مقدّمة
كتب هذه المقالة كاس مودي، أستاذ قسم العلاقات العامّة والعلاقات الدولية بجامعة جورجيا، ومؤلّف كتاب “اليمين المتطرف اليوم”، ويُفنّد فيها أطروحة المنظّرة السياسية البلجيكية شانتال موف، التي عُنيت بتفسير أسباب تراجع شعبية أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في الغرب، كما يُسائل حل “اليسار الشعبوي” الذي اقترحته موف لمواجهة هذا المأزق. كان “ميدان” قد ترجم سابقا مادّة شانتال موف عن “اليسار الشعبوي”، ولا بدّ من قراءتها للحصول على فهم أفضل لسياق المقالة التي بين أيدينا. بالإضافة إلى مادّة أخرى تفسّر مفهوم “الأصلانية” لكثرة ما تردد ظهور المصطلح في المقال أدناه.
في أوساط الأشاوس القدامى لليسار المعتدل، ينتشر تفسير مبسط لضمور شعبية الأحزاب التي اعتادت هذه الشخصيات قيادتها، ألا وهو الهجرة. وتبنّى كلٌّ من هيلاري كلينتون، وتوني بلير، ورئيس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو رينزي الرأي ذاته في مقابلات حديثة أجرتها الجارديان، بالإشارة إلى أن أوروبا مطالبة بـ”السيطرة على الهجرة” لإيقاف الشعبوية اليمينية. هذه الأيام، لا يكاد يمرُّ أسبوع دون أن يُعلن مرشح أو كاتب صحفي أن استعادة الليبراليين للسلطة مشروطة فقط بإغلاق الحدود.
ليس هذا الهوس بالهجرة وليد المصادفة؛ فهو يعكس اعتقادا واسع الانتشار بأنَّ تراجع الأحزاب الكبرى لليسار المعتدل في أرجاء أوروبا، ومنها الحزب الاشتراكي (PS) في فرنسا، والحزب الديمقراطي (PD) في إيطاليا، والحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) في ألمانيا، جاء بسبب صعود الأحزاب الجديدة من اليمين الراديكالي الشعبوي، التي “سرقت” أصوات الناخبين من الطبقة العاملة القديمة بخطاب أصلاني[1]، بل وحتى سلطوي، عانى على إثره سياسيو اليسار المعتدل في ابتكار سياسات تُمكِّنهم من “استعادة” الطبقة العاملة. (وعبّر بلير عن قلقه حيال هذه المسألة في عام 2001، وفقا لمستشاره السابق في الاتحاد الأوروبي ستيفن وول، الذي يتذكر عن رئيس الوزراء البريطاني السابق قوله: “إنَّ الشيء الوحيد الذي سيجعلني أخسر الانتخابات القادمة هي الهجرة”).
لا يقتصر اعتناق هذا الرأي على كلينتون وبلير، ففي أعقاب الانتصار المفاجئ لدونالد ترمب، كان هناك إصرار لدى العديد من الأميركيين الليبراليين على أن “استعادة نطاق الصدأ” [2] ستكون ممكنة فقط في حال تبنّى الديمقراطيون المخاوف البيضاء بشأن الهجرة. ومما لا شك فيه أن هيلاري كلينتون ذاتها تمتلك سجلا طويلا من الآراء وأصوات مجالس الشيوخ المعادية للهجرة “غير الشرعية” والداعية إلى “تأمين الحدود” (بما فيها فكرة “السياج الفاصل”)، وأنّ أحزابا أوروبية عريقة للديمقراطية الاجتماعية كانت تنادي بـ “واقعية الهجرة” (Migration Realism) منذ أواخر العام 2000.
لكن منذ بدأ ما يُسمى بأزمة اللجوء في عام 2015، تصاعدت هذه المخاوف حتى بلغت مستويات الذعر، وتسابق قادة أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا لإظهار مخاوفهم بشأن الهجرة. في العام الماضي، أصدر زعيم الحزب الاشتراكي البلجيكي تعميما مفاده أن “معدلات الهجرة يجب أن تنخفض في كل أرجاء أوروبا”، بينما قال زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا إن بلاده لا يمكن أن تستقبل كل طالبي اللجوء العالقين على الحدود. أما زعيم الديمقراطيين الاجتماعيين في الدنمارك فقد ذهب إلى أبعد من ذلك في تصريحاته بشأن الهجرة باتهام المسلمين في الدنمارك بالعيش في “مجتمعات موازية”، والقول إنَّ الهجرة “تقوض” دولة الرفاه الدنماركية، ويصعب على المرء تمييز هذه الاتهامات عن تلك التي يُطلقها حزب الشعب الدنماركي اليميني المتطرف.
