وكالات
تاريخ الولايات المتحدة لاستغلال حرية الإعلام وتدفق المعلومات طويل، ولكن اليوم باتت واشنطن إحدى ضحايا السلاح الذي استخدمته منذ عقود.
واليوم أصبحت حرية الإعلام والتدفق الحر للمعلومات هي نقطة ضعف كبرى في ثوب الديمقراطية الأمريكية، حسب ما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
انقلب السحر على الساحر
«يُمكن أن تنتشر الأخبار الكاذبة على نطاقٍ واسع بسهولةٍ لإرباك الرأي العام»، تبدو هذه الجملة اليوم وكأنها مقتبسةٌ من تقريرٍ عن دور شبكات التواصل الاجتماعي -أو الحرب السيبرانية- في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية التي أجريت في عام 2016.
لكنَّها قيلت قبل عصر الإنترنت، والقلق الذي تُعبِّر عنه لم يكن أمريكياً، بل فرنسياً. وفي الواقع، كانت القوة العُظمى في انتهاك المعلومات والاستيلاء عليها التي كانت تخشاها فرنسا آنذاك هي الولايات المتحدة، التي عزَّزت في ذاك الوقت -وعلى مرِّ عدة عقود تالية- حقها في استخدام شبكات الإعلام الدولية.
ففي الستينيات من القرن الماضي، كانت معظم الدول خارج نصف الكرة الغربي تُشغِّل أنظمة البث الخاصة بها على الملأ. وهذا مكَّن السلطات الوطنية في أوروبا وآسيا وإفريقيا من صياغة ما يسمعه عامة الناس وما يرونه.
غير أنَّ الولايات المتحدة طوَّرت تكنولوجيا ذات قدرةٍ على الانتشار العالمي: وهي البث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية. إذ سيطرت الشركات الأمريكية على بدايات تكنولوجيا الأقمار الصناعية وتوقَّعت تعزيز «التدفق الحر للمعلومات» بتطوير أقمار صناعية يُمكن أن تبث البرامج مباشرةً لكل أسرةٍ في جميع أنحاء العالم.
ورأت واشنطن آنذاك أنَّ سيطرتها على النظام الإعلامي العالمي تُشكِّل تطوراً إيجابياً، سواء للمصالح الأمريكية أو الديمقراطية ككل.
ولكن خارج الولايات المتحدة، فاحتمالية البث غير المقيد، الذي ينتشر عن طريق تكنولوجيا خاضعة لسيطرة قوةٍ أجنبية، لم تُلهِم المروجين للحرية بقدر ما أطلقت أجراس إنذار دبلوماسية.
الإنترنت يزيد الأمر سوءاً
والآن بعد أكثر من نصف قرن، صرنا نعيش في عالمٍ تُشكِّله السياسات الأمريكية المُكرَّسة للتدفق الحر للمعلومات عبر الحدود الدولية. وأدى ظهور الإنترنت، الذي يُمثِّل تقنيةً أخرى طوَّرتها واحتضنتها الولايات المتحدة، إلى وصل أرجاء العالم البعيدة ببعضها البعض. وما زال الكثيرون من الأمريكيين يظنون أنَّ حركة المعلومات دون عائق توفِّر الحرية للجميع.
ففي عام 2011، احتفت وزارة الخارجية بدور شركات التكنولوجيا الأمريكية مثل فيسبوك وتويتر في احتجاجات الربيع العربي.
لكنَّ الجانب المظلم من هذا العالم ظهر مؤخراً. إذ أجبر التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية الأميركيين على مواجهة مشكلة حرب المعلومات، التي ربما لم تكن منذ فترة طويلة تبدو وكأنها من مخلفات عصر الحرب الباردة.
ففجأةً، أصبحت وسائل الإعلام الأمريكية تعج بتقارير عن الصراع السيبراني وأمن الانتخابات. وانهارت التفسيرات التقليدية عن حرية المعلومات أمام إدراك أنَّ تدفقات المعلومات يمكن أن تتلاعب بها الحكومات الأجنبية وفروع الدولة المعادية للقيم الليبرالية الديمقراطية.
الولايات المتحدة بدأت بالتلاعب عبر مبدأ التدفق الحر
غير أنَّ الدول الاستبدادية لم تكن هي القوة الوحيدة وراء ظهور هذا التضليل الرقمي؛ فالولايات المتحدة نفسها لطالما روَّجت لرؤيةٍ مناهضة لوضع لوائح تضبط حرية المعلومات، مما سمح الآن لمجموعات الضغط الأجنبية بالتلاعب بما يقرأه المشاهدون في الولايات المتحدة ويشاهدونه ويشاركونه.
