نقلا عن: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
عند الحديث عن مصر، من المهم أن نتذكر أن تاريخ الدولة القومية أو الدولة الوطنية أقل من ٤٠٠ عام فقط، فقد تولت الدولة مسئولياتها دوليًّا، وتم تقنين دورها الدولي في اتفاقات وستفاليا سنة ١٦٤٨، وأن عمر هذه الدولة في مصر مائتي عام منذ تولي “محمد علي” الحكم في مصر سنة ١٨٠٥، وأن عمر هذه الدولة في المنطقة العربية مائة عام فقط منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وتفككها، وأن حوالي ثلث الدول العربية حصلت على استقلالها منذ سبعينيات القرن العشرين، وبالتالي فإن مصر تتوسط الدول القومية في أوروبا، والدول القومية العربية، وأنها أسبق منهم في النشأة والتكوين بردح من الزمان.
كذلك، فإن الدولة التي قُنن دورها في وستفاليا ليست هي الدولة الحاليّة لأن الدول المشاركة في وستفاليا كانت الدول الأوروبية فقط ذات الملكية المطلقة؛ فإرادة الملك لا تحدها أي حدود على الإطلاق، إلا أنه بتطور العلم ظهرت عدة تحولات في الدولة أجملها أساتذة علم السياسة والمفكرون في انتشار المطابع، خاصة بعد ظهور الصحف والأحزاب، ثم ظهور البرلمانات، ثم التوسع في الحكومات بمختلف أفرعها الثلاثة التنفيذية والقضائية والتشريعية، والأحزاب السياسية، وأخيرًا ظهور المجتمع المدني وارتباطه بالمجال العام وتحولاته. كما أن مؤسسات الدولة تطورت هي الأخرى بأفرعها التنفيذية والتشريعية والقضائية.
لكن هذه الدولة تعرضت عبر تاريخها لنوعين من التغييرات الحادة. الحالةالأولى، تغييرات في النظام السياسي من خلال إعادة هيكلته وظهور مؤسسات جديدة. وقد استهدفت هذه التغييرات إحداث تغييرات ديمقراطية عبر التاريخ كاتجاه عام وأعلاء شأن المواطنة من خلال التعبير عن قيم الحداثة. أما النوع الثاني من التغييرات فتمثلت في التغييرات في أسس الدولة القومية ذاتها، ولم تحدث إلا على فترات متباعدة نتيجة تحولات علمية أدت للانتقال من مرحلة حضارية لأخرى، مثل الانتقال من مرحلة الصيد وسكن الكهوف إلى مرحلة الزراعة والتوطين وتم ذلك نتيجة تفكير الإنسان بطريقة مختلفة عما كان سائدا، ومن ثم اكتشف طرقا اأخرى للحياة أكثر رفاهية وأكثر أمنا ورفاهية. وأدى ذلك إلى ظهور طبقة الفلاحين، نتيجة اختراع أدوات الزراعة كالفأس والمحراث والساقية والطنبور، وانعكس ذلك على توسع مجالات الحكومة للالتزام بتوصيل المياه إلى مختلف الأراضي الزراعية وتنظيم الري، ثم الانتقال من الزراعة إلى الصناعة نتيجة تحسينات “جيمس وات” على الآلة البخارية التي كانت موجودة بالفعل، مما جعل من الممكن استخدامها في السكك الحديدية والصناعة، هو ما ساهم في ظهور طبقة العمال ونشأة طبقة مديري المشروعات للإنتاج وتسويقه، خاصة أن مفهوم العالم كان قد اتسع بفضل تطور وسائل الانتقال وتنوعها.
وفي كل مرة تحدث فيها تحولات أساسية في الدولة، كانت تواكبها تحولات في نظم الحكم تعكس الواقع السياسي الاجتماعي الجديد وقيمه؛ فالانتقال إلى الحضارة الزراعية تطلب توفير من يعمل بها، فعرفنا قن الأرض كنظام اجتماعي. أما الحضارة الصناعية فقامت على العبيد أولًا والعمال ثانيًا، وصاحب ذلك انتفاضات انتهت بالقضاء على القن ثم العبيد، وأخيرًا الاعتراف بحقوق العمال وتنظيم العلاقة بين العامل وصاحب المصنع، وظهور فئة المطورين ورجال التسويق والدعاية والإعلان حينما أدخلت أوروبا الإصلاحات السياسية التي قامت من أجلها الثورة الإنجليزية في العصر الفيكتوري. وقامت هذه الإصلاحات على إقرار مبدأ الجدارة بصفة عامة للتعليم والتعيين في الجهاز الإداري للدولة مقابل تخلي طبقة الأمراء عن امتيازاتهم التي حصلوا عليها بالميلاد.
