث فتنة داخلية في الولايات المتحدة، خاصّةً بعد تهديد ترامب بأنّ القاعدة الشعبية المؤيّدة له لن تسمح بإدانته أو بقرار عزله من قبل الكونغرس؟!.
أيضاً، لقد مارس الرئيس ترامب في الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر الماضي أسلوب الترغيب والترهيب على المرشّحين من الحزب الجمهوري، حيث نجح معظم من وقفوا معه وفشل من انتقدوه من “الجمهوريين”، فهو حتماً يملك تأثيراً كبيراً على القاعدة الشعبية للحزب الجمهوري، التي هي الآن مزيج من تحالف العنصريين البيض ومن أتباع الطائفة الإنجليكية المحافظة ومن الداعين لانتشار السلاح وحقوق حمله. وهذا المزيج هو الذي يهدّد ترامب به حزبه وخصومه معاً.
إنّ الطموحات السياسية للثري ورجل العقارات دونالد ترامب، والتي كانت تتراوح بين منصب حاكمية ولاية نيويورك وبين رئاسة “البيت الأبيض”، عمرها عقود من الزمن، وهي لم تقف على أرضية انتماء فكري أو سياسي لحزبٍ محدّد، بل انطبق على ترامب قول ميكيافيلّي: “الغاية تبرّر الوسيلة”، وهذا ما فعله ترامب عقب فوز باراك أوباما بانتخابات العام 2008، حيث لمس حجم ردّة الفعل السلبية التي جرت في أوساط الجماعات المحافظة والعنصرية داخل المجتمع الأميركي، نتيجة فوز أميركي من ذوي البشرة السوداء وابن مهاجر أفريقي مسلم، بأهمّ موقع سياسي في أميركا، والتي ما زالت العنصرية متجذّرة في أعماق الكثير من ولاياتها الخمسين.
أيضاً، أدرك ترامب ما حصل داخل الحزب الجمهوري في العام 2010 من ظهور وتفوّق تيّار “حزب الشاي” المحافظ، والذي استطاع الحصول على غالبية أعضاء الكونغرس في الانتخابات النصفية، اعتماداً على التخويف الذي مارسه هذا التيّار من معاني فوز أوباما بالرئاسة الأميركية، وعلى الحملات التي قام بها المرشّحون باسم هذا التيّار ضدّ المضامين الاجتماعية الليبرالية لأجندة أوباما وضدّ المهاجرين عموماً، ومن هم من دول العالم الإسلامي على وجه الخصوص.
وكان ما سبق ذكره كافياً لدونالد ترامب لكي يحسم خياراته الفكرية والسياسية لصالح القوى المنتمية لهذه الجماعات اليمينية المحافظة، التي تحرّكت ضدّ كل ما كان يرمز له أوباما من أجندة ومن أصول إثنية وعرقية ودينية وسياسية، وبحيث تحوّلت هذه القوى إلى تيّارٍ شعبي بنى عليه ترامب لاحقاً قوّة قاعدته الانتخابية والتي استطاعت تجاوز العديد من المرشّحين المعروفين في الحزب الجمهوري، وجعلت من ترامب رمزاً لها وتمكّنت من إيصاله إلى الرئاسة الأميركية. ودعم هذه القاعدة الشعبية له ينطلق من ضرورة عدم تكرار حقبة أوباما، وبأنّ عودة “أميركا العظيمة”.. أميركا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانتية، مرهونة باستمرار ترامب في الحكم وبما هو عليه من أجندة داخلية وخارجية!.
سيكون من الصعب عزل ترامب الآن أو تكرار ما حدث مع الرئيس نيكسون في العام 1974 حينما جرى دفعه للاستقالة بدلاً من المحاسبة والعزل. فترامب المدعوم من قاعدة شعبية عنصرية وقوى دينية محافظة وجماعات ضغط فاعلة، يحظى أيضاً بغالبية جمهورية في مجلس الشيوخ وغالبية محافظة في المحكمة الدستورية العليا. لكن حتّى لو جرى عزل ترامب، فإنّ نائبه مايك بنس ملتزم هو أيضاً بمختلف عناوين الأجندة التي عليها ترامب!.
لذلك، هي فرصة مهمّة الآن للحزب الديمقراطي بأن يستمرّ في دفع كرة الثلج المتعلقة بمشروع عزل الرئيس، والتي بدأت تكبر يوماً بعد يوم، وأصبحت تشكّل عبئاً كبيراً على ترامب وعلى حملته الانتخابية للعام القادم، لكن دون المراهنة فقط على ذلك، حيث من المهمّ التركيز على مرشّح للرئاسة يكون قادراً على إحداث تيّارٍ شعبي كبير خلفه، كما حصل مع الرئيس باراك أوباما في فترتين رئاستين، وجو بيدن ليس هو المرشّح القادر على فعل ذلك. وربّما سيكون مفيداً للديمقراطيين التركيز على المرشّحة إليزابيت وارن والمرشّح بيرني ساندرز معاً وإقناعهما بالتوافق على الترشّح لمنصبيْ الرئيس ونائب الرئيس، هذا إذا لم تحدث ظواهر عنف في المعركة الانتخابية أو قبلها!.
1-10-2019
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن