قناع جديد يسقط، ليكشف الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية، التي طالما نصّبت نفسها مدافعاً عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأعطت لنفسها الحق في توزيع شهادات حسن السلوك على الدول، والغريب هنا ـ أو الطبيعي حسب خبرتنا ـ أن تحاول الولايات المتحدة صاحبة أكبر سجل في انتهاكات حقوق الإنسان، أن تعطي الدول والشعوب والأمم دروساً في ”حقوق الإنسان” وأن توزع شهادات حسن السلوك على إرهابيي ”إسرائيل”، بينما تتهم دولاً وشعوباً وحركات مقاومة تدافع عن أرضها وحريتها بالإرهاب.
فالدولة التي قامت على جماجم السكان الأصليين للقارة الأميركية، والتي كانت الدولة الوحيدة التي تستخدم القنبلة الذرية في هيروشيما وناغازاكي، والتي تقتل الشعوب بشكل مباشر أو بالإنابة من العراق إلى أفغانستان وليبيا ولبنان وفلسطين وسورية، هذه الدولة لا يحق لها مجرد الحديث عن حقوق الإنسان.
للأسف يجري اليوم استغلال ورقة الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم لأغراض الاستغلال الاقتصادي والسياسي والثقافي… وكأداة جديدة للتدخل الخارجي الفظ في الشؤون الداخلية للدول الأخرى… وتوظف الولايات المتحدة بنزعتها الإمبراطورية فكرة حقوق الإنسان في الوطن العربي من أجل خلق الفوضى والتشرذم والتفتيت، خدمة للمصالح الأميركية والغربية المتقاطعة مع مصالح الكيان الإسرائيلي الغاصب. ومن خلال المساعي الرأسمالية الغربية الحثيثة لفرض وترسيم قواعد النموذج الاقتصادي الرأسمالي وتشكيل نظام عالمي جديد من خلال التركيز على خلق بيئة سياسية جديدة تتكيف مع المصالح الاقتصادية والسياسية الأميركية في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعيشها الغرب الرأسمالي. وتعمل إدارة الرئيس ترامب من خلال تبنيها خطاباً منمقاً في دفاعها عن حقوق الإنسان ووعود نشر الديمقراطية، على توسيع مناطق حروبها والتي تنتهك فيها حقوق الإنسان وكذلك التطلعات الديمقراطية للشعوب.
وأولى الخطوات ضمن هذه الاستراتيجية كانت في العراق، البلد الذي ابُتلي بأمريكا وعانى وما يزال من ويلات وجودها العسكري فيه. فالعراق … الجرح العربي الدامي غزته أمريكا عام 2003 فهدمت الدولة العراقية وحلّت الجيش وأصبح سجن أبو غريب رمزاً للفضائح التي قام بها الأمريكيون والتي شاهدها العالم بأسره، وقد وصف موقع ”وورد سوسياليست” نتائج الغزو الأميركي للعراق بـ ”لإبادة الاجتماعية”، فالتدمير المتعمد لواحد من المجتمعات الأكثر تقدماً في مجال التربية والرعاية الصحية والبنى التحتية في الشرق الأوسط، ورأى الموقع أن ”الدمار الذي لحق بالعراق تتحمل مسؤوليته الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة ويجب أن يقدموا للعدالة”.فالخسائر التي تعرض لها العراق كانت مذهلة.
وحسب دراسة مستفيضة أجرتها كلية الصحة العامة في جون هوبكينز ونشرتها في صحيفة ”ذا لانسيت” الطبية المشهورة أن عدد القتلى التي خلفها الغزو وصلت إلى أكثر من 655000 خلال 40 شهراً من الحرب. فالمجازر الناجمة عن الاحتلال والحرب الدموية الطائفية التي تسببت بها الخطة الأميركية المدبرة لتقسيم العراق لتتمكن واشنطن من إحكام قبضتها أوقعت كثير من الضحايا، بينما تكفل دمار البنى التحتية الأساسية من ماء وكهرباء ورعاية صحية وإصلاح بالقسم الآخر من هؤلاء.