ومع كل تحول يظهر نظام اجتماعي جديد، مع المحافظة على النظام السابق وقيمه وتطويره وفقًا لمستجدات العصر وظل تعايش النظامين لفترات زمنية طويلة . كما أن هذه التحولات في مجملها كانت تمس النظام السياسي، وتؤدي إلى توسع الدولة في وظائفها التقليدية في حفظ الأمن والنظام وجباية الضرائب، حتى ظهرت العولمة في ثوبها الحديث في نهاية القرن العشرين لتهز أركان الدولة ذاتها، ولتخل هذه الموجة من العولمة بجوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع. ففي جميع مراحل التحول السابقة حتى التحول للثورة الصناعية كانت أركان الدولة قائمة، مثل: السيادة (وهو المبدأ الحاكم للعلاقات الدولية)، واحتكار الدولة للاستخدام المشروع للعنف في الداخل، وقيامها بالشق الأكبر من صناعة السياسات العامة التي أصبحت في عصر العولمة صناعة الدولة بمختلف مؤسساتها وبمشاركة المجتمع المدني الذي أضحى شريكًا للدولة في الحكم من خلال لعبه أدوارًا رقابية لصالح الحكومة، والتقدم بمقترحات القوانين، بل والمشاركة في حل كافة المشكلات التي تواجه الحكومة.
إذن، الدولة أشبه بالكائن العضوي تولد، ثم تمر بمرحلة الطفولة، ثم مرحلة الشباب والمراهقة، ثم مرحلة النضج وأخيرا مرحلة الشيخوخة. ومن المهم التمييز بين تحولات الدولة وهي التحولات الأعمق والأخطر من مجرد تحولات النظام السياسي لأنها تحولات سياسية تمس صلب أدوار مختلف المؤسسات، وتمس صلب العملية السياسية التي تقوم عليها الدولة وجوهر علاقتها بالمجتمع، ومن ثم فإنها تستهدف الوصول إلى نقطة جديدة من التوازن بين الدولة والمجتمع، بينما التغييرات التي شهدتها النظم السياسية من قبل كانت تغييرات دستورية ولم تمسّ العملية السياسية إلا لطبقة محدودة هي طبقة النبلاء مثلا لصالح قطاعات عريضة في المجتمع من المواطنين. كما أنها كانت تغييرات تستهدف تحسين أداء الدولة حتى وإن كانت نتيجة ثورة مثل الثورة الإنجليزية.
واليوم تتعرض الدولة القومية لتغييرات عميقة جدًّا نتيجة الثورة العلمية التي نشهدها نتيجة تفاعل ثلاثة علوم بينية، هي: المعلوماتية، والبيوتكنولوجي، والنانو تكنولوجي، ونتيجة وصول السياسات العامة إلى قدر كبير من التعقيد، مما يتطلب مناهج جديدة للتحليل السياسي، وَمِمَّا يستدعي التنسيق بين السياسات العامة في عدة مجالات.
ويؤكد ذلك فشل جميع التجارب المصرية لإصلاح الجهاز الإداري، وإعطاء هذه المسئولية مؤخرًا لماكينزي، لأننا كنا نعالج الإصلاح جزئيا دون الربط القطاعي بين المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري والصحي والتعليمي، وهو ما سبق ونجحت فيه دولة صغيرة مثل سنغافورة التي تُعد تجربتها رائدة في هذا الإطار رغم اختلاف الظروف لأن وقت تنفيذها للإصلاح لم تكن سرعة تدفق المعلومات في المجتمع على هذا النحو القوي الذي تُجري فيه مصر عملية الإصلاح حاليا وهو عامل في منتهي الأهمية.
