من المؤكد أن الحديث حول سد النهضة يحظى بقدر كبير من الأهمية خلال المرحلة القادمة في ضوء التعثر الواضح في المفاوضات، ووصولها إلى طريق مسدود بعد أكثر من خمس سنوات من التفاوض المباشر مع إثيوبيا والسودان، وعدم توصل اللجان المختلفة التي تم تشكيلها على مدار الفترة الماضية إلى أية نتائج إيجابية، الأمر الذي دفع بمصر إلى الاعتراف علناً بعدم جدوى عملية التفاوض حتى الآن مع أهمية البحث عن بدائل جديدة.

وهناك ثلاثة محددات رئيسية من الضرورى الإشارة إليها قبل الخوض في أبعاد مسألة المفاوضات ومشاكلها والمسارات المتاحة للتحرك. المحدد الأول، أن قضية سد النهضة تمثل قضية أمن قومى مصري، وبالتالى فإن تحرك الدولة المصرية في هذا المجال يعد تحركاً على قدر كبير من الأهمية، ويعتمد على خطوات محسوبة وإجراءات مدروسة. ومن ثم، لا مجال هنا لقرارات انفعالية أو تحركات غير مطلوبة، وهو الأمر الذي تحرص معه القيادة السياسية بصورة لا تقبل الشك، على أن يكون تحركها مرتبطاً بإطار موضوعى وفى إطار المواثيق الدولية.

المحدد الثاني، أن قضية سد النهضة بكل مكوناتها ومراحلها أصبحت أمراً واقعاً، ومن ثم فلا مجال أمامنا سوى التعامل معها من هذا المنطلق من أجل الوصول إلى حلول منطقية مقبولة تحافظ على أمننا المائي، لاسيما أن نهر النيل يمد مصر بحوالى 95% من مصادرها المائية.

المحدد الثالث، أن مصر لم تعترض مطلقاً على قيام إثيوبيا ببناء سد النهضة أو أية سدود من شأنها المساهمة في دعم التنمية الاقتصادية الإثيوبية ولكن بشرط ألا يؤدى ذلك إلى الإضرار بحصة مصر المائية التي كفلتها لنا القوانين الدولية المتعلقة باستخدام وإدارة الأنهار الدولية والاتفاقيات السابقة التي تحاول إثيوبيا تجاهلها وعدم الاعتراف بها.

وقد أبدت مصر العديد من التحفظات على المعايير التي أعلنتها إثيوبيا لبناء السد. ودون الدخول في تفصيلات فنية وإجرائية نشير إلى أن أهم هذه التحفظات كان ضرورة إعادة النظر في مسألة قواعد ملء وتشغيل السد، حيث تطالب مصر بأن تطول فترة الملء حتى سبع سنوات بدلاً من ثلاث أو أربع سنوات كما تطالب إثيوبيا، خاصة أنه في حالة تنفيذ هذا المطلب الإثيوبي سيؤدى ذلك إلى نقص في المياه المتدفقة إلى مصر سنوياً بحوالى من 9 – 15 مليار متر مكعب (نشير هنا إلى أن حصة مصر من مياه النيل هى 55 مليار متر مكعب سنوياً). وهذا النقص سوف يرتب تأثيرات سلبية متتالية على توليد الكهرباء وعلى الزراعة في مصر بنسب متفاوتة. وفى نفس الوقت، كانت هناك تحفظات مصرية أيضاً على بعض النواحى الفنية المتعلقة بأمان السد، لكن لم تتعاون إثيوبيا مع المطالب الواردة إليها من لجنة الخبراء الدولية المتعلقة بهذا الشأن.

ومن المهم أن نشير في هذا المجال إلى أن إثيوبيا قد بدأت بناء السد في الفترة التي كانت فيها مصر في حالة سيولة في أعقاب ثورة يناير، حيث قام رئيس الوزراء الإثيوبي بوضع حجر الأساس لبناء السد في أبريل 2011، وبالتالي حرصت مصر في أعقاب ثورة 30 يونيو على أن تمنح هذا الموضوع أهمية خاصة في أعقاب تعافى الدولة واستعادة قوتها وهيبتها، وبدأت عملية تفاوض مطولة مع الجانب الإثيوبي من أجل التوصل لحل لهذه المشكلة.

وبالفعل، دخلت مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسى مفاوضات جادة مع إثيوبيا اعتمدت فيها على موقفها القوى طبقاً للقانون الدولى ليس ذلك فقط، بل انتهجت مبدأ التفاوض بكل شفافية ومصداقية وثقة وحسن نية من منطلق أن الهدف النهائى من عملية التفاوض تمثل في الوصول إلى حلول مقبولة من الطرفين تحقق المصلحة المشتركة لكليهما. وقد أسفرت عملية التفاوض عن التوصل إلى إعلان مبادئ تم توقيعه في الخرطوم في مارس عام 2015 بين قيادات الدول الثلاث (مصر وإثيوبيا والسودان) كان من المفترض أن يكون بداية جديدة لعهد جديد بين هذه الدول يحقق الرخاء والتنمية ويؤسس لمرحلة من التعاون والتفاهم والتنسيق والمصالح المشتركة، وينهى في نفس الوقت أية أفكار للصراع أو الخلاف.

فى هذا الشأن لابد أن نشير إلى مدى أهمية إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث، حيث تضمن عشرة مبادئ واضحة تصلح تماماً لإنهاء هذه المشكلة، وهي مبادئ تتحدث في معظمها عن المنافع والمصالح المشتركة، والتعاون وحسن الثقة، وتبادل المعلومات، وتفهم الاحتياجات المائية لدول المصب (مصر والسودان). ثم طالب الإعلان في أحد بنوده إثيوبيا باستكمال تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية المتعلقة بأمان السد. ومن الضرورى أن نشير هنا إلى مبدأ الإلزام في هذا الإعلان، حيث نصت ديباجة إعلان المبادئ على أن الدول الثلاث ألزمت نفسها بكافة المبادئ العشرة التي تضمنها.

