يعتقد العديد من المحللين السياسيين أن الجزائر، التي تتمتع بموقع استراتيجي هام وتتمتع بثروات من الغاز والنفط، هي على قائمة الدول التي يخطط لتفجير أحداث فيها على غرار ما جرى في مصر وليبيا وتونس واليمن، وما يجري في سورية الآن، حيث إن قوى دولية غير عربية تعمل بهذا الاتجاه، والغريب في المسألة أن وسائل الإعلام العربية لدى عدة دول لديها معلومات عما يتم التحضير له، إلا أنها تتجاهلها خبراً وتحليلاً

 لقد تتبعت أصداء الحركات الاحتجاجية التي انطلقت في الجزائر تحت شعار ”رفض العهدة الخامسة” للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، تصاعدت، وامتطتها تيارات مختلفة، لذلك لم تتوقف بعد إعلان بوتفليقة نيته عدم الترشح، وأصبح مطلبها تنازله عن الحكم، ورغم تحقيق هذا المطلب بلغت الاحتجاجات ذروتها، وما زالت مستمرة وأصبحت المطالب تتلخص في رحيل رموز نظام بوتفليقة… بمعنى أن الشعب الجزائري الجديد (أجيال الشباب) يريد رؤية حاله في نظام ودولة وحكم وسلطة… ويجب أن نعترف، أنّ المشهد الجزائري كان نموذجاً إيجابياً من خلال التعبير السلمي لجموع الشعب الجزائري نحو إيجاد منظومة وطنية تتماشى والمتغيرات التي يشهدها العالم، كان هناك تخوف وقلق أن تتكرر مشاهد وكوارث التجارب السورية واليمنية والليبية والتي أدت إلى كوارث إنسانية لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، حيث معاناة تلك الشعوب العربية، ومن هنا فإن الشعب الجزائري يستحق التحية من خلال سلوكه الحضاري في التعبير عن طموحاته المستقبلية.

 ومن هنا تسجل للشعب الجزائري والشرطة وقوى الأمن الجزائرية ذلك الحس الوطني والذي جنب الجزائر الانزلاق إلى مرحلة معقدة، كما حصل في مظاهرات العديد من الدول العربية… التي لا تزال تعاني من حروب أهلية وتمزق للمجتمعات وهروب الملايين من تلك الشعوب خارج أوطانها، كما أن القيادة الجزائرية استوعبت المشهد الشعبي وأدركت بان المنطق السياسي يفرض إجراءات وطنية تجنب الجزائر النتائج الكارثية لتلك الدول التي تمت الإشارة لها.

 إنّ الاحتجاجات اليوم تراوحت بين خطاب عقلي واع وبين تشنجي لا يهتدي لبوصلة في الاتجاه، وآخر مبطن يخفي أجندته وإن كان يُظهر التلويح بسقف مطالبه… وآراء مراقبين أجانب تشدهم الأحداث يتسابقون إلى رصدها ومعرفة ما يعتمل في هذه المنطقة، وتحديداً في هذا البلد العريق، الذي أذلّ الاستعمار الفرنسي… ولعله من قبيل الاهتمام بهذه المنطقة الاستراتيجية وما تتوفر عليه من مكامن الطاقة المحركة لعجلة الاقتصاد العالمي من نفط وغاز، ولحساسيتها الجيوسياسية، ووقفت على ما قدمته من تأويلات وتفسيرات لهذه الظاهرة، كلٌ من منظوره واعتقاده وأحياناً استناده لمصادره وقراءته للمشهد، فضلا عن مراسلي وكالات الأنباء والصحافة والعالمية وبعض القنوات الفضائية العربية والعالمية وما تناقلته من أخبار وتقارير وتحليلات حول هذه الاحتجاجات وتداعياتها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي…

 ولعل ما استوقفني في هذه المتابعة بحكم اهتمامي الشخصي كمواطن مغاربي في المقام الأول يعيش وقع ما يجري في وطنه المغاربي الكبير، وليس بأقل من ذلك واجبي في منظومة الإعلام العربي، معني بهذه المتابعة أو ما يمكن وصفه بهذا الزخم الواسع من التفسير والتأويل لوقائع المشهد وتداعياته، وبخاصة من أولئك الذين يطلقون العنان لخيالاتهم في التحليق خارج فضاء المشهد، وما ينسجونه ويبتدعونه من أوهام و تهويل وتعقيد فوق ما يحتمل المشهد الجزائري…