جاء أول تصوُّر أمريكي لسياسةٍ تدعم التدفق الحر للمعلومات عبر الحدود الدولية في وقت الحرب العالمية الثانية تقريباً. وبعد ذلك، جادل بعض الأمريكيين المؤثِّرين بأنَّ هناك مزيجاً من الرقابة السياسية والاتفاقيات الاقتصادية قد سمح بظهور الديكتاتوريين الأوروبيين عن طريق عزل الجماهير عن مصادر المعلومات الدولية.
إذ كتب كِنت كوبر، الرئيس الراحل لوكالة Associated Press الذي ظل يدافع فترةً طويلة عن انفتاح أسواق الأخبار، مقالةً في عام 1944 قال فيها: «لولا تزييف الأخبار، لما كان من الممكن خداع شعوب البلدان المعتدية ودفعها إلى تأييد تصرفات حكوماتها».
وبعبارةٍ أخرى، فندرة الأخبار المأخوذة من مصادر دولية جعلت الشعوب عرضة لدعاية اليمين المتطرف.
ومع استمرار الحرب، توصل بعض الساسة وأصحاب وسائل الإعلام والمفكرين السياسيين إلى توافقٍ مفاده أنَّ واشنطن يجب أن تؤدي دوراً قوياً في ضمان حركة مرور المعلومات عبر الحدود، إذا فازت قوات الحلفاء في الحرب.
تدفق المعلومات سيمنع ظهور هتلر جديد
وأوضح كوبر أنَّه في حال «تأسيس (تدفُّق المعلومات) وفرض استمراره. فلن نشهد وزراء إعلام أمثال غوبلز (وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر) أبداً».
وظل مبدأ التدفق الحر للمعلومات يوجِّه السياسة الخارجية الأمريكية منذ ذلك الحين. إذ سعت واشنطن إلى إدراج ضمانةٍ قوية تكفل حرية المعلومات في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948 عن الأمم المتحدة، والذي أعلن وجود حقٍّ عالمي في «البحث عن المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها عبر أي وسيلة إعلامية وبغض النظر عن الحدود».
كان الأمريكيون يؤمنون بأن حرية تدفق المعلومات تمنع ظهور زعماء مثل هتلر وموسيليني/Wikipedia
وفي العام نفسه ولأول مرة، أضفِيَ طابعٌ مؤسسي على دبلوماسية المعلومات في الحكومة الأمريكية على أساس وقت السلم. وسمح قانون سميث-موندت أو «قانون التبادل المعلوماتي» الذي صدر في عام 1948 للحكومة بتوزيع المعلومات في الخارج، وهو ما فعلته بالاستمرار في بث برامج محطة Voice of America الإذاعية التي بدأت في أثناء الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى إجراءاتٍ أخرى.
وفي عام 1953، أنشأت الحكومة وكالة المعلومات الأمريكية، التي روَّجت للثقافة والسياسات الأمريكية في الخارج. وفي الوقت نفسه، ضغطت واشنطن على الدول الأخرى لتخفيض اللوائح التجارية الخاصة بأوراق الصحف والأفلام الفوتوغرافية.
وبمرور الوقت، أصبح الخطاب الأمريكي يشدِّد على التدفق الحر لكمياتٍ كبيرة من المعلومات واصفاً إيَّاه بأنَّه جيدٌ في حد ذاته.
وفي زيارةٍ رسمية إلى الصين في عام 2009، تصدَّر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عناوين الصحف لتصريحه بأنَّه يعتقد أنَّه «كلما تدفقت المعلومات بحرية أكبر، أصبح المجتمع أقوى، لأنَّ مواطني البلدان في جميع أنحاء العالم.. يمكن أن يبدأوا في تشكيل آرائهم وأفكارهم بمحض إرادتهم».
وقد ركَّزت التغطية الإعلامية المتعلقة بهذه الواقعة على دور الرقابة الصينية على الإنترنت في التوترات بين واشنطن وبكين. لكنَّ فكرة أنَّ جودة المعلومات تتناسب طردياً مع كثرتها ليست وليدة العصر الرقمي.