ويزيد من تعقيدات الإصلاح في مصر ثلاث مشكلات غاية في الأهمية؛ الأولى: عدم وجود ظهير سياسي معبر عن الإصلاح ومدافع عنه، والثانية: ارتفاع معدلات النمو السكاني التي تلتهم أي زيادة في معدلات الناتج القومي الإجمالي، والثالثة: تغيير تركيب المجتمع نتيجة احتلال الشباب ثلثي المجتمع وهو شباب في مجمله أكثر تمكنًا في استخدام تقنية المعلومات من أبناء الحكومة.
أولًا- مصر وإصلاح الدولة والمجتمع
الهدفُ من هذا التحليل هو إعادة تأكيد الترابط بين الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري والتعليمي والثقافي في مصر، وذلك من خلال مناقشة عدم وجود ظهير سياسي لقيادة الإصلاح، وارتفاع معدلات النمو السكاني، وتغير تركيب المجتمع، مما أدى إلى تغيير العلاقة بينه وبين الدولة، إضافة إلى أزمة السياسات العامة الثقافية.
مشكلة عدم وجود ظهير سياسي لقيادة الإصلاح ليست مشكلة الرئيس “السيسي” فقط، بل هي مشكلة مصر كلها. مشكلة استمرار “مبارك” لمدة ثلاثين عامًا، والتي دخلت مصر في نصفها الثاني حالة جمود سياسي وتكلس اقتصادي واجتماعي نتيجة ارتباط السلطة برأس المال ارتباطًا وثيقًا، وظهور مؤشرات عديدة لعدم الاستقرار السياسي، وأثبتتها بما لا يدع مجالًا للشك دراسة أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء عن “التعديلات الدستورية في الصحافة المصرية” عام ٢٠١٠ انتهت إلى أن المشكلة التي تواجهها مصر لم تكن مشكلة دستورية بقدر ما كانت أزمة العدالة الاجتماعية بما يمس صلب العملية السياسية. ولذا كان عدم الاستقرار يحمل بذور تحوله إلى ثورة، ثم نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في عصر “مبارك”، وما ارتبط بها من أحكام دستورية لم تُنفذ.
وزاد الشعور بضعف المجال العام تغير تركيب المجتمع المصري باحتلال الشباب ثلثي المجتمع المصري، وهي نسبة سائدة في جميع الدول العربية بدون استثناء. والقضية هنا ليست كمية فقط، ولكن مكمن خطورتها أن هذا الشباب مسلح جيدًا بتكنولوجيا الثورة المعلوماتية مما زاد الفجوة الجيلية بينه وبين باقي قطاعات المجتمع السكانية. وهذه الفجوة مرشحة للزيادة مستقبلًا، خاصة أن الثورة العلمية المسببة لهذه الموجة من التغييرات السياسية اجتاحت جميع دول العالم بدرجات تتناسب عكسيًّا مع عمر الدولة وقدرتها على التكيف؛ فكلما زاد عمر الدولة وزادت قدرتها على التكيف كلما قلّ تعرضها لعدم الاستقرار. وهذا هو سبب خشية الولايات المتحدة من الصين وروسيا في المستقبل، ويفسر رغبتها في حسم موضوعات الذكاء الاصطناعي والتطور العلمي المرتبط بالثورة الرابعة مبكرًا قدر الإمكان، وهي متفوقة لأنها تعلم أن قدرتهما على التكيف أكبر من قدرتها على التكيف في هذا المجال. ومن ثم، فإن المستقبل يحمل بين طياته احتمالات تغيير إعادة هيكلة القوة بين هذا الثلاثي تحديدًا.
والغريب أنه بالرغم من أزمة الديمقراطية التمثيلية وضعف الأحزاب السياسية نتيجة ضعف انضمام الشباب إليها على مستوى العالم، وظهور أنماط جديدة من الديمقراطية، وتغير وظائف الأحزاب السياسية، إلا أن النخبة السياسية والإعلامية الحالية –وهي مازالت مرتبطة بسياسات حقبة مبارك- لم تشر لتلك التغييرات، ومازالت تتعامل مع مجمل تغييرات الدولة بنفس النهج القائم على الأحزاب السياسية ودورها التقليدي، مما صنع تناقضا حادا بينها وبين الشباب، وأضاف عبئا جديدا على الدولة.