 ولعل أكثر ما يتبدى أفقاً مظلماً وموجعاً أن يكون الهدف هو إسقاط الدولة الجزائرية، هيبة وسيادة أو إضعافها على الأقل كما نرى ونتابع! فالشعب الجزائري الطامح إلى مكافحة الفساد، وتجديد دولته الوطنية، للأسف يتم التغرير به بشعارات ثورية وديمقراطية فاسدة، ليستمر في حركة الاحتجاج حتى إسقاط الدولة الجزائرية. ولا يوجد أي جزائري يمكن أن يرضى ”لدولته” أن تسقط أو تضعف. ولنعترف أولاً أن ثمة فارقاً بين إصلاح الدولة وإسقاطها، ولا يمكن أن نصدق أن من يسعى لإسقاط الدولة يريد إصلاحاً من أي نوع… ويبدو أن كثيراً من الممارسات هي في مضمونها تسعى جهلاً أم عمداً إلى إسقاط مؤسسات ومظاهر الدولة وهو الأمر الذي لا ينبغي لأي جزائري أن يقبله بأي صيغة… والكل يستطيع أن يميز بين إسقاط نظام وتغييره وبين إسقاط الدولة، ولسنا بحاجة لكبير جهد ونحن نقرأ الآن الأحداث من نتائجها…. أو من محاولة استقراء نتائجها القادمة… المستقبل ينبئ أننا بهذه الطريقة مقبلون على عدة مظاهر خطيرة على الجزائر كدولة وكوطن…

 و في هذا السياق حذر نائب وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أحمد قايد صالح، في كلمة جديدة خلال زيارته إلى قيادة القوات البحرية ”أن من لا يحترم قوانين الجمهورية سيلقى جزاءه العادل، وسيتم تطبيق القانون بكل الصرامة المطلوبة ضد كل من يحاول أن يضع العراقيل أمام المسار الانتخابي المصيري، ويحاول يائساً أن يشوش على وعي الشعب الجزائري واندفاعه بقوة وإصرار على المشاركة المكثفة في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وقد نبه أبناء المسيرات السلمية إلى أن هناك ”أطرافاً مغرضة تحاول جاهدة ركوبها وتسخير المال الفاسد من جهات مجهولة”، والتي تحوي مرامي خبيثة واستعماله لتضخيم أعداد هذه المسيرات من خلال جلب مواطنين من ولايات خارج العاصمة”.

يبدو أن لا أحد يريد أن يفهم أن النظام ليس رئيساً أو حزباً أو حكومة أو فئة أو طائفة. إن النظام هو الشعب بكل فئاته وفعالياته السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن ينادي بإسقاط النظام إنما ينادي بتدمير هذا كله بضربة واحدة لتصبح الجزائر أرضاً مفتوحة بلا شعب، بلا نظام. لا أحد يريد أن يصدق أن الإصلاح والتغيير لا يتم بإحلال أشخاص محل أشخاص، أو بمنظومة قوانين جديدة تمنع وتسمح، تعاقب أو تكافئ. إن الإصلاح والتغيير هما إرادة أمة بكل فئاتها، يتمان في جو من الأمان والاستقرار في الداخل والخارج، وآلية فعالة تدرس مشاكل الأمة وهمومها وتبتكر لها الحلول المتكاملة على أسس من الحب والعدل والنزاهة مبنية على فهم التهديدات ووحدة المصير حيث يتساوى الجائع والمتخم والعامل والعاطل وساكن القصر والكوخ أمام آلة القتل والدمار. بعد إرساء الدعائم والآليات تبدأ الإصلاحات التي تحتاج إلى متابعة وتقويم متواصلين في جهد جماعي يقوم كل فرد أو مؤسسة أو حزب أو تجمع بدوره في بذل ما في وسعه لخدمة الوطن والمطالبة بكامل حقه فيه عن طريق مؤسساته الدستورية والإدارية والسياسية.

نعم إن الجزائر تمر بمنعطف وبمرحلة حساسة ومصيرية، إلا أن الحراك السلمي المنضبط هو من يعطي الأمل بعملية تغيير شاملة وسلسة تعكس أصالة بلد وحضارة حراك المحتجين ومطالبهم المشروعة، ونعتقد باليقين أن المؤسسة العسكرية في الجزائر لن تنحاز إلا لمن ينتخبه الشعب، لأنها بالأحوال كافة جزء من الشعب ومصدر قوته. من هذا الإحساس بإمكانية نجاح عملية التغيير في الجزائر حتى وإن كان عبر ومساعدة المؤسسة العسكرية؛ لأن الخيار الآخر قد يدخل البلدين في دوامة العنف والعنف المضاد، وحينها نخسر الرهان على ثنائية التغيير وديمومته وصولا إلى واقع وأفق جديد يعيد للبلد دوره في محيطه، ويلبي طموحات شعبه بغد واعد خالٍ من العنف والاحتراب والتناحر السياسي.

 وحتى لا تضيع فرصة التوحد في موقع الدفاع عن الجزائر بين السلطة والمعارضة الوطنية والمخلصين من أفراد الشعب، ينبغي للجميع أن يسعوا لِلقاءِ في منتصف الطريق على أرضية القواسم المشتركة التي تجعل الجميع يعيشون الشراكة الحقيقية في مواجهة تحديات المرحلة، وربما تكون السلطة أكثر من المعارضة الوطنية معنية بالتحرك نحو مواقع اللقاء لأنها تملك كل شيء مقابل المعارضة الوطنية التي لا تملك إلا كلمتها وموقفها الوطني الإيجابي الذي تعبّر عنه بما يصدر عنها من كلمات وتحركات، والمرهون دوماً بحصولها على الثقة بجدية السلطة في التّحوّل من الانفراد بكل شيء إلى التشارك مع بقية مكونات الشعب ـ ولاسيما الطبقة المثقفة منه ـ في صناعة القرار الوطني ورسم مسارات الإصلاح التي يُراد للجزائر الولوج فيها بشكل جدي، وبهذا نقطع الطريق على مشاريع الخارج المتسابقة بهجماتها على الشعب الجزائري لتكسب على أرضه المعارك التي خسرتها في المواقع الأخرى.