هذا التحول الدراماتيكي في الخطاب لدى الأحزاب التي تزعم أنها يسار معتدل هو جزء من ذعر أكبر يتعلق بكيفية الحد من انتشار الشعبوية اليمينية في أرجاء الغرب في السنوات الأخيرة. ويرجع السبب في انتشار هذا الاعتقاد التقليدي على نطاق واسع إلى تبنّي أعداد متزايدة من الأكاديميين والمحللين، الذين ينتمون في العادة إلى أحزاب اليمين أو أحزاب الوسط، نصيحة مشتركة: إن أحزاب اليسار ستُمحى ما لم تولِّ اهتماما للمصوتين “المتروكين” وتتبنى سياسات مناهضة للهجرة. وحاليا، ثمة بعض الأكاديميين الذين يذهبون إلى حد الدفاع العلني عن سياسات الهوية لجماعة العِرق الأبيض.
لكن الجدال القائل إن اتخاذ موقف أشد حزما من الهجرة سيُعيد الحياة لأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، ويضع حدًّا لصعود اليمين الراديكالي، ينطوي على اثنتين من المغالطات الرئيسية التي تعكس، إذا ما دمجناها معا، سوء فهم أكبر للدور التاريخي الذي اضطلعت به أحزاب اليسار المعتدل. المغالطة الأولى هي افتراض واسع الانتشار بأن صعود الشعبوية اليمينية وتراجع أحزاب اليسار المعتدل التقليدية وجهان لعملة واحدة، أي إن كليهما كان نتيجة لتخلي الناخبين من الطبقة العاملة عن الديمقراطيين لصالح الخطاب الأصلانيّ لليمين الراديكاليّ الشعبويّ. والمغالطة الثانية، وهي على صلة وثيقة بالأولى، أن غالبية ناخبي اليمين الراديكالي حاليا هم من أبناء الطبقة العاملة البيضاء التي اعتادت التصويت بثقة لأحزاب الديمقراطية الاجتماعية فيما مضى.
يفتقد كلا هذين الافتراضين المتكررين إلى أي أساس نظري، كما تُظهِر البيانات. فالحقيقة أن معظم المصوتين لليمين الراديكالي الشعبوي ليسوا من أبناء الطبقة العاملة، كما أن غالبية أبناء هذه الطبقة لا يدعمون اليمين الراديكالي. تستند هذه الأخطاء إلى سوء فهم أوسع لتاريخ أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وهي أيديولوجيا تدعم المساواة والعدالة الاجتماعية في إطار الديمقراطية الليبرالية والاقتصاد المختلط[3]. إننا بالعودة إلى المفهوم الماركسي للصراع الطبقي، نجد أن هدف هذا النوع من الديمقراطية هو تحسين وضع الفئات المهمشة. لكن أولئك الذين يجادلون بأن أحزاب اليسار المعتدل مطالبة بتهدئة مخاوف الجماعة البيضاء بشأن الهجرة يقولون جوهريا إن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية هي أولا وقبل أي شيء آخر جماعة تأثير لصالح “الطبقة العاملة”، التي تتألف دائما، كما تفترض هذه الآراء سابقا، من أبناء الجماعة البيضاء.
يؤدي هذا التشخيص الخاطئ لأسباب تراجع اليسار المعتدل، وصعود اليمين الشعبوي، إلى تحضير وصفة خاطئة لاستعادة الديمقراطية الاجتماعية. في الحقيقة، إن أحزاب اليسار المعتدل كانت تحاول “التصرف بقسوة” مع الهجرة طيلة عقود، وكثيرا ما حاولت أن تدعم سياسات الحد من الهجرة، دون أن يضع ذلك حدًّا لتراجعها. منذ بداية القرن الحالي على الأقل، وهناك جدال محتدم حول كيفية الرد على اليمين الشعبوي. وكان هذا الجدال يتم في الغالب بين مَن يعتبرون هذه الموجة اليمينية عرضا جانبيا “للقلق الاقتصادي”، وأولئك الذين يرونها نوعا من الثأر الثقافي. لكن كلا الطرفين يمتلك وصفة خاطئة: إن كانت الديمقراطية الاجتماعية تريد النجاة، ينبغي لسياسيّيها العودة إلى قيمهم الأولى، عوض مطاردة سراب مصوّتيهم الأساسيين السابقين.
