على امتداد 74 سنة مضت، شهد العالم، على اتساعه، العديد من التطورات والأحداث، بما في ذلك اندلاع الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة، في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي، وما تبعها من انقسام بين الشرق والغرب، ثم انتهت الحرب الباردة في عام 1989 وتفتت الاتحاد السوفييتي عام 1991 ودخل العالم في مرحلة جديدة، استمرت خلالها العديد من الحروب الإقليمية، والصراعات المسلحة في مناطق العالم المختلفة…
اليوم وبعد سنوات من مراقبة أداء منظمة الأمم المتحدة، وقياس نتائج أعمالها على الأرض، أصبحت اليوم في عداد الأوهام الجميلة، لا يعلق أحد عليها أملاً حقيقياً سواء في فضّ النزاعات أو في معاقبة الجناة أو في نصرة المظلومين. وإذا كان الغرب المروّج الأول لمقولة ”الأفعال تتحدث بصوتٍ أعلى من الكلمات” فإن شعوب الأرض قد طبّقت هذه القاعدة بشكلٍ عفوي على الأمم المتحدة ورأت أن نتائج أعمالها لا تتسق إطلاقاً مع ميثاقها ومقاصدها وحتى القرارات الصادرة عنها. وحتى لا نكون كالذي يحرث في الماء، فقد حَصَل أول اختراق عالمي لمبادئ الأمم المتحدة، وقيم القانون الدولي بالسماح بالهجرة الصهيونية إلى فلسطين منذ عام 1947، ومساعدة الصهاينة في قيام كيانهم الاغتصابي عام 1948.
ومن المعروف آنذاك أن الرئيس الأميركي قد اعترف بقيام إسرائيل، الكيان الاغتصابي قبل أن تُعلن هي عن نفسها دلالة على اغتباط النظام الأميركي بهذا الكيان. وبناء عليه فقد انكشف الانحطاط الأخلاقي للنظام الغربي الليبرالي المتصهين حين لم يراعِ أي قيمة من قيم الميثاق الأممي، ولم يحترم أي ميثاق من مواثيق الأمم المتحدة، وتبلورت حقيقة البراغماتية اللا أخلاقية لدى أميركا، وحلفائها الأطلسيين، ودخل منذ ذلك الحين النظام الدولي حربه الباردة، لتبدأ حقبة العمل الإمبريالي المستمر من أجل فرض حالة خلل التوازن الدولي ولو تمَّ تهديد الأمن والسلم الدوليين، ونُسِفَ برمّته نظامُ العدالة الدولية، أو ديمقراطية العلاقات العالمية في سبيل توفير بيئة عالمية تتقدم فيها شعوب الأرض نحو تحقيق العيش الرّغيد، والإنسانية الأكمل.
وإذا ما عرفنا الولايات المتحدة، أكبر ممولي الأمم المتحدة وتساهم بنسبة تصل إلى اثنين وعشرين بالمائة من ميزانيتها التشغيلية، وتمول ثمانية وعشرين بالمائة من مهام حفظ السلام، التي تكلف حالياً ثمانية مليارات دولار سنوياً، لأدركنا كم هي سطوتها على المنظمة الدولية وأجهزتها وقراراتها. وإذا ما أضفنا لذلك أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف الأمم المتحدة بناد يلتقي فيه الناس للاستمتاع بوقتهم، وأنه قال بعدما أصدر مجلس الأمن الدولي في كانون الأول الماضي قراراً يطالب إسرائيل بوقف النشاط الاستيطاني: (ستختلف الأمور بعد العشرين من كانون الثاني بالنسبة للأمم المتحدة)، أي بعد تنصيبه، إذا ما أضفنا ذلك كله فإننا سنصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا في عهد ترامب تريد الهيمنة على المنظمة الدولية بشكل أكبر مما كانت عليه في عهد من سبقوه.
