بدأت مُناوشات تجارية بين الولايات المُتحدة والصين مُنذ تدشين الرئيس “ترامب” حملته الانتخابية في عام 2016، إذ أعلن في أحد خطابات حملته الانتخابية خلال شهر مايو من العام نفسه أنه “لا يُمكننا السماح باستمرار الصينيين في نهب ثروات بلادنا، حيث إن ما يفعلونه يُعد أكبر سرقة في التاريخ”. أما الحرب التجارية فلم تبدأ فعليًّا إلا بإعلان “ترامب” -عقب وصوله لسُدة الحكم- رفع التعريفات الجمركية بنسبة 25% على ما قيمته 50 مليار دولار من الواردات الأمريكية من الصين في 15 يونيو 2018، ردت عليها الصين بتعريفات مُماثلة بذات النسبة وعلى ذات القيمة من الواردات الصينية من الولايات المتحدة في اليوم التالي. ونتج عن هذه الإجراءات سلسلة متوالية من الفعل ورد الفعل على الجانبين، حاول كُل منهما خلالها استعمال أدواته، سواء التجارية أو التفاوضية، لإيلام الطرف الآخر بغرض انتزاع أكبر قدرٍ من المكاسب وتفادي ما يُمكن من خسائر حال توصلهما إلى تسوية تجارية.

وتأتي الولايات المُتحدة والصين على رأس قائمة الدول من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي في المركزين الأول والثاني على الترتيب، كما أنهما يُشكلان معًا حوالي 40% من الناتج الإجمالي العالمي، وذلك بنسبة 24.2% للولايات المُتحدة، 15.9% للصين، لذلك فإن ما تتخذانه من إجراءات يؤثر على الاقتصاد العالمي برُمته، وقد يقود به إلى مُنزلق الركود، لذا فمن الطبيعي أن تكون لهذه الحرب تأثيرات مُباشرة وغير مُباشرة على الاقتصاد المصري، وهو ما يُحاول هذا المقال رصده بعد استعراض أهم محطات الحرب وانعكاساتها على الاقتصادين المُنخرطين فيها بالأساس.

أولًا: تدرج أحداث الحرب

بلغ العجز التجاري الأمريكي في مايو 2018 حوالي 68.4 مليار دولار أمريكي، في الشهر السابق لبدء فرض التعريفات الإضافية على الواردات الأمريكية من الصين، فيما بلغ هذا العجز في عام 2017 حوالي 800 مليار دولار، واستمر أعلى من 500 مليار دولار في المتوسط مُنذ عام 2003، الأمر الذي حرك الرئيس الأمريكي في ظل وعوده الانتخابية “بإعادة أمريكا عظيمة مُجددًا”، إلى شن حربٍ تجارية على أهم الشُركاء التجاريين للولايات المُتحدة، ومن بينهم كندا والمكسيك واليابان والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الصين، بهدف تحويل هذا العجز التجاري إلى فائض أو على الأقل تقليصه. وقد تصدرت الحرب على الجبهة الصينية واجهة الأحداث بسبب التنافس الشديد بين الاقتصادين، وعدم تمُكن الولايات المُتحدة من فرض إرادتها على الصين، نظرًا لحجم التبادل التجاري بينهما والذي بلغ في عام 2018 (660) مليار دولار تقريبًا، مع عجز لصالح الصين بلغ في العام نفسه 419 مليار دولار، وشكل مُنذ عام 2008 أعلى من 30% من إجمالي العجز التجاري للولايات المُتحدة مع العالم. ويوضح الشكل التالي تطور العجز التجاري الأمريكي مع الصين ونسبته من إجمالي عجزها الكُلي.

وقد انتهج الرئيس الأمريكي خلال الحرب التجارية مع الصين أسلوب رفع التعريفات الجُمركية على الواردات الأمريكية من الصين، بهدف خفض تدفقات السلع الصينية للداخل الأمريكي، وممارسة المزيد من الضغوط على الحكومة الصينية بهدف شراء سلع أمريكية –زراعية في الأساس- لخفض العجز المُتنامي بين البلدين. هذه الأهداف تُدركها الحكومة الصينية بالفعل، وأظهرت استجابة مبدئية لها، لكنها -في الوقت ذاته- اتخذت إجراءات مَضادة كفيلة بتقليل تأثيرها، من أهمها –بالإضافة إلى التعريفات العكسية- خفض قيمة اليوان في مُقابل الدولار، وتنفيذ اقتطاعات ضريبية على أرباح الشركات مما أسفر في النهاية عن تقليص النفقات التشغيلية للشركات المُصدِّرة، وبالتالي خفض تكلفة المُنتج ذاته، ما يجعله ذا قدرة تنافسية داخل السوق الأمريكية. ويوضح الإطار التالي أهم محطات الحرب التجارية بين البلدين حتى وقت كتابة هذا المقال.