إن الحل لاستعادة حظوظ الديمقراطية الاجتماعية لا يكون بالإذعان للنزعة الأصلانية لدى جزء من أبناء الطبقة العاملة البيضاء، ولكن في اعتناق الأفكار والسياسات الجوهرية التي قامت عليها الديمقراطية الاجتماعية، كالمساواة، العدالة الاجتماعية، التعاضد، الحق في الحماية الاجتماعية ودولة الرفاه الشامل. وقد كانت هذه القيم بمنزلة منطق عام مشترك لدى غالبية الأوروبيين في النصف الثاني من القرن العشرين، قبل أن تتآكل هيمنتها بفعل ثلاثة عقود من الأفكار والسياسات النيوليبرالية. والطريق الوحيد أمام الديمقراطية الاجتماعية هو النضال لكي تعود تلك القيم وتُهيمن مرة أخرى.
بالنظرة الأولى، يبدو الربط بين تراجع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية وصعود أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي منطقيا. لكن التوافق لا يعني وجود صلة سببية دائما. في البداية، لم يحدث كلاهما في الفترة نفسها. والأهم، أنَّ لكل منهما أسبابه الخاصة. إن نظرنا إلى متوسط الأصوات التي ذهبت لأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا الغربية، فسنرى أنها ارتفعت حتى أكثر من 30% في خمسينيات القرن الماضي، وظل هذا الرقم مستقرا حتى أواخر الثمانينيات. في أواخر التسعينيات، تراجع متوسط الأصوات دون 30%، حتى انحسر بشكل واضح مع الألفية الجديدة. واليوم، لا تكاد النسبة تتجاوز 20%.
حتى بداية الثمانينيات، كانت أحزاب اليمين الراديكالي غير معروفة إلى حدٍّ كبير في أوروبا الغربية، حيث وجد أحد المسوحات أن نسبة انتشارها بلغت 1% تلك الفترة. بحلول التسعينيات، كانت هذه النسبة قد ارتفعت قليلا حتى بلغت 5%. لكن مع انحدار نسبة التصويت لصالح أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في ذلك العقد، لم يحدث أن اتسعت القاعدة الجماهيرية للأحزاب الشعبوية. مع الألفية الجديدة، بدأت هذه النسبة بالارتفاع مرة أخرى، وإن كان بشكل متواضع، بحيث يبلغ معدّل المصوتين لأحزاب اليمين الراديكالي 10% اليوم.
تُمثِّل هذه الأرقام متوسط الأصوات على امتداد أوروبا الغربية، لكن النظر إلى دول معينة يجعل من الواضح أكثر عدم وجود صلة بين صعود اليمين الراديكالي وبين تراجع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية. في العديد من الحالات، لم يكن صعود اليمين الشعبوي الراديكالي مقترنا بأي تراجع موازٍ لدى اليسار المعتدل، وفي حالات أخرى، كانت أحزاب اليسار المعتدل قد بدأت تراجعها الحاد قبل وجود أي حزب شعبوي راديكالي ضخم.
ولنأخذ سويسرا على سبيل المثال، حيث تمكّن واحد من أكثر أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي نجاحا في أوروبا الغربية، حزب الشعب السويسري، من مضاعفة شعبيته بين عامي 1995 و2015، لترتفع نسبة المصوتين له من 14.9% إلى 29.4%، بينما خسر الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويسري 3% من الأصوات فقط في الفترة نفسها. في حين بدأ الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني تراجعه بعد 1998، لكنه تلقى أكبر ضربة له في عام 2009، أي قبل أربع سنوات على تأسيس حزب اليمين الراديكالي الشعبوي “البديل من أجل ألمانيا” (AfD).
وكان حزب العمل الهولندي (PvdA) قد تضرر من صعود قائمة اليمينيّ الشعبوي بيم فورتاين في 2002، لكن أرقامه تحسّنت في العام التالي. غير أن الانفجار الداخلي وقع في عام 2017، عندما مُني بخسارة بلغت نسبتها 19.1% (أي أكثر من ثلاثة أرباع مجموع الأصوات التي حصدها في عام 2002)، لكن هذا كان بعد عدة سنوات على وصول حزب الحرية (PVV) بقيادة خيرت فيلدرز إلى ذروة شعبيته عام 2010. علاوة على ذلك، كانت المكاسب التي حققتها أحزاب اليمين المختلط المتشدد، أي الـ (PPV) والمنتدى الجديد للديمقراطية (FvD)، متواضعة نسبيا (حيث ارتفعت نسبة المصوتين بمقدار 4.9%) في عام 2017. هذا دون أن نذكر الحزب الديمقراطي الاجتماعي الإسباني، الذي واجه انقسامات داخلية قبل الصعود الحديث لحزب فوكس اليمينيّ المتطرف، بينما كان قد حقق فوزا ضخما بارتفاع نسبة المصوتين من 22.6% إلى 28.7%، في الانتخابات ذاتها التي شهدت دخول حزب فوكس للبرلمان بنسبة 10.3% من الأصوات.