ففي كتاب Mass Media and National Development الذي صدر في عام 1964 ويستعين به الكثيرون للحصول على المعلومات، أكَّد ويلبر شرام الأستاذ السابق في جامعة ستانفورد كذلك أنَّه «كلما زاد تدفق المعلومات وزات حرية تداولها، قلت قدرة التلاعب المعلوماتي على إحداث أي تأثير». وهنا يُمكن القول إنَّ أوباما وشرام كانا متفقين في الأساس على أنَّ ضمان حماية الحرية من الانتهاكات الحكومية هو فتح حنفية المعلومات على نطاق أوسع (وصناعة المزيد من الحنفيات)، وليس تصفية المعلومات الخاطئة ووسائل الإعلام المُضلِّلة.
غير أنَّ الهدف لم يكن قَط أكاديمياً فقط. ففي الستينيات من القرن الماضي، غذَّت مثل هذه المفاهيم مشروعاتٍ أمريكية واسعة النطاق لنشر «وسائل إعلامية جديدة» -مثل التلفزيون والبث الفضائي- في عالم ما بعد الاستعمار والدول النامية. وقدَّم شرام المشورة لصانعي السياسة بينما كانوا يُقدِّمون هذه الوسائل الجديدة في جميع أنحاء العالم، من السلفادور إلى الهند إلى ساموا الأمريكية.
وكان هدف واشنطن المعلن هو المساعدة على ربط سكان المناطق الريفية في العالم النامي بمجتمعٍ أوسع، مثل مشروع Project Loon الذي أطلقته شركة جوجل، أو خدمة Free Basics المثيرة للجدل التي تقدمها شركة فيسبوك، وكلاهما يوفر للسكان المحرومين من الإنترنت خدمة إنترنت مجانية.
وفي السبعينيات، تطورت تكتيكات الولايات المتحدة، لكنَّ الهدف -أي زيادة حرية تدفق المعلومات- ظل كما هو. وكانت واشنطن آنذاك تمر بانسحابٍ مؤلم من حربها في جنوب شرق آسيا. إذ أسفر انخفاض قيمة الدولار وأزمة الطاقة عن الإضرار بميزانية الولايات المتحدة. ولذلك، بدأت النخبة الأمريكية في اتباع سياسات التدفق الحر عبر القطاع الخاص بدلاً من التعاون الإنمائي مع الحكومات الأجنبية.
وقد عكست لهجة الخطاب العام هذا التقارب بين المصالح العامة والخاصة. وفي عام 1979، كتب إيثيل دي سولا بول، أستاذ العلوم السياسية في معهد ماساشتوستس للتكنولوجيا، أنَّه من «مصلحة» البلدان النامية «معارضة جميع القيود المفروضة على التدفق الحر للمعلومات. لأنَّ حقوق النشر، والقيود الأمنية، والقيود التجارية.. جميعها تكبح تقدُّم البلدان النامية».
ومن وجهة نظر بول، فإزالة اللوائح المتعلقة بتدفق المعلومات هي أفضل طريقة لنقل الأخبار والمعرفة التي تحتاج إليها هذه البلدان من أجل تحديث نفسها.
مصر وفرنسا تتصديان للهيمنة الأمريكية
كانت الفكرة في فترة ما بعد الحرب بأن التدفق الحر للمعلومات هو أمر جيد للغاية تتوافق مع التزام الولايات المتحدة المحلي بحرية الصحافة. وعكست هذه الفكرة أيضاً الاعتقاد بأن الحرب العالمية ضد الشمولية تتطلب تعزيز القيم الليبرالية دولياً. لكن سياسات التدفق الحر للمعلومات التي تبنتها الولايات المتحدة أصبحت مثيرة للجدل لفترة طويلة في الخارج.
إذ أثارت الاتصالات عبر الأقمار الصناعية مناقشات ساخنة خاصة في الستينيات والسبعينيات، حين بدأت التكنولوجيا في التقدم. وكانت أنظمة الأقمار الصناعية في بداياتها ترسل إشاراتها إلى محطات إعادة الإرسال الأرضية. لكن الأقمار الصناعية الحديثة أصبحت قادرة على بث الإشارات مباشرة داخل المنازل. وقد يصبح بإمكان هذه الأنظمة المعروفة باسم أقمار البث المباشر، التحايل على القواعد التنظيمية الوطنية، وهو احتمال أثار قلق كثير من الحكومات.
