تتذكر أبينا أدوماكو الليلة التي سقط فيها جدار برلين. شعرت بالبهجة والفضول مثل العديد من أقرانها في ألمانيا الغربية، وذهبت إلى وسط المدينة لتحيّة الألمان الشرقيين الذين يتدفقون عبر الجدار من أجل استنشاق أنفاس الحرية للمرة الأولى في حياتهم.
ابتسمت لزوجين بين الحشد وقالت لهم: «مرحباً»، وقدمت لهما زجاجة من النبيذ. لكنهما لم يأخذاها. تتذكر أدوماكو، التي تعيش عائلتها في ألمانيا منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وتقول لصحيفة The New York Times الأمريكية: «بصقوا عليّ وسبّوني بصفات سيئة. كانوا أغراباً في بلدي. لكن بالنسبة لهم، لأني امرأة سوداء، كنت أنا الأجنبية».
وبعد ثلاثة عقود، عندما يحتفل الألمان بمرور 30 عاماً على سقوط جدار برلين يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني، يظل السؤال حول ما يجعل المرء ألمانياً أو لا دون إجابة.
«ما الذي يجعل المرء ألمانياً»؟
حققت الوحدة بين ألمانيا الشرقية والغربية عدة نجاحات بارزة. أصبحت ألمانيا قوة اقتصادية وسياسية كبيرة، وكان لتوحيدها دوراً مركزياً في أن تصل إلى مكانتها المهيمنة الحالية في أوروبا.
لكن بينما ثبّت التوحيد حدود ألمانيا لأول مرة في تاريخ البلاد، لم يقدّم الكثير في سبيل حل القضية المزعجة المتعلقة بالهوية الألمانية. بعد ثلاثين عاماً، يبدو أن الأزمة تفاقمت.
فالكراهية العرقية والعنف في ازدياد. يزدهر حزب اليمين المتطرف في الشطر الشرقي. تقول أدوماكو إنها لا تزال خائفة من الذهاب إلى هناك. لكنها ليست الوحيدة التي تشعر بالغُربة في بلادها.
تحدي الاندماج
الجهود الحالية لألمانيا لدمج أكثر من مليون طالب لجوء رحبت بهم المستشارة أنجيلا ميركل عام 2015 هي التحدي الأكثر إلحاحاً الذي تواجهه البلاد. وتزيد إخفاقات الماضي من صعوبة وتعقيد الموقف في البلد التي لم تفتح باب منح الجنسية لأطفال المهاجرين إلا في عام 2000.
خلال العقود التي تلت انهيار جدار برلين، أصبحت ألمانيا ثاني أكبر دولة في العالم من حيث تعداد السكّان المهاجرين، بعد الولايات المتحدة. إذ إن واحداً من بين كل أربعة أشخاص يعيشون في ألمانيا ينحدر من أصول مهاجرة. لكن ليست هذه هي القصة التي يرويها الألمان لأنفسهم.
«الألمان الأصليون»
بعد عقدين من توقف البلاد عن اقتصار تعريف المواطنة حصراً عن طريق نقاء السلالة، بدأ اليمين المتطرف وآخرون في التفرقة بين «حاملي جواز السفر الألماني» و»الألمان الأصليين».
لا يزال أحفاد العمال الأتراك الوافدين للبلاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية يكافحون من أجل القبول. ويعيش اليهود، الذين وصل معظمهم إلى البلاد من الاتحاد السوفيتي سابقاً، في قلق وحذر دائم بعد الهجوم على الكنيس اليهودي في مدينة هال الشرقية الشهر الماضي، وهو هجوم صدم البلاد التي جعلت شعار «ليس مجدداً» ركيزة أساسية لتحديد هويتها بعد الحرب العالمية الثانية.
الألمان الشرقيون.. مواطنون من «الدرجة الثانية»
من أبرز العوائق أمام توحيد البلاد، هو شعور العديد من الألمان الشرقيين بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية بعد التوحيد الذي وصفه د. هانز جواشيم معاذ، عالم النفس، والمحلل النفسي في مدينة هال الشرقية، بـ»الهيمنة الثقافية».
