قد تكون الكتابة في هذا الموضوع سابقة لأوانها، لكن لا بأس طالما أن التغيير الوزارى بات مطروحاً للنقاش، ومتداولا بشدة في الأوساط الإعلامية، وبما أننا في مصر إزاء تغيير حكومي مرتقب فقد يكون مفيداً أن ننظر إليه من عدة زوايا لتحليل كيفية الاختيار والمعاني التي يعكسها ذلك. فهناك مدرستان فيما يتعلق بإجراء تغييرات كلية أو جزئية في أي حكومة: الأولى تقول إنه لم يعد يوجد كثيرون يرحبون بالانخراط في العمل العام بخاصة بعد أن أصبحت ”الميديا” بكل أشكالها سوطاً يجلد المسؤول صباح مساء بحق أو بغير حق، ويترتب على وجهة النظر هذه أن يدور الاختيار في دائرة ضيقة من شخصيات هي الأكثر ظهوراً وإن لم تكن بالضرورة الأكفأ أو الأفضل.

المدرسة الثانية تقول عادة إن مصر أرض ولادة، ورغم أن هذا القول صحيح على الأقل من الناحية النظرية، فإنه من المفارقات الغريبة أنك إذا سألت واحداً من أتباع هذا المنهج عمن يرشحونه لتولي حقائب وزارية فإنه نادراً ما ينجح في ذكر عدة أسماء تصلح للمهمة، وسرعان ما يعود إلى ترديد الأسماء الذائعة التي يعرفها المصريون وليس لديهم تأكيد بأنها هي الأحسن أو الأفضل. 

وعليه فإننا ومن باب الأمانة الوطنية أولا، والأخلاقية والمهنية ثانياً، أن نذكّر السيد مصطفى مدبولي رئيس الحكومة، على أهمية التغيير الوزاري لإنجاح المسار التنموي الجديد، والتغيير أصبح أمراً حتمياً لأنه يتبين من خلال النظر في تشكيلة أعضاء الحكومة الحالية أن السمة الغالبة هي وجود وزراء منغلقين على ذواتهم، وتتأكد حتمية التغيير في كون عدداً من أعضاء الحكومة الحالية لم يعد بإمكانهم الاضطلاع بدور فعال في المرحلة الجديدة. هذه المرحلة الجديدة تتطلب من جهة توسيع قاعدة رجال الدولة باستقطاب كفاءات ونخب جديدة سياسيين واقتصاديين، ومن جهة ثانية التسريع في الإنجاز والعمل.  

ولذا فرئيس الحكومة أثناء شروعه في حصر قائمة بالوزراء الجدد بالتغيير الوزاري القادم، عليه أن يتقي الله ويخافه عند اختيار هؤلاء الوزراء، وأن يحرص كل الحرص على اختيار الأنسب منهم والأحق والأجدر والأنسب للمكان المناسب، لأنه سيحاسب على ذلك عندما يقف أمام الله عز وجل، وسيحاسب أمام التاريخ والأجيال القادمة عن ذلك الاختيار.

الكفاءات والسياسات، جناحان يحتاجهما كل وطن يريد أن يحلق إلى سماء الرخاء والأمن والاستقرار بمواطنيه، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يحلق بأحدهما مهما بلغت درجة قوته دون الآخر، كما لا يمكن كذلك أن يتمكن من الطيران بشكل صحيح ومتزن إذا كان أحدهما ضعيفاً أو يعتصره الوهن، فالمسألة مسألة اتزان ودقة، وتكامل وتجانس، لا يمكن أن يتحقق بالاعتداء أو الاعتلاء أو تغافل أو تهميش أو ضعف طرف على حساب آخر. 

لهذا، لابد من وجود قاعدة معلومات دقيقة عن أهم الخبراء في مصر في المجالات المختلفة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية واختلاف تكويناتهم، وإنه لصحيح من الناحية النظرية أنه لا يزال يوجد لدى الدولة قاعدة معلومات ما يهم الخبراء، لكن في اعتقادي أن هذه القاعدة تعرضت للإهمال والتشوهات والتحيزات وجوانب النقص المختلفة ما أفقدها الكثير من قيمتها. ومن سوء الحظ فإنه حدث بالتوازي مع ذلك عزوف تدريجي للكثير من الخبراء البارزين عن العمل العام وانصرافهم إلى شؤونهم الخاصة أو العمل في صمت في دائرة ضيقة أو حتى الهجرة خارج مصر.

