تُشكل زيارة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، يومي 14 و15 أكتوبر الجاري، لكلٍّ من السعودية والإمارات؛ تطورًا لافتًا، خاصة أن آخر زيارة قام بها الرئيس الروسي كانت في فبراير 2007، أي قبل اثني عشر عامًا. وتأتي هذه الزيارة في ظل حالة من التوتر والتصعيد غير المسبوق بمنطقة الخليج، الأمر الذي قد يؤدي في لحظة ما إلى صراع مباشر بين أطراف الأزمة، سواء من قبل واشنطن وحلفائها أو عبر إيران ووكلائها. وعلى الرغم من أن كافة التقديرات تذهب إلى أن مثل هذه المواجهة قد لا تحدث؛ إلا أن احتمالاتها لا تزال قائمة، خاصة في ظل التهديدات المتكررة لحركة الملاحة والمنشآت النفطية، على نحو ما حدث في ميناء الفجيرة (12 مايو 2019)، واستهداف ناقلتي نفط في خليج عمان (13 يونيو 2019)، مرورًا بحادث إسقاط الحرس الثوري الإيراني طائرةً مسيرة أمريكية من طراز “غلوبال هوك” في 20 يونيو 2019، بسبب اختراقها المجال الجوي الإيراني حسب الرواية الإيرانية، وصولا لاستهداف منشأتي نفط تابعتين لأرامكو السعودية (14 سبتمبر 2019).
في هذا السياق، تأتي أهمية هذه الزيارة في ضوء ما يُمكن وصفه بمحاولة موسكو استدعاء حديثها حول حماية الخليج عبر مبادرة الأمن الجماعيوالعمل على تفعيل تلك المبادرة، خاصة أن الأجواء سالفة الذكر وغيرها كانت سببًا ودافعًا لقيام عددٍ من الدول بطرح رؤى لتعزيز أمن الخليج. ورغم التباين النسبي بين هذه المبادرات وردود الفعل عليها؛ إلا أنها اشتركت جميعًا في الهدف المُعلن والرامي إلى حماية أمن الخليج وفرض حالة من الاستقرار.
ويُناقش هذا التقرير الرؤية الروسية حول الأمن الجماعي بمنطقة الخليج العربي، وكذا الرؤية الأمريكية المرتبطة بحماية الملاحة البحرية.
الرؤية الروسية
جاء طرح روسيا لرؤيتها حول الأمن الجماعي في منطقة الخليج انعكاسًا لمُجمل تحركاتها تجاه الأزمة الخليجية، والتي سعت من خلالها إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، من بينها منع نشوب حرب كبرى في المنطقة. إذ اعتبر الرئيس الروسي أن مثل هذه الحرب ستكون كارثية، ومن شأنها أن تزيد من حدة العنف وموجات اللاجئين. في هذا الإطار، عملت موسكو على إقناع الولايات المتحدة وإيران بالاستمرار في الاتفاق النووي، فضلًا عن دعم إيران ومساندتها لتحمل تبعات العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وذلك بغرض الحفاظ على المصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط، والتي يأتي في مقدمتها تحجيم وتطويق نفوذ الجماعات والتنظيمات الإرهابية للحيلولة دون وصولها إلى الحدود الروسية. أضف إلى ذلك رغبة روسيا في تأكيد حضورها الفاعل والمؤثر في الشرق الأوسط، وتأكيد قدرتها على التأثير في أية ترتيبات مستقبلية بالإقليم.
في هذا الإطار، طرحت روسيا مبادرتها للأمن الجماعي في منطقة الخليج، بهدف إنشاء نظام أمني إقليمي. وجاءت هذه المبادرة، التي تضمت 5 بنود رئيسية، في ظل تصاعد حدة الصراع بين واشنطن وحلفائها من ناحية، وطهران ووكلائها في المنطقة من ناحية أخرى. وتمثل المبادرة محاولة لاستعادة طرح روسي قديم كانت قد أعدته موسكو في أواخر تسعينيات القرن الماضي قبل أن تعاود الحديث عنه مرة أخرى خلال عامي 2004 و2005.
