كنت أهرب من الحب، أخشى الوقوع فيه، أعوض نقصي بنجاحاتي العلمية والمهنية، رغم تفوقي كنت أخاف نظرات الشفقة، هكذا تحدثت سميرة معلمة (40 سنة) وهي تشكو من إعاقة طفيفة على مستوى رِجلها اليمنى، مخاوف سميرة ليست مخاوف شخصية تختزلها، بل هي مخاوف نساء كثيرات يعانين من وجود إعاقة، فيوصمن بالعجز فلا يكفي أنهن وُلدن في مجتمعات تعاني من التمييز الجنسي ضد النساء إضافة إلى أنهن تعرضن إلى أشكال مختلفة من الإعاقة مما خلق ضدهن تحاملاً وتحيزاً مضاعفاً ضدهن حتى وإن غُلِّف هذا بغلاف الشفقة والخوف عليهن.
لا يخفى على أحد أن النساء صاحبات الاحتياجات الخاصة في الدول المتقدمة أكثر حظاً من النساء في الدول النامية لا سيما الدول التي تعاني من الذكورية والميز الجنسي، فالنساء هناك -أي في الدول المتقدمة- يولدن بحقوق كاملة ويحظين بالتعليم والنقل، إضافة إلى تقدُّم الطب الذي منح بعضهن تجاوزاً فعلياً للإعاقة أو خففها إلى أدنى درجاتها، في المقابل تعاني النساء المعوقات في بلداننا من غياب الممرات والحمامات المخصصة لهن وبفرص تعليم حقيقية، وإن وجدنا قصص نجاح في صفوف هذه الفئة، فإن الفضل يعود إلى العائلة لا إلى الدولة التي ما زالت تتجاهل هذه الفئة عن قصد، وكأنها درجة أدنى من بقية المواطنين.
عندما تصاب النساء بإعاقات مختلفة يمارس عليهن عنف ناعم غير مرئي، ولكنه واضح وضوح الشمس في حالتهن هذه، عنف ناعم بتعلّة الخوف عليهن وحمايتهن من التحرش والاغتصاب، فوجودهن حبيسات أغلب الوقت في البيت يروي سيرة أجساد مهمَّشة حُرمت من حقها في فرص كثيرة وأهمها الفرصة في الحياة بكل وجوهها.
تخلق قسوة المجتمع والأعراف تجاه هذه الفئة نوعاً من أنواع انعدام الثقة في النفس، فتلجأ بعضهن إلى التعليم، يحاولن من خلاله تخفيف وصمة العجز التي تلاحقهن، منهن مَن تنجح وتمضي بعيداً في دراستها، ومنهن مَن تفشل فيزيدها الفشل عزلة اجتماعية حتى وإن كسرتها في بعض المناسبات العائلية، ولكن أكثر ما يؤلمها الشفقة والإحسان المجاني الذي يشعرها بأنها أقل أو أنها تعيش في تبعية مطلقة، «عندما كنا نلعب في المعهد في حصة الرياضة، كان الأستاذ يطلب منِّي أن أجلس وأريح نفسي من عناء اللعب، ربما كان عن حسن نية، ولكني كنت أصاب بنوبات اكتئاب شديد، أنا لست عاجزة، كل ما أعانيه إعاقة خفيفة على مستوى القدم اليمنى».
تحدثني سميرة وهي تحاول أن تفسر لي خوفها من الحب، إحسان الأستاذ لها الزائد عن حده جعلها تشعر بأنها خارج المجموعة وأنها لا تنتمي إلى محيطها بل وعالة عليه إن شاركته نفس الاهتمامات، «كنت خائفة من الحب والزواج مضى بي العمر وأنا أحاول تجنب نظرات الشفقة التي قهرتني في طفولتي وشبابي بلغت الأربعين بنقص كبير، لم أعِش الحب إلا في خيالي».
أحياناً تعاني بعض النساء الأصحاء من نفور الرجال، إن لم يتمتعن بمقاييس الجمال المعتمدة في مجتمعاتهن، بدينة كانت أو نحيفة، سمراء بزيادة أو بيضاء، فما بالك بامرأة تشكو من إعاقة حتى وإن كانت طفيفة، كثيراً ما يتعامل معها على عديمة الجنس، فهي ليست امرأة صالحة للزواج والتناسل، ويتعامل معها على أنها غير صالحة للجنس في إطار الزواج طبعاً، ولكن إن حدث وأن اغتصبها رجل فيتعامل معها على أنه صاحب واجب، فكيف لامرأة معاقة لا سيما مَن يعانين من إعاقة ذهنية أن تحظى بالجنس، تطالعني صورة نبيلة عبيد في فيلم «توت توت»، وقد أدت دور امرأة تعاني من إعاقة ذهنية، ولكنها لم تفقد غريزة الأمومة، النساء هن النساء، نساء متساويات في كل الغرائز حتى وإن عانت بعضهن من إعاقة ذهنية، لا فرق بينهن حتى وإن فرق بينهن المجتمع.