وتواصلت المجزرة في عام 2014 في عهد أوباما مع انطلاق ما يسمى الحرب الأميركية على ”داعش” وهذه الحرب كانت مسرحاً لأكبر حملة قصف منذ حرب فيتنام وقد ألحقت الدمار بمدن كالموصل والرمادي والفلوجة ومدن عراقية أخرى وسقط فيها عشرات بل مئات الآلاف من الضحايا. وطبقاً لتقديرات حديثة، فإن عدد الضحايا في غضون 16 عاماً من التدخل العسكري الأميركي في العراق يمكن أن يبلغ 2.4 مليون شخص. أما تكلفة الحروب الأميركية التي أشعلتها منذ عام 2001 بلغت 6000 مليار دولار، أغلبها ذهب في غزو العراق، بينما وصلت فوائد الديون المقترضة لتمويل هذه الحروب إلى 8000 مليار دولار، وما زاد الأمر سوءاً التأثير السياسي والاجتماعي لحرب غير مشروعة التي أدت إلى الخراب في الحقوق الديمقراطية وانتشار الفساد.
كما أن صمت وسائل الإعلام على اعتراف ترامب بجرائم الحرب التي اقترفتها الامبريالية الأميركية في العراق وسورية وأماكن أخرى في الشرق الأوسط يعكس حجم تواطؤ وسائل الإعلام الكبرى على هذه الجرائم مع تسويقها للأكاذيب لتشجيع العدوان على العراق ومحاولتها خنق المشاعر المناهضة للحرب. ففي إحدى اعترافاته الملفتة يؤكد ترامب ثمانية تريليونات دولار كانت مجموع الإنفاق الأمريكي في الشرق الأوسط، حسب التوقيت اللحظي لآخر تغريدات ترامب، إنفاق انتهجته الإدارتان السابقة والحالية تحت ذريعة ما يسمى ”مكافحة الإرهاب والإشراف على منطقة الشرق الأوسط”… وعلى حين صحوة ـ كما يدّعي الرئيس ترامب ـ يعلن، مع فكرة انسحاب قواته الاحتلالية من سورية، أن الذهاب إلى الشرق الأوسط كان أسوأ قرار في تاريخ أمريكا.
فخطاب ترامب القومي والشعبوي عن نهاية حروب الولايات في الشرق الأوسط يهدف إلى إظهار نفسه أمام الشعب الأميركي بمظهر المعادي لتلك الحروب وفي حين أن حكومته المدعومة من الديمقراطيين، أقرت ميزانية عسكرية قياسية بلغت 738 مليار دولار تحضيراً لخوض حروب أكثر كارثية ولاسيما ضد الصين وروسيا وقوى نووية أخرى.
ينطبق على أميركا المثل العربي القائل ”رمتني بدائها وانسلت” فهي تدعو مجلس حقوق الإنسان مثلاً إلى أخذ زمام المبادرة والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في أي بلد يعارض سياساتها، وفي الوقت نفسه توبخ هذا المجلس إذا حاول مناقشة جرائم الكيان الاسرائيلي حتى ولو كانت موثقة على أيدي فريق أممي بقيادة قاض دولي هو ”غولدستون”. وهي تجيش الجيوش وتغزو البلدان وترتكب أفظع الجرائم بحق الإنسانية بذريعة تحقيق الحريات ومحاربة الإرهاب ومكافحة ”الديكتاتورية” وفي الوقت ذاته تسهل للمرتزقة وشركاتهم الأمنية كل السبل لانتهاك حقوق الإنسان من العراق إلى أفغانستان مروراً بأفريقيا وغيرها.
فهذه الدولة لم يسبقها أحد في ابتداع أساليب ارتكاب الجرائم بحق الإنسانية جمعاء، وكذلك لم تتمكن أي جهة أو دولة في العالم من اللحاق بها في ترويج وتسويق اختراعات أدوات ووسائل انتهاكات حقوق الإنسان، حيث لم تترك وسيلة ممكنة في هذا الأمر إلا وأنتجتها واستخدمتها، وبرعت في العقدين الأخيرين في محاولات إخفاء جرائمها مستخدمة الجو والفضاء والبحر والبر بذريعة محاربة الإرهاب. ولم يعد خافياً على أحد قيام أميركا بافتعال المشاكل وفبركة الروايات وممارسة التضليل وبث الافتراءات في العالم ومن ثم التحرك على مستوى المؤسسات الدولية ومنها المرتبطة بحقوق الإنسان للتدخل في هذه المناطق تحت ستار دعاوى جاهزة وكاذبة وملفقة لتحقيق المصالح الأميركية والصهيونية، وما جرى خلال العقدين الأخيرين في افغانستان والعراق ويجري اليوم في ليبيا واليمن والصومال والسودان وسورية وغيرها من المناطق أمثلة صارخة على خبث السياسة الأميركية وانعدام أي قيم لاحترام حقوق الانسان فيها.