وتستهدف المبادرة تدشين منظمة للأمن والتعاون في منطقة الخليج كهدف استراتيجي أكبر، بحيث تشمل المنظمة دول الخليج، بالإضافة إلى روسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند وعدد من الأطراف المعنية بصفة مراقبين أو كأعضاء منتسبين، وذلك وفقًا لما أعلنته وزارة الخارجية الروسية.
وطُرحت هذه المبادرة في وقت يحاول فيه عددٌ من الفاعلين الإقليميين والدوليين فرض رؤيتهم للتعامل مع تحديات المنطقة، حيث سبق هذه المبادرة تحركات فرنسية استهدفت تشكيل فريق عمل مكون من فرنسا وبريطانيا وألمانيا لمراقبة الملاحة في منطقة الخليج. كما تأتي المبادرة في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة لتشكيل تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي أو ما يُطلق عليه الناتو العربي، والذي تمحورت فكرته في البداية حول جوانب الأمن والدفاع قبل أن تمتد للجوانب السياسية والاقتصادية، فضلًا عن سعيها لتشكيل التحالف المرتبط بحماية الملاحة البحرية.
ويمكن إيجاز الملامح العامة للمبادرة الروسية للأمن الجماعي في المنطقة، والتي قدمها المفوض الخاص للرئيس الروسي لدول الشرق الأوسط وإفريقيا ونائب وزير الخارجية “ميخائيل بوجدانوف” في 23 يوليو 2019، في النقاط التالية:
– تشكيل تحالف تحت رعاية الأمم المتحدة، ودمج أصحاب المصالح، للقضاء على التنظيمات والبؤر الإرهابية وتسوية النزاعات في المنطقة، وتعبئة الرأي العام لمواجهة التطرف ومكافحة الإرهاب.
– ضرورة صياغة التزامات محددة على الدول بشأن المجال العسكري، تتضمن الحوار بشأن العقائد العسكرية، وتبادل الإخطار المسبق حول التدريبات وطلعات الطيران العسكري، وعدم نشر قوات لدول خارج المنطقة بشكل دائم في الخليج، وكذا التدرج في تقليص الوجود العسكري الأجنبي بالمنطقة، فضلًا عن تبادل المعلومات بشأن القوات المسلحة وشراء السلاح.
– أن تكون قوات وعمليات حفظ السلام بالمنطقة تحت غطاء ومظلة مجلس الأمن والشرعية الدولية، أو بطلب من السلطات الشرعية للدولة التي وقع عليها العدوان.
– العمل على إنشاء مناطق منزوعة السلاح، وحظر الأخطار الناجمة عن الأسلحة التقليدية، واتخاذ كافة التدابير الهادفة إلى تحويل الخليج لمنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
– العمل على وضع تدابير للحد من الاتجار غير المشروع بالأسلحة والهجرة والاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة.
وتعمل موسكو من خلال طرحها هذه المبادرة على تعزيز صورتها كوسيط قادر على تقديم الرؤى والمُقترحات التي يمكنها حلحلة الصراعات في المنطقة وتجفيف مصادرها، الأمر الذي من شأنه أن يعزز من نفوذها. غير أن هذه المبادرة تصطدم بوجهة النظر الأمريكية حول الترتيبات الأمنية في المنطقة؛ ففي الوقت التي تعمل فيه الولايات المتحدة على حشد قواتها العسكرية وكذا حلفائها في المنطقة، تطالب المبادرة الروسية بتقليص الوجود العسكري في المنطقة. وعلى الرغم من أن النهج الأمريكي، خاصة في ظل إدارة “ترامب”، يعمل على عزل وإقصاء إيران عن محيطها الإقليمي والدولي؛ إلا أن المبادرة الروسية تنادي بعدم إقصاء أو استبعاد أية دولة من أصحاب المصلحة في المنطقة، وهو ما يعني أنها تقبل بوجود دور لإيران باعتبارها دولة جوار.