عبر الستار الحديدي السابق، بدأت تتجذر الهوية الشرقية القديمة وتتأصل في أعماق المجتمع، لتقوّض بذلك السردية السعيدة التي غلّفت قصة توحيد ألمانيا في كل ذكرى سنوية سابقة.
قال يوري خارشينكو، الفنان الذي يقطن برلين ويصف نفسه بتحدِّ باليهودي الألماني: «إنها لحظة وجودية للبلاد. الجميع يبحث عن هويته». كان التغلّب على الماضي، وخاصة الهوية النازية التي أدت إلى محارق الهولوكوست، بمثابة مبدأ توجيهي للهوية الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية، في الغرب والشرق على حد السواء، كان الطموح هو بناء ألمانيا مختلفة، وأفضل.
عزم الغرب على تقديم نموذج ديمقراطي ليبرالي، للتكفير عن جرائم النازية وإخضاع المصالح الوطنية لأوروبا في مرحلة ما بعد القومية.
بينما قدّم الشرقيون أنفسهم بالصورة التقليدية للشيوعيين الذين قاوموا الفاشية، مما أدى إلى أن تكون العقيدة الأساسية للدولة هي التبرؤ من الفظائع المرتكبة خلال فترة الحرب.
وخلف الجدار، تجمّد الوقت بالألمان الشرقيين، بلد أبيض متجانس إلى حد كبير سمح للقومية بالظهور والازدهار من جديد. قال فولكهارد كنيجه، المؤرخ ومدير النصب التذكاري لمعسكر اعتقال بوخنفالد: «تحت غطاء مناهضة الفاشية، نجت القومية القديمة جزئياً. وأُزيح هذا الغطاء عام 1989».
ازدهار الشعبوية في شرق ألمانيا
وذلك أحد أسباب ازدهار الشعبوية القومية في الشرق. والسبب الآخر أن الشرقيين يتمردون بذلك على الرواية السردية الغربية التي تُظهر ضعفهم».
د. معاذ، مثل العديد من مرضاه، يُعرف الآن أنه ألماني شرقي، وهو الأمر الذي لم يحدث قط في ظل الشيوعية. وقال إن الغرب أساء فهم ما حدث عام 1989. لقد أغفل دور الهوية القومية في ثورة ألمانيا الشرقية السلمية ضد الحكم السوفيتي.
وقال: «نظمنا المسيرات والتظاهرات، وهزمنا الشيوعية، وفجأة أصبح كل ذلك انتصاراً للغرب». وأضاف: «لم نحصل على الفرصة مطلقاً كي نحكي جانبنا من القصة. لا يمكنك حتى أن تقول إنك حظيت بطفولة سعيدة دون أن تحطّم بذلك أحد المحرمات التي لا يجوز قولها بالنسبة للغرب». وقال: «هذا يأكل الناس من الداخل».
«شعور بالمرارة»
وتابع أن الشعور الأكبر بالمرارة يأتي من تواطؤ الشرقيين في إخضاعهم. يقول الغربي: «نحن أفضل»، ويقول الشرقي: «لسنا جيدين». ولكنْ الآن الشرقيون يقولون :»إننا مختلفون».
واستغل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف هذا الشعور بنجاح، وقدّم نفسه بمثابة حزب يمثّل الهوية الشرقية ويؤجج مشاعر الاستياء، لا سيّما تجاه المهاجرين، الذين يُشار إليهم على أنهم تهديد للهوية الألمانية.
أكثر من 90% من المهاجرين يعيشون في ألمانيا الغربية. بينما مشاعر رفض الهجرة في الجانب الشرقي قوية للغاية. يقول د. معاذ إن تلك المشاعر لا تتعلق بالهجرة والأجانب بقدر ما يتعلق بالهجرة الجماعية في الأعوام التي تلت عام 1989. وقال إن هناك مناطق خسرت جيلين، مضيفاً: «هناك قلق ديموغرافي، وأثار ذلك شعوراً قوياً بالتهديد لهويتنا».