فكل الرؤساء الأميركيين كانوا يضعون الهيمنة على الأمم المتحدة وقرارها في مقدمة أولوياتهم، وكانوا يريدون منها أن تدعم أجنداتهم والتغطية عليها بقرارات شرعية، لأنهم يدعمون الإرهاب وينشرون الفوضى الهدامة ويزعمون جميعاً بأنهم يحاربون الإرهاب ومحاصرته وتأسيس التحالف الأميركي للقضاء عليه، ونراهم يهاجمون بعضهم البعض لأن هذا لم يتخذ الإجراءات المناسبة لمحاربته، وذاك لم يقرأ اللوحة جيداً مع أن العالم بات يدرك جيداً أنهم جميعاً دعشنوا المنطقة، قبل تأسيس تنظيم داعش المتطرف، وأنهم جميعاً وجدوا فيه البقرة الحلوب للاستمرار في لعبة الفوضى الهدّامة، التي ابتدعوها، لكن الجديد في اللوحة برمتها أن ترامب وتصريحاته الأخيرة تدل على أنه يسير على دروبهم.
لكن مالا تعرفه أميركا أن العالم بات يدرك أن واشنطن نشرت الإرهاب والفوضى بشكل ممنهج في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن… لتصديرها إلى مختلف دول المنطقة لتحقيق أجنداتها وأطماعها والحفاظ على الأمن الإسرائيلي، وأنها المسؤولة عن وجود تنظيم داعش المتطرف وباقي التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية وأن سياساتها الخاطئة هذه تسببت بمشاكل مفصلية ليس لأميركا وللاتحاد الأوروبي فقط بل للعالم برمته، وخلقت حالة عدم استقرار في طول المعمورة وعرضها، وأنها سيطرت على قرارات الأمم المتحدة واستخدمتها مطية لتحقيق سياساتها العدوانية ضد الشعوب.
إن تخلي منظمة الأمم المتحدة عن القيام بأدوارها هو أحد أكبر الأسباب التي أدت إلى حالة الفوضى والإرهاب والقتل والدمار ضد شعوب العالم لا سيما شعوب منطقتنا، وإلى اختلال موازين الاستقرار والأمن والسلم الدولي، بل إن هذا التخلي طالت نتائجه الكارثية المنظمة الدولية نفسها فتحولت إلى مجرد ديكور، وصار مسؤولوها عبارة عن موظفين لدى بعض القوى المتحكمة فيها، فأطاحت بسمعتها وهيبتها، وفقدت مكانتها لدى الشعوب المظلومة والمقهورة، بخاصة بعد أن تعرضت للخطف من قبل أعضاء دائمين في مجلس أمنها، ومحاولتهم تحويلها إلى مجرد هيئة تشريعية تابعة لهم لا وظيفة لها سوى شرعنة مشاريعهم ومغامراتهم ونزواتهم وحماقاتهم المخالفة لشريعتها وقانونها، أو تعطيل دورها في أضيق الظروف.
للأسف المأسوف عليه، فخلال العقد الأخير من الزمن فقد تحولت هيئة الأمم المتحدة إلى منظمة تابعة لمكتب في وزارة الخارجية الأمريكية في أغلب شؤونها. ويتصرف السفير الأميركي فيها كمدير عام مؤسسة وليس سفيراً لدولته فقط. وأصبح مجلس الأمن فيها معطلا عن العمل الفعلي البناء إذا لم تحتجه الادارة الأمريكية أو عصا أميركية بوجه الإرادات الوطنية وطموحات الشعوب. وهو أمر صعب التصور ولكن الوقائع مرة في كثير من هذه الحالات، وهو ما اتفق أو لاحظه كثير من الكتاب والمراقبين السياسيين، لاسيما بعد استفراد الإدارة الأمريكية في القرار الدولي ومخططات قيادة أميركا للعالم. منذ عودة الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني للبيت الأبيض، أصبحت مخططات إدارته وأحلام المحافظين الجدد هي المصدر الرئيسي للسياسات الدولية، بما فيها القرارات التي تصدر من الأمم المتحدة. لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الدموية. ولم يتمكن خلفه الرئيس أوباما من تغيير واسع رغم خلفيته القانونية.
في 8 نوفمبر 2002 صوّت على القرار 1441 بالإجماع في مجلس الأمن. وهذا القرار أطلقت عليه صحيفة الغارديان البريطانية (9/ 11/ 2002) قرار الموت بالنسبة للعراق. حيث أخذته الإدارة الأمريكية وسيلة شن الحرب على العراق رغم أنه لم يجز لها نصاً ولكنها استغلته وعملت آلتها الإعلامية والمتعاونون معها وسفيرها الجوال حينها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير للترويج له، واعتبرته الإدارة الأمريكية كافياً وغير ملزم لها بالعودة إلى الأمم المتحدة لاتخاذ قرار جديد منها لبدء العدوان على العراق. هذا القرار رسم عنوان الذل للأمم المتحدة مع العالم العربي في العقد الأخير. وكتبتُ عنه حينها، كما كتب آخرون، بان القرار لا يعبر عن أهداف المنظمة ولا يتطابق مع ميثاقها الذي لم تستطع أن تضعه موضع التطبيق في حالات مشابهة للوضع في العراق وفي المنطقة نفسها. لقد بيّن القرار أبعاد التغير وازدواج المعايير في التعامل مع البلدان الأعضاء والتحديات والأخطار الدولية والتهديدات المحيقة بالسلام والأمن الدوليين وحقوق الإنسان والعدالة الإنسانية.