فهذه هي الولايات المتحدة الأمريكية قوة عمياء طليقة السراح في هذا العالم تسرح وتمرح كما تشاء، تعاقب هذا، وتكافئ ذاك، دون أي معايير أخلاقية وحسب مصالحها الخاصة ومصالح حلفائها لاسيما مصالح إسرائيل وهي اليوم تمثل أبشع مثالٍ على نظام يدّعي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بينما يدينه أقرب الناس إليه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشر الرئيس الأمريكي الأسبق ”كارتر” مقالاً في صحيفة ” هيرالد تربيون” قال فيه: ”إنَّ بلاده تخلت عن دورها التاريخي في الدفاع عن حقوق الإنسان حول العالم” بل تجاوز ذلك ليقول بملء الفم: ”إن سجل أميركا الحالي مُعيب، وإنها فقدت السلطة المعنوية للتحدث عن حقوق الإنسان وعن صون الحريات الشخصية حتى في الداخل الأميركي”. هذا ويشير ”كارتر” الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2002 إلى سياسة الاغتيال الرسمية التي تبعتها الإدارة الأميركية خارج أراضي الولايات المتحدة، والتي تبيح قتل مواطنين أمريكيين، كما يشير إلى قانون جديد تمَّ اعتماده، يمنح الرئيس الأميركي سلطة احتجاز أشخاص، حتى لو كانوا أميركيين، إلى أجل غير مسمى بدعوى الشك في ارتباطهم بمنظمات إرهابية، ودون رقابة من الكونغرس أو من المحاكم الفيدرالية.
إضافة إلى ذلك، فإن قوانين أخرى صدرت بعد أن تمّ تمريرها على أثر هجمات أيلول 2001 تخرق الحريات الشخصية للمواطنين وتتيح مراقبة الاتصالات والمراسلات الالكترونية دون إذن قضائي، من قبل الوكالات الاستخبارية بدعوى حماية الأمن القومي. وفي وقت سابق نشرت ”ديلي ميل” البريطانية، صوراً ووثائق سرية جديدة كشفتها لأول مرة تؤكد أن الولايات المتحدة أجرت في سنوات سابقة تجارب علمية ومخبرية على أميركيين من ذوي الإعاقة، وسجناء معتقلين في سجون أميركية، ومعتقلات أجنبية تشرف عليها سلطاتها، هي دليل واضح على ما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية، وتفضح سياستها المستندة إلى عقلية لا تلتزم أدنى معايير القيم والأخلاق.
فمن يدعي السعي لاحترام حقوق الانسان لا يقم بقصف المدنيين والأطفال والنساء بالطائرات والبوارج لمجرد الشك بوجود إرهابيين وفق التصنيف الأميركي. ومن يزعم احترام حقوق الانسان لا يقم بإنشاء سجون ثابتة وطائرة ـ جوية وبحرية وبرية في كل مناطق العالم ويمارس شتى أنواع التعذيب ومخالفة أبسط القوانين الانسانية والأمثلة الأميركية الصارخة على ذلك بدءاً من غوانتانامو ومروراً بالسجون السرية والطائرة في أوروبا وسجون العراق وعلى رأسها فضائح أبو غريب وصولاً إلى أفغانستان ومحيطها الإقليمي شواهد حية ومفزعة لقوائم الانتهاكات الأميركية لحقوق الإنسان في كل أنحاء العالم.
لقد كانت أمريكا من الدول الراعية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 لكنها في هذه الأيام تقوم بخرق معظم بنود هذا الإعلان بل أنها مزقته، حيث أعمتها قوتها العسكرية وأعماها غرورها الذي يضعها كما تتصور فوق المحاسبة أو المسائلة. يقول ”كارتر : ”إن سجل الولايات المتحدة المخزي يؤكد أنها تمضي بعكس اتجاه التاريخ بعد أن ثارت شعوب العالم مطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية وبدلاً من أن ُتقدّم أميركا نفسها كمثلٍ أعلى لباقي دول العالم، فإنها تخلق المزيد من الأعداء وتحرج أصدقاءها بضربها عرض الحائط بروح ومضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
العالم بدأ يدرك اليوم أن الادعاءات الأميركية بالدفاع عن حقوق الإنسان ما هي إلا أكذوبة كبرى، وستار تخفي وراءه واشنطن نزعتها في الهيمنة والتوسع، لفرض سياستها وتحقيق مصالحها الخاصة، دون الاكتراث لما تخلفه تلك السياسة من خراب ودمار وفوضى عارمة تستهدف الشعوب في أمنهم واستقرارهم.