وبتوقيع إعلان المبادئ دخلت المشكلة فيما يمكن أن نسميه المرحلة التنفيذية للحل المؤسس على المصالح المشتركة المقبولة من كافة الأطراف، إلا أن الجانب الإثيوبي استمر في نهجه المتشدد متجاهلاً الإلتزامات الواقعة عليه طبقاً لإعلان المبادئ، ولم يبد أية مرونة في المفاوضات التي تلت عملية توقيع الإعلان حتى وصلنا إلى المرحلة الحالية التي استهلكنا فيها أكثر من أربع سنوات ونصف من مارس 2015 وحتى الآن دون أية نتائج، ولاسيما فيما يتعلق بقواعد تشغيل وملء السد. ومن ثم كان على القيادة السياسية التحرك والبحث عن بدائل جديدة للحفاظ على حقوق مصر المائية.

فى هذا الإطار، حرص الرئيس عبد الفتاح السيسى على أن يطرح القضية أمام المجتمع الدولى كله، حيث تضمن خطاب سيادته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 74 في الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضى أن المفاوضات المتعلقة بسد النهضة لم تصل إلى أية نتائج، وأن الوقت قد حان لوساطة دولية للضغط على الأطراف لإبداء مرونة في مواقفها المتشددة، مؤكداً أن قضية المياه بالنسبة لمصر هى قضية حياة ووجود.

وفى الوقت نفسه، حرص الرئيس السيسي في تصريحات واضحة وحاسمة لسيادته منذ أيام قليلة -فى أعقاب فشل اجتماع وزراء الري في الدول الثلاث الذي عُقد في الخرطوم- على تأكيد التزام مصر بكل مؤسساتها بحماية الحقوق المائية لمصر في مياه النيل والتزامها باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسى وفى إطار محددات القانون الدولي في هذا الشأن، مع الإشارة إلى أن نهر النيل سيظل الرابط الجغرافى والتاريخي بين الجنوب والشمال.

ومن الملاحظ هنا أن كل المواقف التي أعلن عنها السيد/ الرئيس تركز على القانون الدولى والتحرك السياسى من أجل الحفاظ على الأمن القومى المصرى المائي، وهو ما يؤكد أن القيادة السياسية المصرية لازالت تنتهج في سياستها الخارجية مبدأ حسن الجوار والتعاون المشترك والبحث عن المصالح المشتركة بعيداً عن الدخول في أية صراعات لا طائل من ورائها. ولا يجب أن ننسى أن رئاسة مصر الحالية للإتحاد الأفريقى كانت نقطة تحول واضحة في سياسة هذا الاتحاد، حيث حرص الرئيس السيسى على أن تشهد فترة رئاسته للمجلس توجهاً واضحاً نحو حل الصراعات بين الدول الإفريقية، وأن تتجه القارة بقوة نحو السلام والتنمية ومطالبة المجتع الدولي بدعم هذا التوجه.

وقد حرصت الولايات المتحدة على التعامل بسرعة وإيجابية مع المطالب المصرية بشأن الوساطة الدولية في مشكلة سد النهضة، حيث أصدر البيت الأبيض تصريحاً واضحاً يدعم المفاوضات ويطالب الأطراف بالتوصل لإتفاق على قواعد ملء وتشغيل السد بما يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث ويحافظ على حقوقهم في التنمية مع احترام حقوق الطرف الآخر في المياه. وفى رأيي إن هذا التصريح الأمريكي يعد تصريحاً متوازناً لأنه يعبر عن نفس الموقف الذي لازالت تلتزم به مصر والمتمثل في ضرورة تنفيذ المعادلة الواضحة التي تجمع بين المنفعة المشتركة والحقوق المائية.

وإذا كانت مصر قد منحت المفاوضات وقتاً طويلاً تأكيداً لحسن نواياها ورغبة منها في التوصل إلى حل سياسي مرضى للجميع رغم عدم وصول عملية التفاوض لأية نتائج، فإننا كان لزاماً علينا أن ننتقل إلى مرحلة جديدة من الجهد والتحرك السياسي المتمثل في المطالبة بوساطة دولية وهى في النهاية عملية تفاوض أيضاً، ولكن مع وجود طرف ثالث يمكن أن يطرح حلولاً جديدة مقبولة ويمكن له أن يمارس دوراً أكثر إيجابية يؤدى في النهاية إلى إنهاء هذا المشكلة والانتقال بها من مرحلة يمكن أن يشوبها الصراع إلى مرحلة أفضل من تقنين المصالح والمنافع المشتركة، وهو الأمر الذى لازالت مصر تتبناه وتحرص عليه في كافة تحركاتها دون أن نبتعد عن مبدأ أن مياه النيل بالنسبة لنا مسألة حياة ووجود.

ومن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة آلية جديدة للتفاوض في إطار الوساطة الدولية، وعلينا أن نفسح لها المجال بكل مصداقية وثقة وشفافية وانفتاح وروح إيجابية، وهو أمر مطلوب من كافة الأطراف ولاسيما الجانب الإثيوبي حتى يتم الإنتهاء من هذه المشكلة ليكون حلها نموذجاً إفريقياً ناجحاً للتعاون المثمر بين مصر وإثيوبيا ويحقق مصالحهما المشتركة ولا يجور على حقوق أى منهما.

منقول عن: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version