لم تكتف الإدارة الأمريكية بإهانة الأمم المتحدة ومجلس حربها بما صدر عنها بل أقدمت على التدخل في شؤونها الرئيسية واختطفت منها ملفات التقرير العراقي الذي تالف من 12000 صفحة مطبوعة و500 ميغابايت سيدي روم وصورتها في مقر وكالة الاستخبارات المركزية. وإعادتها لها بعد تصفيتها من الأسرار التي ترتبط بمسؤولية الإدارة الأمريكية وشركاتها في العلاقات مع العراق ودعم الدكتاتورية على جميع الصعد، استكمالا لتقويض عمل المنظمة الدولية وخرق ميثاقها وتكريس دورها التابع.
كان القرار 1441 علامة الشؤم لما حلّ بالعراق، وبداية لما وصلت إليه الأمور بعده في احتلاله وإقرار الأمم المتحدة بكل ذلك رسمياً. ومثله حصل مع القضية الفلسطينية التي وقفت الإدارات الأمريكية وسفراؤها دائماً ضد أي قرار يساند الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ويدين ارتكابات الكيان الإسرائيلي ضدها. وسجلات انتهاك قرارات الأمم المتحدة كبيرة وعدد قرارات النقض (الفيتو) الأمريكية تؤكد ذلك. وهذه فضيحة معلنة عن تلك الانتهاكات التي لاذت الأمم المتحدة ومجلس حربها بالصمت عليها دون أن تتوقف عندها وتحسم أمرها كما هو مطلوب منها، كمنظمة دولية مهمتها حفظ السلم والأمن الدوليين. وربما بالنسبة لقضية الشعب الفلسطيني تطول قضايا البحث عن استهانة الأمم المتحدة بميثاقها وقراراتها وممارساتها الفعلية. وما زالت حتى اليوم تواصل منهجها العدائي المكشوف للقضية الفلسطينية بحكم الموقف الأميركي وضغوطه المعلنة.
دون تفاصيل عن تاريخ الأمم المتحدة منذ تأسيسها (عام 1945) يشرح القرار الذي ادعت الأمم المتحدة اتخاذه تحت إسم الوقف الفوري لإطلاق النار وحماية المدنيين أثناء الانتفاضة الشعبية في ليبيا صورة واقعية لها. حيث صدر القرار 1973 إكمالا للاستعدادات العسكرية للناتو التي كانت على قدم وساق قبل أسابيع من إعلانه. ونتائجه لا يراد أن تعرف وبصمت وبقصد مررت عربياً أيضاً. إلا أن معطيات كثيرة ظهرت منها، خصوصاً في مطبوعات فاعلين فرنسيين في الملف الليبي اعترفت بتواجد قوات عسكرية فرنسية منذ بدء الانتفاضة مكذبين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي كان ينفي ذلك، وكذلك ما نقلته وكالات الأنباء عن جريدة لوموند الفرنسية وفضحها لتواجد غواصات فرنسية وبريطانية وتقاسمها لخطط التحرك مع اندلاع انتفاضة 17 فبراير الليبية ضد الاستبداد والطغيان المدعوم من قبلهما أساساً.
إن فكرة الهيمنة على المشهد الدولي بما فيه المنظمات الدولية، استراتيجية أميركية وهي ليست حديثة العهد بل تفترش التفكير السياسي الأميركي منذ عشرات السنين. فالواضح تماماً أن أميركا وحلفاءها الغربيين ولا سيما بريطانيا وفرنسا تعملان وتسعيان لتحويل الأمم المتحدة إلى شاهد زور وغطاء لنزواتهما ومشاريعهما الاستعمارية أو للانتقام من قوى ودول بعينها للتعويض عن الفشل والهزيمة في ميادين عسكرية وغيرها.