ثانيًا- تغير المجتمع سكانيًّا يؤدي لتحولات نوعية
تغير المجتمع لا يُقصد به تغييره كميًّا، فالأخطر من ارتفاع نسبة تمثيل الشباب إلى ثلثي السكان في مصر أن هذا الشباب مختلف نوعيا لأنه مسلح جيدًا بوسائل الثورة العلمية، مما يؤدي لارتفاع مستوى الوعي لديه، وذلك لعدة أسباب، أهمها:
١- استمرار ارتفاع نسبة التواجد الرقمي في العالم: فالإحصائيات العالمية تشير إلى استخدام ٨٠٪ من سكان العالم للإنترنت وفقًا لإحصائيات المنتدى الاقتصادي العالمي عام ٢٠١٧. وهذه النسبة مرشحة للارتفاع إلى حوالي ٨٥٪ بحلول عام ٢٠٢٥. واستخدام الإنترنت يعني امتلاكك موبايل محمول وبريد إلكتروني وصفحة خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاعل إلكتروني، وتواجد على منصات إلكترونية وإعلامية والمدونات، علمًا أنه من المتوقع أن تصل نسبة من يستخدم التليفون الذكي في عام ٢٠٢٥ إلى حوالي ٩٠٪ من سكان العالم.
وتكفي الإشارة إلى أن أكبر عشرة أماكن سكانًا في العالم هي الفيسبوك الذي يبلغ عدد مشتركيه ١,٤ مليار نسمة، ثم الصين التي يبلغ عدد سكانها ١,٣٦ مليار نسمة، ثم الهند بعدد سكان يبلغ ١,٢٤ مليار نسمة، ثم “رويتر” بعدد مشتركين يصل إلى ٦٤٦ مليون مشترك، ثم الولايات المتحدة بعدد سكان يبلغ ٣١٨ مليون، ثم إندونيسيا بعدد سكان ٢٤٧ مليون نسمة، ثم البرازيل بعدد سكان ٢٠٢ مليون نسمة، وباكستان بعدد سكان ١٨٦ مليون نسمة، ثم نيجيريا بعدد سكان ١٧٣ مليون نسمة، وأخيرًا “إنستجرام” بعدد مشتركين ١٥٢ مليون نسمة. أي أن هذه المواقع العشرة، من بينها ثلاثة مواقع إلكترونية تنتمي جميعها إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي تعد مواقع إعلامية تتناول بالدرجة الأولى قضايا الانتماء والهوية والاقتصاد بكل ما يعنيه ذلك من بث قيم جديدة.
٢- الاتجاهات العالمية الحاكمة للتحولات التكنولوجية والعلمية والتي تزيد تشبيك العالم بفاعلية أقوى من ذي قبل، ومنها استخدام التكنولوجيا المزروعة في جسم الإنسان Implantable Technologies، فمن المتوقع بحلول عام ٢٠٢٥ أن ينتشر التليفون المزروع في جسم الإنسان واحتمالات ذلك تصل إلى ٨٥٪، وهي إحدى تطبيقات “التاتو الإلكتروني”، وهي رقائق إلكترونية صغيرة توضع على الجلد أو تحته لأغراض اتصالية أو لتحديد موقع الإنسان وخاصة الأطفال المعرضين للتيه أو الخطف، والجنود في المعارك، أو لمراقبة المؤشرات الصحية لبعض المرضى خاصة مرضى القلب والسكر وإرسالها إلى المراكز الصحية، واتخاذ قرارات سليمة بتغيير بعض جرعات الأدوية عند اللزوم. كما تساهم هذه الرقائق في سرعة ودقة اتخاذ القرار السياسي، ورفع كفاءة العاملين في بعض القطاعات الخاصة بالأمن القومي وبخاصة المجال الاستخباراتي والشرطي، إضافة إلى ترتيب نتائج ذات اتجاهين وبعضها ما زال محتملًا في مجالات زيادة متوسط عمر الإنسان، ومجال تغيير العلاقات الإنسانية، وتغيير أنماط التفاعل الإنساني على الإنترنت، وتحديد هوية أي إنسان وموقعه بسرعة ودقة (في الزمن الحقيقي)، وهو تحدٍّ ثقافي رهيب (خلود الذاكرة الإنسانية نتيجة الاحتفاظ بنسخة منها).
ويرتبط بذلك أنه من المتوقع طباعة تريليون من هذه الرقائق أو التاتو بحلول عام ٢٠٢٥ بنسبة احتمالات تصل إلى ٩٠٪ لزيادة الاعتماد على إنترنت الأشياء.