أيضاً فإن على الذين يقولون صادقين أن مصر أرض ولادة، أن يشكلوا هم الآخرون قاعدة بيانات دقيقة عن الشخصيات ذات الخبرة التي تصلح لتصدر المشهد العام وتولي الوظائف الوزارية الكبرى. الأصل أن وجود حياة حزبية قوية هو الذي يفرز مثل هذه الشخصيات ويدفع بها لتكون على شاشة الرأي العام ليقدر كفاءتها ويزن جديتها ونزاهتها وبالتالي يتحمس أو لا يتحمس للدفع بها إلى المقاعد الوزارية أو غير الوزارية.

فلابد أن نعترف ونؤكد أنّ أسس إدارة المستقبل لأي وزارة، بل أهمها على الإطلاق ـ من وجهة نظرنا ـ هو اختيار الكفاءات المناسبة في مختلف مجالات وفروع العمل الحكومي، ووضعها في المكان المناسب والسليم لتحقيق الأهداف والطموحات الوطنية التنموية والنهضوية المأمولة، فوجود الوزير المناسب من حيث امتلاكه لسيرة ذاتية مليئة بالإنجازات الشخصية والوطنية والمؤهلات الأكاديمية والأخلاقية، بداية من القدرة على الإبداع والتخطيط الاستراتيجي والنظرة المستقبلية والاستشرافية والثقافة العامة، والمؤهلات الوطنية كالولاء للوطن ومحبته والإخلاص له، والمؤهلات المهنية والعلمية كالشهادة التخصصية والخبرة الأكاديمية والعملية، هي معايير رئيسية لا يجب التهاون بها أو إهمالها لتأثيرها سلباً أو إيجاباً على جودة العمل الوطني أو السياسات الوطنية، وبالتالي مستقبل الوطن واستقراره وأمنه وتقدمه.

وبمعنى آخر، إنّ وجود وزراء أو مسؤولين كبار من أبناء مصر غير مناسبين في وزارات ومؤسسات وطنية، بسبب عدم امتلاكهم لسيرة ذاتية مناسبة تؤهلهم وتدعم ترشيحهم لتلك المناصب ذات الطبيعة التخطيطية بشقيها الاستراتيجي أو التكتيكي أو حتى الإدارية منها باختلاف أهميتها ومستوياتها وقطاعاتها وتوجهاتها، أو بسبب وضعهم في أماكن لا تتناسب وقدراتهم أو مؤهلاتهم… هي جريمة وطنية لا تغتفر، وتدمير ذاتي لمستقبل مصر، وسبب من أسباب تخلفه وضعف تنميته، وجزء لا يتجزأ من امتدادات الفساد الإداري والاقتصادي، وضياع وهدر غير مقبول لثروات مصر ومقدراتها ”لا قدر الله”، وعقبة في طريق تقدمه.

وبكل تأكيد لا نتحدث هنا عن أي كفاءات وطنية أو أي سياسات حكومية، بل الحديث عن كفاءات وطنية مؤهلة وجديرة بالثقة الوطنية، لأنها تملك أولا الضمير الوطني الحي والحر، وثانياً الفكر الوطني المستنير، وأخيراً الإمكانيات والإنجازات الشخصية، القادرة على التعاطي مع المرحلة الوطنية والتاريخية بكل تحولاتها ومتغيراتها الحضارية والإنسانية والتنموية، وفي مختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، وسياسات حكومية تحمل بين طياتها رؤية ثاقبة للحاضر القائم والمستقبل القادم، لأنها في الأصل وليدة تلك الكفاءات الوطنية التي استحقت أن تكون في الزمان والمكان المناسبين، فإذا وجدت الكفاءات المناسبة وجدت معها السياسات المناسبة، والعكس صحيح.