أهم محطات الحرب التجارية الأمريكية-الصينية

<

img src=”https://roayaanews.com/wp-content/uploads/2019/10/image1.jpg” alt=”” width=”555″ height=”663″ class=”alignnone size-full wp-image-30132″ />

ثانيًا: الانعكاسات الاقتصادية على الولايات المُتحدة والصين

تُظهر المؤشرات الاقتصادية تأثّر الاقتصادين -الصيني والأمريكي- بالحرب التجارية، لكنّ التأثيرات الكاملة لهذه الحرب مُرشحة للتصاعد، خاصة في ظل عدم توصل الطرفين بعد إلى حل أكثر نقاط الخلاف تعقيدًا، ومن المُنتظر أن تظهر تأثيرات أعمق في الأمدين المتوسط والبعيد، وفيما يلي حصر لأهم التأثيرات التي أمكن رصدها حتى الآن:

1- تراجع اقتصادي عام

أظهر الاقتصادان الأمريكي والصيني عددًا من مؤشرات التراجع خلال الأشهر الأخيرة، لكن الاقتصاد الصيني ظهر في وضع أشد ضعفًا، حيث تراجعت مُعدلات نموه من مستوى 6.7% في الرُبع الثالث من عام 2018 إلى 6.2% في ذات الرُبع من عام 2019. كما تراجع نمو الناتج الصناعي على أساس سنوي من مُعدل 6.1% في أغسطس 2018 إلى 4.4% في الشهر ذاته من عام 2019. كما تراجع مُعدل نمو مبيعات التجزئة من مُستوى 9% في يوليو 2018 إلى 7.5% في سبتمبر 2019. أما في الولايات المتحدة فقد انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي من مستوى 3.5% في الرُبع الثاني عام 2018 إلى 2% فقط خلال الربع المماثل من عام 2019. ويرجع ذلك إلى انخفاض مؤشر مُديري المُشتريات الصناعي في شهر أغسطس 2019 إلى مستوى دون 50 نُقطة لأول مرة مُنذ يناير 2013، وهو ما انعكس على مُعدل نمو الإنتاج الصناعي الذي شهد تدهورًا مُستمرًّا مُنذ أكتوبر 2018، والذي بلغ خلاله 5.6% ليصل في أغسطس 2019 إلى مُعدل 0.52%. أضف إلى ذلك ضعف مبيعات التجزئة، والتي تعتبر مؤشرًا على الإنفاق الاستهلاكي الذي يمثل غالبية النشاط الاقتصادي العام، من مُعدل 1.3% في يونيو 2018 إلى 0.8% في الشهر ذاته من عام 2019، وانخفضت إلى 0.4% في سبتمبر 2019. ويوضح الشكل رقم (1) تطور الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة والصين.

مُعدلات النمو الرُبعية للولايات المُتحدة الأمريكية والصين على أساس سنوي

2- انخفاض مُعدلات الاستثمار الأجنبي المُباشر بين البلدين

انخفضت الاستثمارات المُباشرة الصينية في الولايات المتحدة خلال عام 2018 بنسبة تزيد على 80٪ لتصل إلى 5 مليارات دولار، مقارنة بنحو 29 مليار دولار في عام 2017، و46 مليار دولار في عام 2016. أما الاستثمارات المُباشرة الأمريكية في الصين فقد انخفضت إلى 13 مليار دولار في 2018 مقارنة بـ14 مليار دولار في عام 2017.