3- جهود ربط النظارات الطبية بالإنترنت، ويتوقع نزولها الأسواق التجارية بحلول عام ٢٠٢٥ بنسبة تصل إلى ٨٢٪، بعد أن كانت هذه النسبة ١٠٪ فقط منذ عامين، وهو تطور له استخداماته العديدة مثل تطبيع علاقة ذوي الاحتياجات الخاصة الذهنية بالمجتمع، وربط الخدمات الطبية بتطويرها، وزيادة كفاءة الأفراد في مجالات الأمن القومي والجهاز الشرطي والاستخباراتي، وزيادة قدرة الأفراد على استخدام المعلومات.
ويرتبط بذلك ارتداء ملابس متصلة بالإنترنت، وتصل نسبة عرضها تجاريًّا في الأسواق بحلول عام ٢٠٢٥ حوالي ٩٢٪. ويرتبط بذلك أيضًا أن الانتقال إلى البيئة الذكية في عام ٢٠٢٥ يعني تحول الكمبيوتر من الحالة المرئية للحالة غير المرئية و(تفكيكه) إلى مجموعة شرائح توزع على مختلف أماكن تواجدنا كالمباني والملابس والسيارة والأثاث والأقلام التي نستخدمها مثلًا، وهو ما يعني زيادة قدراتنا على استخدام الكمبيوتر بصورة دائمة في حياتنا بكل ما يعنيه من مزايا ورشادة، أي أن الكمبيوتر سيتحول إلى الكمبيوتر دائم الوجود.
إذن، التحولات النوعية للمجتمع أخطر وأهم من تحولاته الكمية، وهو ما ينبغي أن يكون محور اهتمامنا اليوم، ويحتاج الأمر للتعرف على أبعاد التغييرات الكمية للمجتمع.
ثالثًا- التغييرات النوعية للمجتمع
المشكلة الثالثة هي مشكلة النمو السكاني. والمشكلة السكانية ليست عبئًا في كل الأحوال على الدولة، ومؤكد أن السياسات السكانية في الوقت الراهن هي المسئولة عن الانفجار السكاني، فأمام ارتفاع تكاليف المعيشة لم يعد أمام الطبقات الفقيرة متعة إلا التكاثر، إضافة إلى أن رفع الدعم عن الأدوية، شمل رفعه عن مختلف وسائل منع الحمل، مما يزيد من معدل الإنجاب خاصةً مع تدني مستوى الثقافة والتعليم.
إذن، مشكلة النمو السكاني تتطلب سياسات عامة ذات طبيعة خاصة، تأخذ بعين الاعتبار شمولية هذه السياسة لمختلف أبعاد التغييرات الكمية والنوعية المرتبطة بالمجتمع، وطبيعة تغييرات القيم اللامادية الخاصة بالتعبير عن الذات التي أدخلت عبر سنوات على المجتمعات العربية والإسلامية عبر مختلف المراحل، وكيفية ربطها بالقيم المادية التي تحرك القطاعات الأكثر فقرًا في المجتمع بالرغم من أهمية دور قيم التعبير عن الذات.
ذلك أن تغيير القيم في المجتمع المصري لا يعني التخلي عن القيم السابقة آليًّا، وإنما يعني تراكمها تراتبيًّا، واستدعاء القيم السابقة عند اللزوم والضرورة. الزراعة -على سبيل المثال- لم تُلْغَ تمامًا في ظل التحول إلى المجتمع الصناعي، بل تعايشت مع الحضارة الصناعية، وما زالت متعايشة مع الثورة العلمية الحالية أيضًا، وذلك وفقًا لهرم ماسلو للقيم.