هناك تفسير مبسط لما حدث؛ إن تراجع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية يتعلق بأسباب مختلفة إلى حدٍّ كبير عن تلك المتعلقة بصعود أحزاب اليمين المتطرف الشعبوي. بادئ ذي بدء، يعود تراجع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية بشكل رئيسي إلى الانتقال من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد الخدمات. وقد أدى هذا، من بين أشياء أخرى، إلى تراجع حادٍ في وظائف الطبقة العاملة التقليدية، وتراجع نسبي في الأعداد الإجمالية لأبناء الطبقة العاملة على مقياس السكان الأوسع.
في مواجهة طبقة عاملة آخذة بالتقلص وطبقة متوسطة آخذة بالتمدد، بدأت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية باستهداف هذه الأخيرة على حساب الأولى. وقام توني بلير، استلهاما من انتقال بيل كلينتون الناجح إلى الوسط في الانتخابات الأميركية الرئاسية عام 1992، بإعادة تسمية حزب العمال تحت اسم حزب العمال الجديد في عام 1994، واعتناق فكرة “الإدماج الشامل” الذي ارتكز على الناحية الثقافية (التعددية الثقافية)، والاقتصادية (العولمة النيوليبرالية) بالإضافة إلى التكامل القومي (الاتحاد الأوروبي).
علاوة على ذلك، فقد حاول بلير “عدم تسييس” السياسة ونزع صفتها الاستقطابية، زاعما أنه يروّج لنهج “براغماتي” جديد وحلول نابعة من “المنطق المشترك”، يعتبر فيها الجميع طرفا رابحا. سرعان ما بدأت أحزاب ديمقراطية اجتماعية غربية أخرى باتباع نهجه، ومنها حزب “PvdA” الهولندي وحزب “SPD” الألماني، الذي زعم قائده غيرهارد شرودر بأنه يُمثِّل “الوسط الجديد” (“die neue Mitte”)، وحذا حذوه حتى الاشتراكيون الفرنسيون وأحزاب متنوعة من الجنوب الأوروبي، بوتيرة بطيئة ربما ولكن ثابتة.
خلال تسعينيات القرن الماضي، كان متوسط نسبة الأصوات التي حصلت عليها أحزاب الديمقراطية الاجتماعية قد انحدر بمقدار ضئيل فحسب، لكن ذلك لم يترافق مع صعود أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي أكثر مما كانت عليه إطلاقا. جاء التحول الكبير فقط مع بداية الألفية الجديدة، لا سيما في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول. حيث ساعد التأطير السياسي لـ “الحرب على الإرهاب” في تحويل الملفات الساخنة كالهجرة والإسلام والأمن إلى قضايا رئيسية للقرن الجديد. وأسفر هذا التحالف السياسي الجديد الذي يتحدد بالنواحي الثقافية لا الاقتصادية منها، في العديد من بلدان أوروبا الغربية، عن تحول الخُضر إلى جناح رئيسي لليسار، وتحول اليمين الراديكالي الشعبوي إلى حزب اليمين الرئيسي.
اعلان
يروق لقادة اليمين الراديكالي الشعبوي أن يُنظر إليهم باعتبارهم ورثة “الأحزاب العمالية” الديمقراطية الاجتماعية القديمة. على سبيل المثال، أعلن زعيم حزب الـ “Afd” السابق، فروك بيتري، صراحة أن الـ “Afd” يرغب بأن يصبح الحزب الديمقراطي الاجتماعي التالي. بينما يزعم سفير اليمين، ومستشار ترمب السابق ستيف بانون، أن “هناك الكثير ممن يناصرون [بيرني] ساندرز سيأتون ويصوتون من أجلنا في انتخابات 2020”. لكن حتى هذا الطموح ينطوي على افتراض خادع بشأن تاريخ تصويت الطبقة العاملة. صحيح أن الطبقة العاملة في أوروبا الغربية اتجهت للتصويت لأحزاب الديمقراطية الاجتماعية منذ الحرب العالمية الثانية، وأن الأحزاب الشيوعية كانت منتشرة، لكن لطالما صوّت جزء لا يستهان به من أبناء الطبقة العاملة لأحزاب اليمين.