3- انخفاض عجز الميزان التجاري الأمريكي مع الصين

كانت التعريفات الجُمركية الأمريكية أكثر نجاعة في الحد من الواردات الصينية من حيث الحجم، بينما حدث العكس إذا نظرنا إلى النسب والمعدلات، إذ انخفضت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة من 44.6 مليار دولار في يونيو 2018 إلى 39 مليار في الشهر ذاته من 2019، بانخفاض نسبته 12%. فيما انخفضت الصادرات الأمريكية للصين من 10.8 مليارات إلى 9 مليارات دولار في الشهر ذاته بنسبة انخفاض قدرها 16%، مما أسفر عن انخفاض العجز التجاري الشهري للولايات المُتحدة مع الصين من 33.4 مليار دولار في شهر يونيو 2018 عند بداية الحرب، ومن أقصى عجز بقيمة 43.1 مليار دولار في أكتوبر 2018 إلى 20.7 مليار دولار في مارس 2019، وهو أقل عجز شهري مُنذ مارس 2014. كما انخفضت الواردات الأمريكية من السلع الصينية خلال النصف الأول من 2019 إلى مُعدلات 260 مليار دولار مُقارنةً بـ297 مليار في النصف الأول من العام السابق بنسبة 12%، بينما انخفضت الصادرات الأمريكية من 74 مليار دولار في النصف الأول من 2018 إلى 60 مليار دولار في ذات النصف من عام 2019، بنسبة 18%، ويوضح الشكل التالي تطور التبادل التجاري بين الدولتين.

4- انخفاض قيمة اليوان الصيني

انخفضت قيمة اليوان الصيني مقابل الدولار بنسبة 11.5% في المتوسط مُنذ بدء الحرب التجارية في يونيو، حيث كان الدولار يساوي 6.62 يوان، في حين بلغت قيمته خلال سبتمبر 2019 في المتوسط 7.148 يوان. وهو ما وفر للمُصدرين الصينيين فرصة لتقليل أثر رفع التعريفات الجمركية الأمريكية على بضائعهم. لكن هذا الانخفاض يُمثل كذلك تهديدًا للاقتصاد الصيني؛ إذ إن انخفاض قيمة اليوان سيؤدي إلى إحجام المُستثمرين عن ضخ مزيدٍ من الاستثمارات بالعُملة الأجنبية، أو التخارج نهائيًّا من السوق خوفًا من تعرضها لانخفاض شديد، الأمر الذي قد يجبر الحكومة على استعمال احتياطاتها من النقد الأجنبي، بما قد ينعكس سلبًا على الاقتصاد الصيني بأكمله. ويوضح الشكل التالي تطور متوسط مُعدلات صرف الدولار أمام اليوان شهريًّا خلال الفترة من يونيو 2018 إلى سبتمبر 2019.

ثالثًا: الانعكاسات على الاقتصاد المصري

يُمكن رصد أهم انعكاسات الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة على الاقتصاد المصري فيما يلي:

1- التأثير على عائدات قناة السويس في المديين المتوسط والطويل في حالة استمرار الحرب

تُعتبر إيرادات قناة السويس المصدر الثالث للدخل القومي لمصر بالعملات الأجنبية وذلك بعد تحويلات العمالة المصرية في الخارج وقطاع السياحة، إذ تُمثل عائداتها حوالي 5٪ من الناتج القومي الإجمالي، وحوالي 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ويُضاف إلى ذلك أنها أحد أهم مصادر العملة الصعبة، إذ تبلغ إيراداتها سنويًّا أعلى من 5 مليارات دولار.

وترتبط هذه العائدات مع حجم التجارة العالمية بعلاقة طردية، إذ يعبُر القناة ما يزيد على 13% من حجم التجارة العالمية، وبالتالي فإن انخفاض حجم التجارة العالمية يؤدي مُباشرة إلى انخفاض عائدات القناة. وقد توقعت شركة ميرسك للوجستيات النقل البحري (A.P. Moller – Mearsk) انخفاض النمو في قطاع نقل الحاويات من مُعدل 3%، وهي النسبة التي كانت متوقعة لهذا العام إلى 1% فقط بسبب الحرب التجارية. وفي حال استمرار الحرب، فقد ذهبت توقعات الشركة إلى تحول هذا النمو إلى انكماش، لذا فإنه على الرغم من عدم تأثير الحرب في الوقت الحالي على عائدات القناة أو عدد السُفن التي تمُر بها فإنه من المتوقع أن تشهد إيراداتها تراجعًا في المُستقبل، إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه. ويوضح الشكل التالي أعداد السُفن التي عبرت قناة السويس مُنذ يناير 2017 إلى أغسطس 2019.

من جانب آخر، أدى انخفاض أسعار النفط والوقود بسبب الحرب التجارية –على نحو ما سنتناوله في النقطة التالية- إلى اتخاذ بعض السُفن القادمة من شرق آسيا إلى أوروبا والعكس، طريق رأس الرجاء الصالح بعد أن أصبحت كلفة الوقود الرخيص أقل من كلفة رسوم عبور القناة، وهو ما دفع إدارة القناة إلى تخفيض رسوم العبور لعدد كبير من خطوط الشحن حتى تعاود استخدام القناة من جديد في رحلتها بين الشرق والغرب.