ترددت كثيراً قبل طرح السؤال على خالتي فاطمة (57 سنة ) اختفت بعض ملامح وجهها إثر مرض أثَّر عليها فاعوج فمها وتشوهت ملامحها، كان سؤالي لها مباغتاً وموارباً، هل مازال زوجك محباً ومخلصاً لك، ضحكت كثيراً قبل الإجابة، ثم صمتت لحظات وأجابتني في حزن، إن غضب وصادف وأن اعترضت طريقه، كان يصرخ بي: «يا وجه الشؤم»، لم يكن سابقاً بمثل هذه الحدة والقسوة أي قبل تعرضي إلى هذا التشوه، كان في أغلب الأحيان حنوناً، ورؤوفاً بي، عندما اشتكيت لأهلي من قسوته أجابني أخي الأكبر: «عليك أن تحمدي الله أنه لم يطلقك»، عندما تطرقت إلى بعض الجوانب الحميمية في علاقتها بزوجها، كان ردها صادماً: «كان يصر على أن تكون العملية الجنسية في الظلام الشديد وإن حدث وأن كان في النهار، كان يشيح بوجهه عني، إني أتحمل سلوكه هذا من أجل أبنائي الثلاثة، ليس لي حل آخر سوى أن أصبر على الأذى الذي أتعرض له».
أحياناً تجد المرأة غير المعاقة صعوبة في ترك زوجها أو حبيبها رغم كثرة أخطائه وخطورة الأذى الذي تعرضت له، ولكن يبدو الأمر مضاعفاً على المرأة المعاقة فهي تعاني من وصم زائد بالإضافة إلى كونها أنثى.
تُلقي الإعاقة بظلها في حيوات بعض النساء اللواتي يعانين منها، إنهن يجبرن على التكيف مع قوانين اجتماعية ظالمة، على أن يقبلن بأدوار ومكانة محطة، إنهن يعانين من حواجز وعوائق كثيرة وضعها المجتمع بينهن وبين الحياة العادلة التي من حقهن أن يطالبن بها وأن يعشنها، خالتي فاطمة ليست إلا واحدة من بين الملايين اللواتي قهرن في أنوثتهن من أجل شيء لم يكن لهن دخل فيه.
تخاف العائلات اللواتي توجد بهن فتيات معوقات من مرحلة البلوغ، خوفها مضاعف بدرجات، فحماية فتاة معاقة يتطلب مراقبة لصيقة لها، من شهوة ذكورية عابرة يمكن أن تسبب العار لعائلة لا تستطيع أن توجه التهمة لابنتها المعاقة فهي ضحية، ليست ضحية المغتصب أو المتحرش بقدر ما أنها ضحية الإهمال من طرف عائلتها في عين المجتمع.
تشكو آمال من إعاقة على مستوى عين واحدة، لقد أصيبت بالعمى في سن مبكرة، ولكنها لم تفقد البصر في عينها الثانية، تقول إنها محظوظة مقارنة بمن فقدوا أبصارهم، تعرضت آمال إلى التنمر من طرف محيطها العائلي، «أتذكر أني كلما تخاصمت مع أحد من إخوتي إلا وقال لي يا عورة» في المدرسة والمعهد عانيت كثيراً من الشفقة الفائضة عن اللزوم، الشفقة التي تجعلك تكره نفسك وإعاقتك، كانت عائلتي حريصة على حمايتي من الغرباء والأقرباء، كنت أشعر أحياناً أني ضحية بائسة لإعاقتي رغم أني أرى العالم وأواصل حياتي بعين واحدة، ولكن أغلب المحيطين بي يتعاملون معي على أني عاجزة أحياناً أخفي إعاقتي بنظارات، ولكن عندما أنزعها ويكتشف الغرباء حقيقة إعاقتي أنزعج من ردة فعلهم، لم يتقدم أحد لخطبتي رغم أني تجاوزت الثلاثين، وكلما أُعجبت بشخص تجاهلني وصدني، ليس لي الحق في الحب لا تكفي عين واحدة أن تحب، يبدو الأمر صعباً، ولكن مازلت أحلم بالحب والزواج والأمومة.
كان حديث خديجة نقطة ضوء صغيرة، ولكنها كفيلة برسم ابتسامة عريضة على وجه مَن يستمع لها، خديجة متزوجة برجل يحبها وتحبه، تحدى عائلته من أجلها، رغم إعاقتها التي وُلدت بها، «إعاقة على مستوى إحدى قدميها» لقد تعلمت فعل كل شيء، أذهب إلى المعهد دون مرافقة من العائلة، كنت أمضي في الطريق أحياناً ضعف المدة التي يقطعها زملائي، علَّمني أبي أن لا أكون عبئاً على أحد، لقد زرع الثقة بنفسي، واصلت دراستي العليا بإحدى الجامعات وتخرجت وأنا أشتغل بوظيفة مرموقة، لم أقبل بأنصاف الأشياء، لم أخَف من الإعاقة ولا من هاجس البقاء وحيدة، كنت أرغب في الحياة، فمنحتني الحياة نجاحي في الدراسة والعمل وأيضاً زوجي الذي أحبني بعمق، زوجي الذي لم يتجاوب مع تخوفات والدته في القيام بمهامي العائلية ومن رعاية أطفالي، أحببته وأحبني، والحب كفيل بإزالة كل الحواجز، أنا سعيدة ومطمئنة معه في كل الأماكن، من غرفة النوم إلى غرفة الجلوس إلى الشارع، أنا لست عبئاً على أحد.
لا تحتاج المرأة المعاقة إلى نظرات الشفقة بقدر ما تحتاج إلى نظرات الحب والثقة، لا شيء يجعلها متقدة ومتوثبة نحو النجاح في كل مجالات حياتها سوى أن تشعر بأنها ليست مختلفة عن بقية النساء بل مثلهن، ويمكنها أن تخلق فرص نجاحات في الحياة الخاصة والعملية، النساء هن النساء، وإن صادف وأن أحبك قلب امرأة سيكفي أن تعيش سعيداً مطمئناً، فالقلوب لا تعرف الإعاقة ولا تعاني من عجز في المشاعر.