منذ ظهور اليمين الراديكالي الشعبوي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ظلّت قاعدته الانتخابية تتغير وتتطور باستمرار، مع حضور الطبقة العاملة البيضاء كمكوّن مهمّ ولكن أبعد ما يكون عن الهيمنة. وكان المصوتون لهذه الأحزاب قلة، حيث بلغت نسبتهم في استطلاعات الرأي تلك الفترة 5%، وكانوا ينتمون إلى خلفيات طبقية متنوعة ولديهم توجهات انتخابية مختلفة في السابق. تركزت قوة هذه الأحزاب من أمثال “كتلة فلامز البلجيكية” و”الجبهة الوطنية الفرنسية” في أوساط الموظفين المستقلين، لكنها جذبت أيضا عمال الياقات الزرقاء وعمال الياقات البيضاء[4]. وبما لا يثير الدهشة، وبالنظر إلى أن أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي نصبت نفسها بديلا لكلٍّ من اليسار واليمين، فقد تمكن اليمين الراديكالي الشعبوي من سحب المصوتين من كلا الجانبين بالإضافة إلى أولئك الذين يصوّتون لأول مرة، والممتنعين سابقا عن التصويت.
عندما بدأت بعض أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي تحقق نتائج أفضل في التسعينيات، حيث ارتفعت نسبة أصواتها من 5% إلى 15%، كان هناك أيضا انتقال واضح في نسيج أنصارها، حيث تمسكت هذه الأحزاب بمناصريها الرئيسيين من أبناء الطبقة الوسطى، لكنها بدأت بإضافة أصوات هائلة من أوساط الطبقة العاملة. وكان هانز جورج بيتز، أحد رواد الدراسة الأكاديمية لأحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي، هو أول مَن لاحظ ما أسماه “برلتة” (Proletarisation) اليمين الراديكالي الشعبوي. وقد تقوّى الاعتقاد بأن الطبقة العاملة تُحوِّل ولاءها باتجاه اليمين الراديكالي الشعبوي في أواخر التسعينيات بفعل تحوّل إضافي في الأجندة والأهداف. سابقا، كانت العديد من هذه الأحزاب قد دعمت السياسات النيوليبرالية النموذجية مثل تخفيض الضرائب والخصخصة، لكنها الآن بدأت تدعم دولة رفاه شوفينية، وهي دولة تَعِدُ بالكثير من المزايا، لكنها مزايا تقتصرُ على “جماعتها الخاصة”.
كنتيجة، بدأ مرشحو أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي الأكثر نجاحا، الجبهة الوطنية الفرنسي وحزب الحرية النمساوي، يشبهون أكثر فأكثر من ناحية البنية مرشحي الأحزاب الاشتراكية التقليدية وأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في تسعينيات القرن الماضي. وبدأت أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي هذه تسمى “أحزاب عمال” في الأدبيات الشعبية والأكاديمية مع بداية القرن الحالي، لأنها كانت من بين أكثر الأحزاب شعبية في أوساط الطبقة العاملة. وبات المصوت النمطي لليمين الراديكالي الشعبوي في أوروبا الغربية يصوّر حاليا كشابّ يافع ذي تعليم متدنٍّ ينتمي للطبقة العاملة. لكن هذا التصور مضلل، لا شك أنَّ مصوتي الطبقة العاملة حضروا بأعداد هائلة في أوساط ناخبي أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي الناجحة، مقارنة بتناسبهم مع المجتمع ككل، لكنّهم كانوا في أفضل الأحوال يشكّلون زيادة عددية، أكثر منهم أغلبية، ضمن ناخبي تلك الأحزاب.
الحقيقة أن معظم مصوتي أحزاب اليمين الراديكالي لم يكونوا من الطبقة العاملة، ومعظم ناخبي الطبقة العاملة لم يصوّتوا لليمين الراديكالي الشعبوي. حيث وجدت دراسة حديثة أن 31% من “عمّال الإنتاج” و23% من “عمال الخدمات” “فقط” قاموا بالتصويت لأحزاب اليمين الراديكالي بين عامي 2000 و2015. وبينما كانت هناك استثناءات، حيث بلغت نسبة المصوتين العمال 45% لحزب الجبهة الوطنية الفرنسي و48% لحزب الحرية النمساوي، كانت الأرقام أقل بكثير للأحزاب المماثلة الأخرى، حيث بلغت النسبة 17% فقط لحزب رابطة الشمال الإيطالي، على سبيل المثال. أضف إلى ذلك أن المسوحات تُظهِر بأن أحزاب اليمين الراديكالي لا تقوم بسحب مصوتي أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وأن المصوتين الذين يتخلون عن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية لا ينتقلون بصورة رئيسية إلى أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي.