2- انخفاض أسعار الطاقة

يؤدي تباطؤ معدلات التجارة العالمية إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بسبب انخفاض الطلب على البضائع المُصنعة التي تحتاج إلى الطاقة المولدة من النفط والغاز أساسًا لإنتاجها، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى خفض أسعار الطاقة بسبب انخفاض الطلب عليها، وقد أدى ذلك إلى انخفاض أسعار النفط من مُعدلات 76.98 دولارًا في المتوسط خلال شهر مايو 2018 إلى 59.04 دولارًا في المتوسط خلال أغسطس 2019. ويصب ذلك الانخفاض في مصلحة الدولة المصرية التي تُعتبر في المُحصلة مُستوردة لمُنتجات الطاقة، حيث بلغ صافي الميزان السلعي لمُنتجات النفط مُنذ العام المالي 2014/2015 وحتى الرُبع الثالث من العام 2018/2019 ما إجماليه 16.5 مليار دولار، ويوضح الشكل التالي الميزان التجاري للمُنتجات البترولية في الفترة المُشار إليها.

وبالتالي، من المتوقع أن يؤدي ذلك الانخفاض إلى تقليل الضغط على الميزان التجاري من ناحية، ما يُقلل الحجم الإجمالي للواردات، وبالتالي يُحسن من الوضع الهيكلي للعجز المُستمر الذي يتسم به هذا الميزان، يُضاف إلى ذلك أنه يُخفض من عجز الموازنة العامة للدولة التي كانت قد وضعت عند تقديرها على أساس أن يبلغ سعر برميل النفط في المتوسط 70 دولارًا للبرميل في العام المالي 2018/2019، و68 دولارًا خلال العام المالي 2019/2020، في حين بلغ المتوسط للعام المالي 2018/2019 ما يُعادل 68.75 دولارًا للبرميل. كما بلغ السعر خلال شهري يوليو وأغسطس 2019 في المتوسط 61.48 دولارًا للبرميل في ظل موجة الانخفاضات التي تشهدها أسواق النفط حاليًا.

3- انخفاض تكلفة الاقتراض

سببت الحرب التجارية انخفاضًا في مُعدلات النمو الأمريكي –كما سبق- وهو ما دفع البنك الفيدرالي الأمريكي إلى البدء في موجة من خفض أسعار الفائدة لأول مرة مُنذ ديسمبر 2008، ليقضى على أطول موجة ارتفاع تشهدها مُعدلات الفائدة الأمريكية على الإطلاق في أغسطس 2019، عندما انخفضت مُعدلاتها بمقدار رُبع نقطة مئوية من 2.5% إلى 2.25%، ثم خُفضت مرة أخرى إلى مُعدلات 2% في سبتمبر الجاري، على إثر ذلك خفضت العديد من البنوك المركزية في العالم أسعار الفائدة، ومن بينها البنك المركزي المصري الذي أجرى تخفيضين على أسعار الفائدة خلال شهرين مُتتاليين بما إجماليه 2.5%، مدفوعًا إلى ذلك بتحسُن مُعدلات التضخم.

وتؤدي تلك التطورات إلى انخفاض تكلفة اقتراض الدولة المصرية من الخارج بسبب انخفاض مُعدلات الفائدة العالمية، خاصة في الوقت الذي تشهد فيه مؤشرات الاقتصاد المصري استقرارًا أدى إلى تحسُن التصنيف الائتماني للحكومة المصرية، وهو ما يؤدي إلى انخفاض تكاليف خدمة الدين الخارجي في المُستقبل، ويسري الوضع ذاته على الدين الداخلي المصري الذي يُشكل العبء الأكبر على الموازنة العامة المصرية، إذ سيُخفض تكلفة الاقتراض وبالتالي أعباء خدمة الدين الداخلي في الموازنة.

المحصلة أن آثار الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة على الاقتصاد المصري تبدو مختلطة، وأن الآثار الكاملة لهذه الحرب لم تظهر بعد، لأن الصراع بين الدولتين ما زال في بدايته، ولأن آثاره لم تطل كافة أنحاء الاقتصاد العالمي المترابط بعد.

نقلا عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version