إن السياسات العامة الثقافية بقدر ما تعالج مشكلة القيم في المجتمع المصري، وبقدر ما تحقق درجة أعلى من التوازن بين الدولة والمجتمع؛ فمن المهم أن تحدد دور النخبة المثقفة في الدولة في مرحلة التحول بقدر ما تحدد دور الأحزاب السياسية، وبقدر ما تحدد دور المرأة ودور الشباب. وينبغي صياغة هذه السياسات الثقافية في إطار دور قومي يشكل مستقبل مصر كلها داخليًّا وخارجيًّا، ودون تمييز بين مختلف محافظات مصر بدلًا من أن تتم صياغتها في ضوء أولوية محافظات بعينها. على سبيل المثال، على بعد 50-60 كيلومتر من القاهرة تقع محافظة الفيوم التي تُعاني من نقص حاد في الأدوات الثقافية، فمثلًا لا يتوافر بها مسرح ولا سينما ولا مكتبة عامة على الأقل، مما أدى إلى توطن الإرهاب في هذه المحافظة. وإذا انتقلنا أبعد قليلًا إلى جنوب مصر على بعد لا يتجاوز 120 كيلومترًا نصل إلى محافظة بني سويف، حيث تُحرم البنت من الميراث، ولنا أن نتخيل كيف أن مسألة شرعية دينية يتم إلغاؤها بحكم العادات والتقاليد، بدعوى عدم خروج الثروة عن العائلة، والأمر غير مرتبط بالزواج مختلط العائلات فقط ولكن حتى في زواج الأقارب. فهل هذه قيم دافعة للتقدم الذي لا بد أن يشمل تمكين المرأة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؟
القضية هنا هي قضية قيم وعادات تكونت عبر التاريخ، ولا يهم متى دخلت هذه القيم على المجتمع المصري، لأن تاريخ مصر يؤكد أن المرأة المصرية تمتعت بمكانة اجتماعية مرتفعة لا تقل فيها عن الرجل بدليل توليها الحكم، بل والتخطيط الاستراتيجي للحروب أيضًا.
رابعًا- السياسات المقترحة لتغيير القيم
في هذا الإطار، لا بد أن نعمل على تغيير هذه القيم والعادات، وليس أمامنا إلا الثقافة بمعناها الواسع، أي الأعمال الأدبية والفنية والوجدانية. من الناحية الأدبية، يمكن الإشارة إلى مجمل الأعمال الأدبية من نثر وشعر. وهنا تحضرني أعمال “يوسف إدريس” التي عالج فيها مشكلات تغيير المجتمع المصري نتيجة عدم وجود الكهرباء بالريف المصري في بدايات نشر أعماله، وسبق عصره بعلاج مشكلة التدين الشكلي وخلافه، وأعمال الشاعر خالد الذكر “عبد الرحمن الأبنودي”، وهي أعمال ركزت في مجملها على البعد الاجتماعي، دون إغفال دور الكاتب الكبير “توفيق الحكيم” وأعماله التي عالج فيها مشكلات إدخال الكهرباء للريف المصري دون أن يسبق ذلك إعداد الإنسان لهذا التحول فكريًّا أولًا.
أما الأعمال الفنية فإنها تشمل المسرح، والسينما، والتليفزيون، والإذاعة. وهنا يظهر ارتباط الإعلام ووسائله بهذا التحول، فلا نغفل بطبيعة الحال أقوى وسيلة إعلامية في العصر الحديث وهي وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصبح من الضروري استغلالها في بث القيم الجديدة، وإظهار مساوئ القيم المطلوب تغييرها في المجتمعات العربية. فقد ركزت وسائل التواصل الاجتماعي على بث قيم التعبير عن الذات؛ فارتبط بها الشباب، والقيم التحررية التي ركزت على قيم الإباحية الجنسية وقيم الحريات الدينية التي أخلت بالعلاقة بين الدولة والمجتمع لصالح الأخير، وهي حالة مثالية لتحقيق الفوضى وانهيار النظام السياسي وهو ما حدث بالفعل. وكان الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه أقوى دول العالم أن التغيير امتد إلى إسقاط الدولة نفسها، فوصلت الدولة إلى حالة فوضى عارمة. المطلوب الآن تعديل هذه القيم التحررية بشقيها الجنسي والديني على السواء. ويتطلب ذلك صياغة سياسات عامة ثقافية جديدة تعود بالمجتمع إلى رشده، وإلى تحقيق درجة أعلى من التوازن والتناسق مع الدولة، أي أن السياسة الثقافية التي يمكن تبنيها ستكون وسيلة لاستعادة درجة أعلى من التوازن بين الدولة والمجتمع، أما استعادة التوازن الكامل فستكون من خلال إعادة تنظيم الدولة والمجتمع هندسيا لتحقيق درجةٍ أعلى من درجات التوازن في المجال العام ككل بما في ذلك الدور الجديد الداعم للمجتمع المدني.