ولذلك فإن القناعة الثابتة هي أنه ما دام حال الأمم المتحدة هكذا فإن حال الشعوب المظلومة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، سيظل ينتقل من سيئ إلى أسوأ. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبعد 74 سنة على تأسيسها: ما الذي تغير في منظومة عمل الأمم المتحدة وأدائها لدورها…؟
فمن الناحية العملية يمكن القول: إنه ما من تغيير جوهري قد طرأ على الأمم المتحدة، فهي لا تزال تعيش حالة من الشلل الذي أصبح أكثر عمقاً نتيجة لتضارب المواقف بين الدول الكبرى، ونتيجة للسياسات التي تتبعها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ما يجعل الأمم المتحدة عاجزة عن التعامل مع النزاعات القائمة حول العالم. وعلى نحو أبعد من ذلك، فشلت الأمم المتحدة حتى الآن في الحفاظ على حيادها الذي ينص عليه ميثاقها قبل أي شيء آخر، وتتدهور مكانتها يوماً بعد يوم كنتيجة طبيعية لحقيقة تحولها لتنفيذ سياسات تتعارض مع دورها المفترض، وهو ما يستدعي إعادة الاعتبار لهذا الدور وتفعيله، بما يتطلبه من حد أدنى من الديمقراطية في العلاقات الدولية، والتمسك بميثاق الأمم المتحدة ومبادئها، وإدخال الإصلاحات اللازمة إلى هيكلها وأنظمة العمل فيها وآليات اتخاذ القرار فيها، ولاسيما أن الأزمات والنزاعات الناشبة على الساحتين الإقليمية والدولية في الألفية الثالثة تتخذ الطابع العرقي والطائفي والديني العابر للحدود وهو ما من شأنه إعادة رسم خريطة الحدود بين الدول، وإدخال بقاع من العالم في صراعات إقليمية مزمنة لها آثارها في السلام والاستقرار في العالم على المدى البعيد.
وتواجه الأمم المتحدة هذا التحدي بصفتها المعبرة عن وحدة الإرادة الدولية، ما يتطلب إرادة سياسية لدى الدول الكبرى، لتعطي مجلس الأمن الدولي ذلك القدر من المصداقية الذي يفتقر إليها، ومثل هذا الأمر غير ممكن من دون تحرير مجلس الأمن من العقلية الأمريكية والغربية التي تهيمن عليه، وتبسط سيطرتها على المنظمات التابعة للأمم المتحدة بحيث تحولت المنظمة الدولية إلى أداة تعمل على تمرير سياسات الولايات المتحدة والدول الغربية على حساب بقية شعوب العالم، أي إن الولايات المتحدة الأميركية تقوم بتعطيل دور الأمم المتحدة وتحول دون وجود نوع من الديمقراطية الحقيقية في أدائها، بل إن واشنطن لم تعمل على إرساء قواعد شراكة دولية تحترم مبادئ وميثاق الأمم المتحدة، ويعود السبب في ذلك بصورة أساسية إلى تعارض مفاهيم ومقتضيات الشراكة مع سياسات الهيمنة الأميركية، حتى لو أدى تغييب تلك الشراكة إلى استمرار الصراعات الإقليمية أو إلى إشعال أزمات جديدة.
إن محاولات تحويل الأمم المتحدة إلى غرفة اتهام للدول التي لا تسير في الركب الأميركي والغربي سيفقدها أي دور مستقبلي يتعلق بمهامها ويجعلها بحكم المستقيلة وبإرادة مؤسسيها على وجه التحديد. وإن فقدان الثقة بالمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وتراجع أو نهاية دورها وهو ما يتمناه البعض في دائرة الكبار سيدخل العالم والمجتمع الدولي إلى حالة من الفوضى الدولية ما يجعله يعيش حالة من الخوف واللا استقرار حيث تفرض القوة منطقها بشكل فج وعلني، أي حلول شريعة الغاب بدل الشرعية الدولية. وهذا يفسح المجال واسعاً لعودة حمى الاستعمار التي تستبطن وعي الكثيرين في مطابخ القوى الاستعمارية التي ما زالت تملك ذات الشهية للتوسع والسيطرة والنهب وهنا يصبح القطار العالمي متجهاً نحو الماضي مستدعياً ثأراً لا حضارة ورقياً وثمن ذلك شلالات من الدماء.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.