فأين حقوق الإنسان في فلسطين والعراق وليبيا والصومال وأفغانستان… بل أين هي حينما تحاصر الشعب السوري واليمني ولو استطاعوا أن يمنعوا عنهما الماء والهواء لفعلوا…؟!
أين حقوق الإنسان في أي مكان ومليارات مشيخات النفط تهرق على أقدام الراقصات وعلى الليالي الحمراء… أين منظرو الحرية الإعلامية والفكرية حين تكون حملة التضليل سوداء تضج بعفنها…؟ !
وما الفرق بين ملوك وأمراء يهرقون موارد شعوبهم في البذخ واللهو… وبين رؤساء وقادة دول غربية أيضاً يهرقون وبكل صلف وغرور كل ما ادعوا أنه قيم حضارية وإنسانية يتباهى بها الغرب..؟ أليس الجانبان أمراء خراب…؟ !
ألم ترو كل تلك الأكوام من الجماجم والجثث ظمأ أميركا وتوقها لدماء الأبرياء بعد؟ هل بات النفط أثمن من حياة البشر؟ وهل من المنطقي أن يقتل شعوب المنطقة ويفتك بها لسلب مقدراتها؟
والمفارقة الكبرى، أن واشنطن تصدر كل عام تقريرها عن حقوق الإنسان في العالم، ولكن وفق طريقتها الخاصة، وكل دولة لا تسير في فلكها تضعها في خانة ”منتهكي الحقوق”، وبنفس الوقت تبتدع أحدث الأساليب والمعدات المخصصة لأغراض التعذيب، وتصدرها لمن ينضوون تحت رايتها وتمنحهم شهادات وأوسمة لحسن سلوكهم، والأغرب أنها تتحدى العالم وتستخدم الفيتو ضد أي قرار يدين حليفتها إسرائيل لمصادرتها الحقوق وارتكابها أبشع الجرائم. ومُحاكمة التقارير الأميركية والبحثُ في صدقيتها من عدمها ليس خيارنا ولا الموضوع الذي يشغلنا أو يستحق منّا أن نهدر الوقت عليه لتفنيده أو للطعن فيه، فهي التقارير التي لا نُقيم وزناً لها ونعتبر أن لا قيمة لها ولما جاء فيها ولا لمجمل ما تأتي الخارجية على ذكره فيها، لكنّها التقارير التي تشغل الكثيرين على امتداد الجغرافيا، والمُلفت أنّ من بين المُهتمين بها أولئك الذين يحاولون استخلاص أو استخراج شهادة حسن سلوك لهم من هذه التقارير.
المشيخات والمحميات الخليجية تتعامل مع هذه التقارير كما لو أنها النص الذي لا يُجادل فيه والذي يمنحها صك براءة ويعطيها مكانة يعرف العالم مقدار الكذب والتزوير فيها، لكنّ عباءات التخلف الخليجية تكاد لكثرة تعاطيها معها تذهبُ لحدود إعادة كتابة ما جاء فيها بماء الذهب لتعليقه على جدران قصورهم من سنة لأخرى، فتدفع ما تدفع لتجديد شهادة حسن السلوك في السنة القادمة وهكذا دواليك. على أيّ حال، للولايات المتحدة أن تضحك على من تحمي عروشهم في الخليج وغيره، ولها أن تُمارس الابتزاز بلا حدود ولا نهايات لها، ولهذه الدول أن تسعد وتفرح بشهادات حسن السلوك التي تُوزعها أميركا عليهم سنوياً، لكن هيهات هيهات لأميركا ولوكلائها أن تخدع أو أن تؤثر في قناعات وإيمان وإرادات الشعوب العربية الحرة التي تُجيد قراءة التاريخ وصنعه، ولا تقرأ إلا في دفاتر الوطن، ولا تنهل إلا من إرثه، ولا تبحث عن شهادات الوفاء وحسن السلوك خارجه.
إن الاهتمام المزيف بحقوق الإنسان من قبل أميركا هدفه الهيمنة والاستحواذ على ثروات الشعوب. أما الدفاع الحقيقي عن حقوق الإنسان فهو مهمة سامية على المجتمعات الإنسانية نشرها وتحقيقها من خلال احترام القانون الدولي ومبادئه ومن خلال التعاون المثمر بين كافة الشعوب. ومن الواضح ان ادارة ”ترامب” تلعب بالنار المستعرة في المنطقة، وهذه النار لا تعرف التمييز في حال اشتدادها وتمددها بين المصالح الأميركية وغيرها وربما سيكون البادىء بإشعالها أول من يأتيه الحريق.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.