في الانتخابات البرلمانية الألمانية عام 2017، كان الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، الذي تراجعت نسبة المصوتين له من 25.7% إلى 20.5%، قد خسر مصوّتين أكثر لصالح أحد الحزبين الرئيسيين في البلاد، ولصالح الممتنعين عن التصويت، مما خسر لصالح حزب “البديل من أجل ألمانيا (AfD) الشعبوي. بينما فاز حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، الذي دخل البوندستاغ لأول مرة بـ 94 مقعدا (نسبة 12.6% من الأصوات)، بمصوتين أكثر قادمين من حزب أنجيلا ميركل الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بالإضافة إلى الممتنعين سابقا عن التصويت و”أحزاب أخرى” (بشكل ملحوظ الحزب الوطني الديمقراطي اليميني)، مما فاز من مصوتين من الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
ونجد هذا النمط أيضا في كلٍّ من هولندا وإيطاليا. حيث مُني الـ “PvdA” الهولندي بهزيمة نكراء في عام 2017، عندما انحدرت نسبة ناخبيه من 25% إلى 6%، وذهب مصوّتوه السابقون إلى الخُضر، اليسار الراديكالي، وأحزاب الليبرالية الاجتماعية، عوض أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي “FvD” و”PVV”. بينما خسر الحزب الديمقراطي بقيادة ماتيو رينزي السلطة في إيطاليا دون أن ينتقل تقريبا أيٌّ من مصوتيه السابقين إلى حزب ماتيو سالفيني رابطة الشمال، الذي حصل على أصوات المصوتين السابقين لأحزاب اليمين والمصوتين لأوّل مرة.
إنَّ ما تبرهنه هذه الأمثلة هو أن النمو الحديث لأحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي، على عكس التوسع الأول في التسعينيات، لم يكن مدفوعا بفوز هذه الأحزاب بالمزيد من المصوتين من أبناء الطبقة العاملة. وتقول الرواية الحقيقية إن الردود على أحداث مماثلة لـ 11 سبتمبر/أيلول و”أزمة اللاجئين” من قِبل المعلقين والسياسيين في وسائل الإعلام الرئيسية أدّت إلى جرّ نقاشات اليمين الراديكالي أكثر فأكثر إلى المجال العام، وبالتالي فقد أصبحت تلك “الحلول” المقترحة تنال قبولا أوسع لدى قطاعات واسعة من السكّان. كنتيجة، باتت أكثر أحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي نجاحا هي “أحزاب الشعب” أكثر منها “أحزاب العمال”، وهي بالتالي لا تُمثِّل الطبقة العاملة فحسب.
لم يكن هذا الجدال حبيس جدران الأكاديميا، فالتَّصورات الخاطئة بشأن مصوتي اليمين الراديكالي حملت عواقب وخيمة على سياسات اليسار المعتدل، لأنها أدت بالكثير من الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية لاتباع إستراتيجيات خاطئة في مواجهة اليمين الراديكالي الشعبوي. وكان البحث عن البدائل قد بدأ فقط عندما اتضح أن نهج “الطريق الثالث” قد أدّى إلى تأجيل تراجع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في الدوائر الانتخابية فحسب، لكنّ تركيز البحث عن هذه البدائل انصب على كيفية “استعادة” أصوات الطبقة العاملة (البيضاء) “المتروكة”.
ساد هذا الجدل في أوساط معسكرين متنافسين، الليبراليين في مواجهة الاشتراكيين. حيث كان لدى كل معسكر آراؤه الخاصة عن السبب الرئيسي وراء تراجع أحزاب الديمقراطية الاجتماعية وصعود اليمين الراديكالي الشعبوي، لكن تشاركهما في تصور “استعادة الطبقة العاملة” هو المسألة المهمة ها هنا. وكانت إحدى نسخ هذا الجدال موجودة في الولايات المتحدة بعد انتصار ترمب: هل فرّ المصوتون (من أبناء الجماعة البيضاء) من ميتشجن وأوهايو إلى ترمب لأنهم كانوا يعانون ماليا (“من مؤرقات اقتصادية”)، أم أن الأمر كان لأسباب تفوق عِرقي وإثني (“ثأر ثقافي”)؟
يميل الليبراليون إلى اعتبار أن دعم الطبقة العاملة (البيضاء) لليمين الراديكالي الشعبوي هو في الأصل ردّ فعل ثقافي، مع أنهم لا ينكرون أن الاقتصاد لعب دورا. وهذا صحيح، كما سنرى عما قريب، لكن ردود أفعالهم كانت غير مؤثرة، وعادة ما أخذت شكل نداءات مائعة بـ “استعادة الحس القومي”، التي دائما ما تؤدي تقريبا إلى تضييق الخناق على الهجرة.