أما الأعمال الوجدانية فالمقصود بها مجمل الأعمال الأدبية والفنية التي تعالج قضايا الانتماء والهوية والالتزام، محليًّا وقوميًّا، أي عربيًّا وعالميًّا أيضًا، وهي قضايا يمكن أن تظهر في أعمال منفصلة أو في أعمال درامية مخصصة لمثل هذه القضايا. وقد أثبت الواقع أنها ينبغي أن ترتبط بعمل درامي وتظهر من ثناياه هذه القضايا في إطار غير مباشر، والدليل على ذلك النجاح الذي حققه فيلم الممر الذي يمكن أن يكون أول مجموعة أفلام جادة تؤرخ بدقة لمرحلة ما بين 1967-1973، فتغرز قيما وأفكارا نجحنا بالفعل في غرسها في الشباب من خلال حرب الاستنزاف التي كانت مصر تنفق فيها 2.5 مليون دولار يوميا (مليون جنيه مصري)، كما تتناول أيضا حرب 1973 التي عجزت السينما حتى اليوم عن عكس ما انطوت عليها الحرب من قيم وتضحيات.
مثل هذه السياسة العامة الثقافية ليست حكرًا بطبيعة الحال على أي وزير، خاصة وزير الثقافة، ولكنها سياسة تخضع لفريق عمل متكامل من “نخبة المجتمع” من الأدباء والفنانين ومتخصصي العلوم السياسية ورجال الإعلام ومتخصصي علم الاجتماع والسادة الوزراء، وكل من يستطيع المساهمة ممن يفهمون وسائل التواصل الاجتماعي ووظيفتها في المجتمع وكيفية بث القيم وفقا للإنجازات العلمية لنظرية الفوضى التي بشرت بطورها الكلاسيكي علنا كوندوليزا رايس منذ عام 1996، وما لحق بها من تطورات في إطار نظرية الفوضي الحديثة فيما بعد.
إذن، قضية النخبة قضية مهمة باعتبارها تسبق التغيير السياسي الاجتماعي. ولدينا في هذا المجال تجربتان؛ الأولى تجربة “محمد علي” حينما قضى أولًا على المماليك، ثم اهتم بإنشاء جيش مصري قوي في إطار نهضة علمية شاملة؛ فاهتم بالتعليم وكانت تجربة رائعة لأنه لم يرَ دولة متقدمة في كل شيء، بل رأى عدة دول كل منها متفوق في مجال مختلف؛ فأرسل البعثات التعليمية إلى كل دولة في مجال تخصصها، فأرسل البعثات ذات الطبيعة الفكرية إلى فرنسا، والبعثات الفنية إلى فرنسا وإيطاليا، وأرسل بعثات الجيش إلى روسيا، فاستفاد من كل بلاد العالم، وحصل على نخبة متنوعة الاهتمامات كانت خير عون له ولأولاده من بعده.
أما التجربة الثانية فكانت تجربة الرئيس “جمال عبدالناصر”، حيث بدأ أيضًا بالتخلص من النخبة القديمة من خلال حظر الأنشطة الحزبية أولًا، والتخلص من النظام الملكي بإعلان الجمهورية، واستند إلى نخبة جديدة كان قوامها بعض رجال الثورة وفي مقدمتهم “زكريا محيي الدين”، و”كمال الدين حسين”، و”علي شوقي الحديدي”، وكلهم دون استثناء اجتهدوا في مجالاتهم. ونبغ منهم كثيرون مثل “ثروت عكاشة” في الثقافة والفنون، و”حافظ إسماعيل” في الخارجية، و”زكريا محيي الدين” في المجال الأمني.
ثم أقام “عبدالناصر” منظمة الشباب مع تغيير مسار التوجه العام للدولة إلى النظام الاشتراكي. واستفاد في ذلك من التجربة السوفيتية، خاصة مع تزايد عدد البعثات العسكرية إلى موسكو، واستفاد من عدد من أساتذة الجامعة ذوي الاتجاهات اليسارية، سواء داخل منظمة الشباب أو خارجها حينما عين البعض بالجامعة، أو عينهم كوزراء. ورأينا صحيفة مثل “الأهرام” تصدر دورية كاملة لعلاج مشكلات التحول الاشتراكي، مثل “الطليعة”، ووزارة الثقافة تصدر “الكاتب”، وأتيحت الفرصة للشباب الاشتراكي للتعبير عما يجول بخاطره بشأن الفكر الجديد عامة، سواء كان اشتراكيًّا أم لا مثل “الأبنودي” و”يوسف إدريس”. الخلاصة أن النخبة هي الظهير السياسي الذي سيبشر بالقيم الجديدة التي ينبغي بثها في المجتمع.