وقد أرادت فرنسا حظر هذه التقنيات مباشرة، في حين اقترحت مصر فرض قيود مماثلة حتى تُعقد معاهدة دولية. فيما اقترحت السويد وكندا تطوير البث المباشر على المستوى الإقليمي، لتعزيز التعاون بين البلدان المجاورة.
ولكن ما تتشارك فيه كل هذه الدول هو إيمانها بصحة تنظيم الاتصالات الدولية، وهي فكرة بدأت واشنطن في التشكيك بها.
أمريكا وحدها أمام العالم
ففي تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1972، وافقت 102 دولة على ضرورة «وضع مبادئ تحكم» البث المباشر «وإبرام اتفاق دولي». وكان من بين المؤيدين لهذه الفكرة حلفاء الولايات المتحدة الليبراليين التقليديين مثل بريطانيا وهولندا. وكانت الولايات المتحدة هي الوحيدة التي صوتت ضد هذا الإعلان، وعللت موقفها بأنها تدعم مبادئ التدفق الحر للمعلومات. وعلق فرانك ستانتون من CBS على ذلك قائلاً: «لا نتفاوض على حرية التعبير».
كان لدى واشنطن أدوات أخرى للرفض. إذ فرضت ضغوطاً سياسية واقتصادية على حلفائها لتحرير البث الإذاعي والاتصالات، وهددت بالخروج من المنظمات الدولية التي تؤيد تنظيمها، مثل اليونسكو، التي انسحبت منها الولايات المتحدة عام 1984. وبفضل معارضة أمريكية قوية جزئياً، لم يصبح البث المباشر ضمن اتفاقية الأمم المتحدة الملزمة قانوناً.
فقد استخدمت تدفق المعلومات لإسقاط خصومها
قد تبدو شدة رد الفعل على أقمار البث المباشر غريبة في عالم اليوم، حيث يوصف التواصل العالمي كثيراً بأنه نعمة كبيرة. لكن هذه المخاوف كانت مرهونة بالتجربة. أثناء الحرب الباردة، كثيراً ما استخدمت واشنطن (وموسكو) وسائل الإعلام والاتصالات للتأثير على السيادة السياسية للدول الأخرى.
ففي الانتخابات الوطنية الإيطالية عام 1948، بدا الحزب الشيوعي قوياً، إلى أن شنت المخابرات الأمريكية حملة إعلامية لهزيمته بالاستعانة بالسينما والإذاعة ووسائل الإعلام المطبوعة ووسائل أخرى.
وتزامنت جهود واشنطن لقمع التيار اليساري في أمريكا اللاتينية مع مشروع طويل الأمد للهيمنة على نصف الكرة الأرضية. وكانت شركة International Telephone and Telegraph إلى جانب وكالة الاستخبارات المركزية متورطتين في الانقلاب العسكري عام 1973 في تشيلي، الذي أطاح الرئيس المنتخب ديمقراطياً سلفادور أليندي ونصب دكتاتورية أوغستو بينوشيه العنيفة.
وقد تطول القائمة وتطول. ويرى المراقبون خارج الولايات المتحدة، أن مثل هذه الحوادث خلال سنوات الحرب الباردة كشفت كذب ادعاء الولايات المتحدة بنشر الحرية وكشفت عن الدوافع الحقيقية وراء السياسة الخارجية للولايات المتحدة: وهي كراهيتها الشديدة للشيوعية ووصول الشركات الأمريكية إلى الأسواق.
التدفق الحر للمعلومات يقلل الرقابة المحلية ويزيد التلاعب الخارجي
لم يكن مبدأ التدفق الحر محايداً سياسياً يومياً. إذ إن فتح الساحة الإعلامية لبلد ما أمام تدفقات المعلومات من بلدان مختلفة قد يحمي شعبها من الرقابة المحلية المشددة، ولكن على حساب زيادة تعرضه للتلاعب الخارجي وللأفكار المعاكسة التي تجتاح العالم.
ولم تتعلم الولايات المتحدة هذا الدرس سوى مؤخراً، حين أقحمت القوى الأجنبية مصالحها في الشؤون الداخلية قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016.
أشار الباحثون في شؤون الحرب الباردة إلى أن ما حدث في انتخابات الولايات المتحدة لعام 2016 لم يكن جديداً عند إلقاء نظرة شاملة على التاريخ.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما شجع حرية الإعلام ولكن عهده انتهى بالاختراق الروسي الشهير/رويترز
فحتى قبل ظهور الاتصالات الرقمية، كانت العمليات السياسية المحلية في جميع أنحاء العالم عرضة لضغوط من الحكومات الأجنبية، وخاصة من واشنطن وموسكو. وأشار المعلقون إلى أن الجديد الذي حدث عام 2016 كان حقيقة أن هذا الانتهاك للسيادة حدث داخل الولايات المتحدة.