ولهذا فلابد أن تُعتمد استراتيجية وضع الوزير المناسب في الوزارة المناسبة للوصول إلى الهدف المنشود بأسرع وقت وأقل مجهود وبجودة عالية، فلا يجوز على سبيل المثال لا الحصر اختيار وزير لديه دبلوم علمي تخصصي مهما بلغ مستواه الأكاديمي في الزراعة أو التجارة لإدارة مؤسسة رياضية أو تربوية، أو دبلوم تربوي لإدارة مؤسسة زراعية، أو دبلوم في التربة أو البيطرة أو علم الحيوان أو النبات لإدارة مؤسسة تدير خدمة اجتماعية مدنية أو عسكرية أو موارد بشرية لا شأن لها من قريب أو بعيد بذلك التخصص الذي يملكه ذلك الوزير، كما لا يمكن القبول لا من حيث المنطق ولا العقل ولا الحكمة ولا الولاء الوطني بوضع شخصية وزارية لمجرد انتماء قبلي أو ولاء شخصي أو كمكافأة أو منحة. فمصر وثرواتها ومقدراتها ومستقبلها فوق كل الاعتبارات والاستثناءات القبلية السياسية أو الولاءات الشخصية.

ولا نخفي أن قدراً عالياً من التفاؤل يحدونا للخوض في استشراف خارطة طريق حكومية جديدة ومختلفة، يتكئ على رصانة وثبات الخطوة الأولى في رحلة ”ألف ميل” ستكون حافلة بما يدخل في خانة ”عاجل ومصيري”، ففي تكليف من ستوكل إليهم مهام التوزير، جرعة أمل بالوصول إلى فريق عمل دؤوب، شعبي  البوصلة استراتيجي الأفق، وهي الثنائية التي لا تقبل الإخلال بأحد طرفيها.

نعم بين الشعبي والاستراتيجي هنا يكمن اللغز الذي ينتظر مقاربة حله بأدوات يجب أن تكون بسيطة رغم تعقيدات الظرف الاقتصادي العصيب، وعلينا ألا نتوهم ونتخيل أجندات غائرة في عمق فلسفة الاقتصاد وسيكولوجيا المجتمع، لنتماهى مع تقعّر وعمق الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمصر، ففي هواجس المواطن التقليدية ما يتكفل بإعفائنا من عناء التكلف في البحث عن الأولويات، وفي الوقت ذاته يحتضن بذور النجاح المأمول 

بوصلة حكومة المهندس مصطفى مدبولي المرتقبة، في نظرنا يجب ضبطها على أنغام مطالب الرأي العام، والمواطن المصري يأمل أن تكون بداية جديدة للحكومة يريدها المواطن كما يريدها الرئيس السيسي، أن تعمل بدماء جديدة، أن تعمل بشفافية، وأن تعمل دون توقف كما يجب أن يكون سنداً لها في عملها الإصلاحي والتطوري، بخاصة أن لكل فئة اجتماعية مطالبها المحقة، العمال لهم مطالب، الفلاحون، الطلبة، الحرفيون، الجامعيون، المعلمون، المهندسون، الأطباء، الشباب وفرص العمل، الإعلاميون…

إنّ حساسية الموقف الاقتصادي والمعيشي يملي عرضاً هادئاً لأولويات متزاحمة، تخلو تماماً من أي خيار ترفيهي ـ كمالي، من المفيد الدفع بها سلفاً لتكون المعيار النظيف والمحكّم لتوزير حقائب المسؤوليات في زمنٍ لم يعد زمن امتيازات. وعلى الحكومة المرتقبة أن تعمل بكل جدية ونزاهة في تحقيق احتياجات المواطن والوطن، والابتعاد عن الروتين والفساد والاتكالية في العمل، وأن تنجز الخطط المقررة والمطلوبة وتبتعد عن المركزية، وتسهل الإجراءات، وتحاسب المقصرين والفاسدين وتكافئ المجدين والمبدعين، وتخلق فرص عمل للعاطلين عن العمل، وتعالج كل قضايا المجتمع… 

إنها مهام كبيرة وواسعة، مهام وقضايا وواجبات وملفات تحتاج إلى زخم في العمل وسرعة في الانجاز لكن بشرط عدم التسرع في اتخاذ القرار.‏ فأمام حكومة مصطفى مدبولي تحديات اقتصادية صعبة لكن من قال إن التحديات الحكومية سهلة في أي مكان آخر في العالم؟

 

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version