مع أن العديد من الليبراليين كانوا من مهاجمي الصف الأول لـ “الشعبوية” بوصفها أحد أكبر التهديدات المعاصرة للديمقراطية، قبل العديد منهم ضمنا بالإطار الذي وضعه اليمين الراديكالي الشعبوي. حيث أعلن زيجمار جابرييل، الذي قاد الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني لقرابة عقد من الزمن، في عام 2016 أن الدرس المستقى من خسارة كلينتون أمام ترمب هو أن “أولئك الذين يخسرون دعم العمال في حزام الصدأ لا يمكنهم أن يعوّلوا على أصوات أبناء الطبقة الوسطى في كاليفورنيا”. وليس هذا الخطاب ببعيد عن الديكوتومية [5] الشعبوية التسطيحية التي تُفرّق بين “غير المتعلمين” و”المتعلمين” التي روّج لها الكاتب ديفيد جودهارت.
بالنسبة لليبراليين من أمثال توني بلير، الذي سُميت مؤسسة التغيير العالمي تيمّنًا باسمه وكان أول مَن دفعوا بـ “النهج التقدمي” في التعامل مع الهجرة، ليست العولمة النيوليبرالية، وانعدام المساواة الهائل الذي خلّفته في أوساط المجتمعات التي كانت متساوية سابقا في أوروبا الغربية، هي الأسباب وراء الانتفاضة الشعبوية، ولكن “الأشياء التي يعتقد الناس أنها ضارة بشأن الهجرة الأوروبية”.
وهذه قصة معروفة، يتشاركها الديمقراطيون الاجتماعيون واليمين الراديكالي الشعبوي، مفادها أن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية نادت بالحدود المفتوحة على عكس ما أراد “الشعب”، وهي لفظة تشير عادة إلى الطبقة العاملة (التي تتألف ضمنيا من الأصلانيّين من أبناء الجماعة البيضاء). لقد ظل ساسة اليمين الراديكالي الشعبوي يزعمون طيلة عقود أن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية قد “خانت” الطبقة العاملة البيضاء لصالح المهاجرين والمسلمين، الذين يُزعم أنهم قاعدتها الانتخابية الجديدة. في الواقع، إن علاقة أحزاب الديمقراطية الاجتماعية بالمهاجرين والتعددية الثقافية شائكة وبالغة التعقيد.
بالتأكيد فإن معظم أحزاب الديمقراطية الاجتماعية شجعت الهجرة والتعددية الثقافية، بالأخص في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وإن الروابط بين الأحزاب وحركات مناهضة العنصرية كانت وثيقة في العديد من بلدان أوروبا الغربية، ومنها فرنسا، حيث أصبح أول رئيس لحركة “SOS Racisme” المناهضة للعنصرية نفسه الأمين الأول للحزب الاشتراكي الفرنسي، وإن الديمقراطيين الاجتماعيين كانوا في الصفوف الأولى للنضال السياسي ضد اليمين المتطرف.
لكن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية على امتداد أوروبا الغربية عادة ما كانت أقلّ دفاعا عن سياساتها الفعلية، حيث رفض أبناؤها الاعتراف أو القبول بأن بلدانهم باتت دولا “حاضنة للاجئين” مثل كندا أو الولايات المتحدة، مما دفعهم سرا أو جهرا إلى الدفاع عن القيود المفروضة على الهجرة الاقتصادية (على سبيل المثال، في أعقاب الأزمة النفطية في بداية سبعينيات القرن الماضي) واللجوء السياسي (على سبيل المثال في أعقاب الحرب الأهلية اليوغسلافية التي اندلعت في بداية التسعينيات).
وبالمثل، كان دعمهم لـ “التعددية الثقافية” رمزيا فحسب، حيث لم يقم أي حزب بتطوير سياسة متماسكة، ناهيك بتطوير رؤية ديمقراطية اجتماعية للتعددية الثقافية؛ والإرث الذي تركه توني بلير وحده خير دليل. وكما جادل ويل سومرفيل من “معهد سياسة الهجرة” (Migration Policy Institute)، قام توني بلير وحزب العمال الجديد بتوسيع نطاق الهجرة الاقتصادية، لكنهم وضعوا “نهجا أشد قوة، وتضييقا في مسائل اللجوء والأمن” أمام الناخبين.