البعض ما زالوا خائفين من السفر إلى الشرق حتى يومنا هذا
وتذكر أدوماكو، التي نشأت في ألمانيا الغربية، موجة الهجمات المناهضة للهجرة في السنوات التي تلت انهيار جدار برلين. ولا تزال أدوماكو خائفة من السفر إلى الشرق، الذي لا يزال يحتفظ بأغلبيته «البيضاء«.
خلال النصف الأول من حياتها، كان أصحاب البشرة البيضاء يمثّلون الأغلبية الكاسحة من سكان ألمانيا الغربية أيضاً. عندما وُلدت في ستينيات القرن الماضي، كانت الطفلة السوداء الوحيدة في مدرسة برلين الغربية.
بينما الآن، أنهت ابنتها أنتونيا، 20 عاماً، دراستها الثانوية، وبلغت نسبة الطلبة من أصحاب البشرة غير البيضاء في فصلها 25%. لكن بعد إقامة أربعة أجيال كاملة في ألمانيا منذ وصول جدها الأكبر إلى ألمانيا من الكاميرون، المستعمرة الألمانية في ذلك الوقت، لا تزال أنتونيا تُسأل حتى الآن: «من أين أنتِ؟». وقالت أنتونيا: «عندما أكون في أي بلد آخر، أشعر أني ألمانية. لكن عندما أكون في ألمانيا، لا أشعر بذلك».
حلم «الهوية العابرة للعرقيات»
أولريتش جيرست، 36 عاماً، وهو معلم في مدرسة متعددة الأعراق نشأ في منطقة جنوب غرب ألمانيا الثرية، يسعى جاهداً لتجنب هذا السؤال.
عام 2010، كتب جريست أطروحته لنيل درجة الماجستير عن كيف يمكن للمدارس مساعدة الطلبة في تطوير هويتهم. وقال إنه يريد رؤية نسخة من ألمانيا تحتفل بهويتها العابرة للعرقيات. ومع ذلك، يقول إنه لا يزال يضبط نفسه وهو يفكر عندما يرى امرأة ترتدي الحجاب في أنها ليست ألمانية.
قال جريست: «لا يزال ذلك التفكير يسري في عقلنا الباطن». لوقت طويل، لم يكن هذا التمييز يقتصر على العقل الباطن، بل كان له طابع نظامي.
حتى عندما أصبحت ألمانيا بلد هجرة رئيسياً، لم يكن هناك مسار حقيقي مباشر للحصول على الجنسية والمواطنة، حتى لأطفال المهاجرين المولودين في البلاد.
بعد سقوط الشيوعية، أصبح من المستحيل تجاهل العنصرية داخل ألمانيا التي يمثلها قانون الجنسية الألمانية. إذ سُمح فجأة للمواطنين الروس من أصول ألمانية الذين لا يتحدثون الألمانية بالحصول على جوازات سفر ألمانية، بينما لم يُسمح بذلك للجيل الثاني من العمّال الأتراك الذين وُلدوا ونشأوا في ألمانيا.
وفتح تغيير قانون الهجرة عام 2000 مسارات متوازية للحصول على الجنسية لمن وُلدوا في ألمانيا أو من يعيشون في البلاد منذ ثماني سنوات على الأقل.
قالت أيديل بايدر إنه خلال طفولتها كانت تشعر بأنها ألمانية، قبل أن يتغير ذلك. وقالت بايدر، 44 عاماً، ابنة العامل التركي الذي وصل البلاد في سبعينيات القرن الماضي إنها تصف نفسها الآن بـ»أجنبية تحمل جواز سفر ألمانياً».
قالت بادير، الفنانة الكوميدية التي تحظى بشعبية كبيرة على منصة يوتيوب بسبب سخريتها من علاقة ألمانيا المضطربة بالمهاجرين: «الألمان حولوني إلى مهاجرة».
وجاءت القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير في العام الماضي، عندما أصدر القضاء الحكم في سلسلة من 10 جرائم قتل معظم ضحايا من المهاجرين الأتراك، وأُلقي اللوم فيها على مهاجرين آخرين. في الواقع، ارتكب هذه الجرائم مجموعة سرية من النازيين الجدد على مدار سبع سنوات، تحت حماية المخابرات الألمانية نفسها.