الرؤية الأمريكية
بدأت فكرة تدشين تحالف دولي ذي طبيعة عسكرية لحماية وتعزيز أمن الملاحة البحرية عندما أعلن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية “جوزيف دانفورد” في 9 يوليو 2019 عن سعي واشنطن لإقناع عدد من الدول للانضمام للتحالف. وقد تواصلت واشنطن مع حوالي 62 دولة لضمها للتحالف، لكن هذه الجهود نجحت في إقناع 5 دول، بحيث أصبح التحالف المقترح يضم كلًّا من الولايات المتحدة والبحرين وبريطانيا وأستراليا والسعودية والإمارات.
ويهدف التحالف -وفقًا لما هو مُعلن- إلى حماية السفن التجارية وناقلات النفط، وذلك بغرض تأمين تدفقات إمدادات الطاقة والحفاظ على السلم والأمن الدوليين عبر مضيق هرمز وباب المندب وبحر عمان وبحر العرب. وتكمن أهمية هذه المنطقة في مرور نحو خُمس صادرات النفط العالمي، فضلًا عن 4 ملايين برميل نفط يوميًّا، عبر مضيق باب المندب.
وسوف يحتاج التحالف إلى مجموعة من القدرات البحرية المرتبطة بالرصد والمراقبة، فضلًا عن عدد آخر من القدرات القتالية بحيث يتمكن التحالف من تنفيذ مهام دفاعية وأخرى هجومية تجاه أية تهديدات يمكن أن تتم. بهذا المعنى، فإن المهام الأساسية لدول التحالف ستنقسم إلى شقين: الأول تقوم به الولايات المتحدة من خلال عمليات المراقبة والاستطلاع، فضلًا عن توفير السفن الحربية للقيادة والسيطرة، في حين تقوم باقي الدول المُشاركة بالمهمة الثانية، وهي توفير سفن لتيسير دوريات بحرية وأفراد المراقبة.
وحتى هذه اللحظة لا يزال التحالف يواجه جملة من التحديات ترتبط بعدم التوافق الدولي حول المبادرة، خاصة الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا والتي تتحفظ على المشاركة في أية تحالف عسكري مع واشنطن على أساس أن مثل هذا التحالف سوف يزيد من حدة التوتر والتصعيد في منطقة الخليج. وعلى الرغم من أن أهداف التحالف ورؤية واشنطن افتقدت للإشارة الصريحة لإيران كمصدر للتهديد أو كسبب من أسباب تدشين التحالف، إلا أن الدول الأوربية رأت أن المُشاركة تعني المساهمة في النهج الأمريكي الذاهب إلى ممارسة أقصى الضغوط والعقوبات على طهران وهو ما يتنافى مع التوجه الأوروبي الرامي إلى الحفاظ على الاتفاق النووي. وانطلاقًا من هذه الرؤية رأى عدد من الدول الأوربية أن بإمكانهم حماية سفنهم في الخليج دون الدخول في تحالف دولي. الأمر ذاته ينطوي على الموقفين الصيني والياباني، حيث أعلن كل منهما رغبته في حماية سفنه التجارية بشكل فردي.
إجمالًا، يمكن القول إن هذه المبادرات، التي تستهدف بالأساس تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، تُعبر عن حجم التهديدات والتحديات التي تواجه تلك المنطقة، خاصة في ظل حالة التصعيد والتوتر التي تسيطر على الساحة، حيث تسعى كل دولة لفرض رؤيتها حول مفهوم الأمن في المنطقة والوسائل والأدوات التي يُمكن أن تحقق هذا الغرض. وعلى الرغم من أن الهدف النهائي المُعلن قد يكون مُتقاربًا لحد بعيد، إلا أن السمة الغالبة على كافة المبادرات المطروحة هي غياب التوافق الدولي بشأنها، وهو ما يجعل من الإجابة على تساؤل من يحمي الخليج، مفتوحًا ومتروكًا لما ستسفر عنه التفاعلات خلال الفترة القادمة.