صحيح أن عبد الناصر لم يلغ وجود القامات الأدبية والفنية التي كانت موجودة في العصر الملكي مثل: طه حسين، والعقاد، والحكيم، على سبيل المثال؛ إلا أن هذه القامات كان لا يمكن الاستغناء عنها لما وصلت إليه من مستوى فكري عالٍ ساهم بأسلوب آخر في نهضة مصر. أما الوجوه التي تسعى جاهدة لإيجاد مكان دائم لها على جميع الموائد فكانت اشتراكية مع عبد الناصر، وليبرالية مع السادات، ومدنية حاليًّا بحثًا عن دور فلا ننتظر منها شيئًا، لأنها أخذت ما يكفي أحيانًا بحق وأحيانًا دون حق، وحان وقت اعتزالها العمل العام.
كذلك فإن الشباب الذي يتصور أنه لكونه شابًّا ينبغي أن يحتل منصبًا فهذا تفكير خاطئ، والتجربة الواقعية أثبتت ضعف أعداد الشباب الذي عين في منصب مساعد أو معاون لبعض الوزراء، بقدر ما أثبتت التجربة أن البيروقراطية المصرية قادرة على الحفاظ على مصالحها وبنائها وقت التغيير السياسي، وهو ما أطلق البعض عليه لفظ “الدولة العميقة”، وهو محق في ذلك؛ فالبيروقراطية المصرية عريقة فعلًا، ولكن بقدر عراقتها فإنها عتيقة أيضًا وتحكمها قيم محافظة عرقلت التنمية في حالات مختلفة.
يكمل ذلك ويتكامل معه تجديد البنية القانونية للجهاز الاداري للدولة لأن التحولات العالمية في الدواة سبق أن شاركنا في مسيرة تشكيلها عبر مؤتمرات نوعية عديدة، ووقعنا على التزامات عديدة وكان المفترض أن يتم إدماج هذه الالتزامات في النظام القانوني الداخلي إلا أن الواقع يؤكد أننا لم ندمجها كلها مما ساهم في إيجاد فجوة بيننا وبين بعض دول العالم في هذا الشأن.
الخاتمة
عملية تغيير القيم ليست صعبة، لكن من المهم ربطها بصناعة نخبة جديدة تأخذ بثقافة شاملة جديدة تعكس واقعًا اجتماعيًّا جديدًا بقدر ما تعكس قيم التعبير عن الذات ومختلف قيم الحداثة التي تتسق وخصائص المجتمعات العربية الإسلامية؛ وذلك على غرار ما نجحت فيه دولة مثل الولايات المتحدة، وإنجلترا بعد الثورة البريطانية، وماليزيا في العهد الأول لــ مهاتير محمد، ودول أخرى مثل كوريا الجنوبية واليابان بعد الحرب العالمية الثانية لنزع الصبغة العدوانية من العسكرية اليابانية والإيطالية والألمانية، وارتباط هذه القيم بنخبة جديدة تعكس مستقبل هذه البلاد. وقد نجحت هذه القيم نجاحًا باهرًا في دفع العالم الديمقراطي إلى طرح سؤال خلال الاحتفال بالعيد الخمسيني للحرب العالمية الثانية، وكان السؤال: من انتصر في الحرب العالمية؟
تلك هي متطلبات إعادة بناء مصر، وكلها أو معظمها يتعلق بتحقيق قدر أكبر من التوازن بين الدولة والمجتمع وهو أمر مطلوب وسبق لمصر ممارسته في عصور سابقة. كما أنه ليس أمرا يخص مصر فقط، بل إن جميع دول العالم تمر بهذه الظروف لدرجة أن السؤال المطروح عالميا لم يعد كيف نعيد بناء الدولة في ظل متغيرات الثورة التكنولوجية ولكن ما هو الحجم الأمثل للحكومة والجهاز الإداري في ظل هذه المتغيرات ودخول المعلومة كمكون أساسي للسلطة إلى جانب العنف والثروة.