احتواء التطرف اليميني
بالنسبة للكثيرين في ألمانيا، أصبحت هذه القضية مرادفاً لفشل الأجهزة الأمنية في السيطرة على التطرف اليميني واحتوائه. وبالنسبة لبايدر، نزعت آخر ذرة ثقة لديها في أن توفر لها البلد التي ولدت فيه أي نوع من أنواع الحماية.
ومؤخراً، كانت تخطط «مساراً للهروب»، إلى كندا في الأغلب. وقالت: «أصدقائي الألمان يقولون لي إنني أبالغ. لكني أقول لهم إنني إذا كان لديّ عيون زرقاء وشعر أشقر، فسوف أقول الشيء نفسه».
وأضافت: «إنهم الآن يطاردون الأجانب في شوارع ألمانيا»، مشيرةً إلى هجوم المتطرفين اليمينيين على من يبدون «أجانب» في مدينة كيمنتس الشرقية العام الماضي. وأصبحت حادثة كيمنتس رمزاً لتجرؤ اليمين المتطرف. لكنها لم تكن الواقعة الوحيدة.
في شهر يونيو/حزيران من هذا العام، قُتل سياسي محلي يدافع عن سياسات ألمانيا إزاء اللاجئين رمياً بالرصاص في شرفة منزله. وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول، وقع هجوم على كنيس يهودي في مدينة هال، قُتل على إثره فردان، وكان من الممكن أن يتحول إلى مذبحة ضخمة.
ويعيش المجتمع اليهودي في ألمانيا، البالغ عددهم حوالي 200 ألف فرد، حالة من الغضب والقلق. قال الفنان اليهودي الألماني خارشينكو: «تجد نفسك تسأل لا إرادياً: هل من الممكن أن يحدث ذلك مجدداً؟».
قال المؤرخ كنيجه إن فهم إمكانية حدوث ذلك مجدداً قد يكون السبيل الرئيسي لمنع حدوثه، مضيفاً: «إنه الدرس الأهم في التاريخ الألماني».
«إيديولوجيا ما قبل الفاشية»
وأبدى كنيجه قلقه وانزعاجه من عودة أيديولوجيا ما قبل الفاشية. وأشار إلى أن الأشخاص يتوقون إلى هوية قومية قوية، مؤكداً على أن الوصفة الألمانية الغربية القديمة المتمثلة في التواضع، و»التفاخر بعدم الفخر»، لم تشبع تلك الحاجة لدى الناس.
وقال كنيجه: «مثلما واجه هذا النموذج صعوبة كبيرة في دمج الوافدين الجديد. نحتاج إلى تعلم الدروس من الهولوكوست عن حقوق الإنسان وحماية الأقليات وتطبيقها فعلياً على جميع الأقليات».والآن، بعد 30 عاماً منذ سقوط الشيوعية، أمام ألمانيا فرصة أخرى للمحاولة.
قال إبراهيم القديمي، 53 عاماً، وهو أب لخمسة أبناء، إنه لن ينسى قط الوجوه المبتسمة والطعام الساخن الذين كانوا في استقبال عائلته منذ ثلاث سنوات بعد رحلة هروبهم الطويلة والشاقة من سوريا.
لكن ابنته ناهدة، 20 عاماً، قالت إنها تشعر أنها منبوذة بسبب ارتدائها الحجاب. وقال ابنه عمر، 18 عاماً، إنه حاول أن يحظى بأصدقاء ألمان في المدرسة، لكنهم تجاهلوه ولم يستجيبوا له. وأضاف أنه يقضي معظم الوقت في المدرسة مع مهاجرين آخرين.
وقاطعة الأب: «كان الوضع قديماً على هذا الحال». فأجاب عمر: «ولا يزال كذلك». ومع ذلك، يصر عمر على أن يجعل الألمان يقبلونه بينهم. وقال إن إحدى اللحظات التي يعتز بها عندما سأله أحد الألمان، بعد سماعه يتحدث بالألمانية، إن كان وُلد في ألمانيا.
واقتبس العبارة التي قالتها ميركل عندما لوّحت في استقبال المهاجرين القادمين إلى ألمانيا، قائلاً: «Ich schaffe das»، بمعنى «يمكنني فعلها».
المصدر: وكالات