 ومن باب الأمانة، فإنّ تمسك كل طرف بمواقفه واعتبارها مباراة صفرية، فهذا أمر يخسر فيه الوطن أكثر مما تخسر الأطراف الأخرى، فنجاح التجربة الديمقراطية هو مكسب للشعب الجزائري، كما هو مكسب للوطن، وهذا ما لن يحدث إلا في ظل عقد اجتماعي جديد يرضي كل الأطراف ويسهم في تدشين مرحلة جديدة تنعم فيها الجزائر بالحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية.

 أمام كل هذه التحديات والظروف القلقة في الرؤى والمواقف يتطلب الأمر مواقف شجاعة من السلطة والمعارضة الوطنية معاً تُغلب مصلحة الجزائر على كل المصالح، مواقف تجعل الجميع ينصهرون في بوتقة وطنية واحدة، يتشارك فيها جميع أبناء الجزائر في حفظ وطنهم والذود عنه، وبناء حاضره ومستقبله تفكيراً وتقريراً وفعلاً ميدانياً، لتتشكل بذلك كتلة وطنية موحدة تجمع السلطة والمعارضة وبقية أفراد الشعب، لتقف في مواجهة المشروع الأميركي الأوروبي الصهيوني ـ والعربي الرجعي، في بعض مواقعه ـ والقلة المنخرطة فيه الساعية لاختطاف الجزائر وأهلها لتقدمه لقمة سائغة لأعدائه، متوسلة لذلك بالقتل والتخريب والكذب والتزييف والإلغاء للآخر فكراً ووجوداً وحياة.

 فهل نتخذ من المواقف ما تتطلبه التحديات الحاضرة مما يجعلنا نتصالح مع أنفسنا والآخر الوطني، أم إننا نضِّيع هذه الفرصة بإصرارنا على تغييب الآخر كما ضيّعنا ما فات من فرص سابقة طوال فترة الأزمة الراهنة؟ وهل نخفي خطأ موقفنا بإقصاء الآخر خلف دعوى وجود المؤامرة الخارجية التي لا يختلف منا اثنان على وجودها وطريقة التعامل معها؟ أم نتطلع إلى الأفق الرحب للجزائر الغالية التي لن تحبس آمالها مؤامرات أعدائها ولا أخطاء بعض أبنائها وأنانياتهم؟

 المسألة هنا، سلطة ومعارضة وأفراداً، والوطن شعباً وأرضاً أمانة الله والأجيال في أعناق المعارضة والسلطة، وأجيال المستقبل سوف تُسائلهم عما قدموه للجزائر في أيام الشدائد والمحن من مواقف وأفعال تحمي وجودها ووحدتها وعزتها وكرامتها. السؤال مطروح على الجميع: والأفعال لا الأقوال هي التي تجسد الجواب الواقعي عليه. فالمرحلة تعد حساسة والأجيال الجديدة تنظر إلى المتغيرات القادمة بشكل يتماشى مع تطلعاتها نحو المزيد من التطور والنقلة النوعية للجزائر في ظل تناغم مجتمعي وحرص على الوحدة الوطنية والانطلاق في العمل الوطني وعدم استغلال المشهد من قبل البعض داخلياً وخارجياً. فالأوطان ومستقبلها تبقى في النهاية أهم من الطموحات الفردية الضيقة.

 في هذا الواقع الجزائري الاستثنائي في مآلاته، لا بد من حماية الجزائر، الجزائريون وحدهم يجيبون على أمر يمسكونه بأيديهم… هنا توضع التجربة التاريخية لثورة المليون ونصف شهيد والعشرية السوداء، وتجارب البلدان الشقيقة الأخيرة، وتكون ماثلة وذات عبرة ودرس واعتبار… فارحموا جزائركم وارحمونا لحبنا له.

 خلاصة الكلام: إنّ التفكير بمرحلة ما بعد بوتفليقة ليست بهذا التعقيد، تحديداً فهناك في الجزائر أشخاص قادرون على ملء الفراغ والانطلاق بالجزائر نحو مستقبلٍ يرسمهُ أبناؤها بعيداً عن الفساد والمحسوبيات كآفتين تنهشان جسد كل الدول… فالجزائر فوق صفيح ساخن، والنيل من استقرارها هدف جميع الأطراف الخارجية، وجزء كبير من الأطراف الداخلية… المخرج الوحيد هو في يد الجيش الوطني الجزائري، المُطالب بإجراء انتخابات الرئاسة بالسرعة الممكنة، لتمتين الجبهة الداخلية في وجه الآتي، الذي لن يكون سهلاً…

 

باحث وكاتب صحفي من المغرب.

 

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version