من الجائز أن دور الولايات المتحدة في وسائل الإعلام العالمية وحركة المعلومات بعد عام 1945 أعطى الأمريكيين شعوراً بالسيطرة وأنهم لا يقهرون. لكن تبين أن البلاد كانت ضعيفة أمام القوى التي أطلقت لها العنان.
إذ دعمت المبادئ الأمريكية الخاصة بالتدفق الحر للمعلومات الانتشار العالمي لتكنولوجيا الاتصالات التي تشمل البث والشبكات الاجتماعية. لكن هذه المبادئ نفسها أخفت أيضاً الطرق التي يمكن بها استخدام هذه التقنيات بما يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة.
في ضوء ذلك، كان عام 2016 هو اللحظة التي شهدت انعكاس تأثير التدفق الحر للمعلومات، حيث جرى التلاعب بنقل المعلومات عبر الحدود لتقويض السيادة الأمريكية.
لا يتطلب تبادل المعلومات عبر الحدود اتصالات لا تخضع لأي قواعد.
والآن الولايات المتحدة تحتاج إلى القواعد التي رفضتها قديماً
ففي السبعينيات وأوائل الثمانينيات، دعا تحالف من دبلوماسيي العالم الثالث إلى ما أطلقوا عليه «التدفق الحر والمتوازن للمعلومات» استجابةً لفكرة أن الشركات الغربية الكبرى تحاول الإفادة من تنامي حركة المعلومات.
واقترحوا تقديم الدعم لوسائل الإعلام داخل دول العالم الثالث، فضلاً عن لوائح أكثر صرامة من شأنها أن تساعد على ضمان عدم إغراق الأسواق النامية بإعلام العالم المتقدم.
في ذلك الوقت، انتقد الصحفيون والدبلوماسيون الأمريكيون هذا النهج بشكل مبرر بسبب التقليل من الانتهاكات الاستبدادية لحريات الصحافة وحرية التعبير. لكن هذه المحاولة تلتها تطورات أكثر حداثة.
روسيا من أكبر المتلاعبين بحرية الإعلام
ففي عام 2018، عزز الاتحاد الأوروبي واليابان التزاماً مشتركاً «بتدفقات البيانات المجانية والآمنة» عبر مواءمة معاييرهما التنظيمية بشأن الملكية الفكرية وحماية المعلومات الشخصية.
وكان الاتفاق، مثل النظام الأوروبي العام لحماية البيانات الذي طُبق في العام نفسه، مرتبطاً بالمخاوف من أن شركات التكنولوجيا الأمريكية كانت تضرب بالقيم الاجتماعية مثل الخصوصية عرض الحائط.
في المناقشات التي جرت حول الأقمار الصناعية في أواخر القرن العشرين، قال بعض الأمريكيين إن تدفق المعلومات كان غير محكوم، سواء من الناحية العملية أو الأخلاقية. مثلما كتب فيليب باور وإيلي أبل في مجلة New York Times عام 1980: «قد تتخطى وتيرة التكنولوجيا قدرة المؤسسات السياسية الدولية على اللحاق بها.. قد تجد الحكومات صعوبة في السيطرة على تدفق الأخبار والمعلومات، ولكن الأقمار الصناعية والتكنولوجيا التي تقف وراءها قد تجعل هذه الجهود بلا فائدة. إذا بدا أن الكاتبين متفائلان بشأن هذا التطور، فمن المحتمل أن هذا بسبب أن الشركات الأمريكية كانت في طليعة المطورين لأدوات الاتصالات الجديدة هذه عام 1980.
ووصولاً إلى عام 2019، لا تزال الولايات المتحدة رائدة على مستوى العالم في مجال التكنولوجيا، لكن دولاً مثل الصين تلحق بها سريعاً. علاوة على ذلك، في المشهد اللامركزي لمواقع التواصل الاجتماعي المعاصرة، لا يحتاج المرء إلى ميزانية دفاع بقيمة مليار دولار للتأثير على الرأي العام.
لقد حان الوقت لإعادة النظر فيما إذا كان التدفق الحر للمعلومات يمكن أن يحافظ على أمن الديمقراطية الأمريكية أم لا