بالعديد من الطرق، كان نهج بلير تجسيدا لمدى الارتباك الذي صاحب استجابة الأحزاب الديمقراطية للتسييس المتزايد لمسألة الهجرة في التسعينيات، حيث انضمت العديد من أحزاب يسار الوسط إلى يمين الوسط في إستراتيجية الخيار المشترك، لا سيما مع فشل نهج الطريق الثالث في وقف انحسار قاعدتها الانتخابية. بكلمات أخرى، قامت أحزاب يسار الوسط باعتناق قضايا اليمين الراديكالي الشعبوي في محاولة لتهميشه، مما أدى إلى تصاعد المطالبات بسياسات “أكثر واقعية” إزاء الهجرة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول، بالإضافة إلى المطالبة باتخاذ سياسات أقوى لإدماج “المهاجرين” الذين كانوا في الغالب من المسلمين. ويكفينا أن نتذكر خطاب جوردون براون “وظائف بريطانية لعمال بريطانيين” في عام 2007، الذي تناغم بشكل ضمني واضح مع اليمين الراديكالي الشعبوي، وقد رفعت الجبهة الوطنية الفرنسية شعارا مماثلا في السبعينيات.
جاء اليسار ببديل لهذا النهج الليبرالي المهادن عبر أولئك الذين تذيع تسميتهم بـ “الديمقراطيين الاشتراكيين”. وقد اعتنق هذا المعسكر فكرة “اليسار الشعبوي” الذي تأثر بأفكار شانتال موف، المنظّرة السياسية البلجيكية المقيمة في لندن وزوجها إرنستو لاكلاو، ويُعرف كلاهما بنقد تطلعات الطريق الثالث لنزع الحزبية والصراع عن السياسة، حيث أثّرت مطالبتهُما بـ “ديمقراطية جذرية” ما بعد ماركسيّة بجيل كامل من الأكاديميين والسياسيين اليساريين، لا سيما في أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا.
منذ وفاة لاكلاو في عام 2014، أضحت موف حامل الشعلة الأبرز والأفصح لشعبوية اليسار الجديد، لا سيما بعد كتابها اللماح “من أجل شعبوية يسارية”، حيث قامت بتوسعة نطاق استخدام لفظتَيْ “يسار” و”شعبوية”، دون أن تغفل عن تحديدهما بوضوح. ويقوم جدالها الرئيسي على ضرورة أن يُفسد اليسار حالة الإجماع التي خلّفتها النيوليبرالية عبر “إعادة تسييس” السياسة واسترجاع نزعتها الاستقطابية، بالقول إن الخصومة والصراع بين الجماعات المتناحرة عنصران أساسيّان للحياة السياسية. وعلى عكس الماركسيين المتزمتين، تجادل موف بأن الصراع لا ينبغي أن يكون على طول الصدع الطبقي التقليدي، أو أي نوع من خطوط الصدع حتى، فهي تجادل، بدلا من ذلك، بأن اليسار ينبغي أن يلتف حول برنامج مختلط مُعادٍ للمؤسسة الحاكمة، ومصمم بحيث يشمل أكبر تحالف ممكن بين القضايا التقدمية.
رأت موف كغيرها من مناصري إستراتيجية اليسار الشعبوي هذه شمسا تؤذن بفجر تقدمي جديد، لا سيما مع النجاح الانتخابي الباهر الذي حققه حزب “بوديموس” (Podemos) في إسبانيا وسيريزَا في اليونان قبل عدة أعوام على الأزمة الاقتصادية، حتى إنها نشرت كتابا مع إنييجو إريخون، أحد قادة بوديموس. لكن ما حصل مُذ ذاك كان أن سيريزا حطم آمال اليسار الشعبوي برضوخهِ لضغوطات الاتحاد الأوروبيّ، في حين فقد بوديموس زخمه الشعبي نتيجة للصراعات الشخصية والسياسية، مما دفع موف إلى تعليقِ آمالها على جان لوك ميلانشون، الابن البار للديمقراطية الاشتراكية الفرنسية والذي أعاد اختراع نفسه كسياسي ينافح عن اليسار الشعبوي.
مع أن موف تُفضِّل البقاء بعيدة عن النزاعات الأصلانوية التي تُثيرها شخصيات أخرى من اليسار الشعبوي، ولعل أبرزهم سارا فاكنكنيخت وحركتها الجديدة “أوفشتين” (Aufstehen) (بالعربية: انهضوا) في ألمانيا، غير أنها تستهدف بوضوح مصوتي الطبقة العاملة من أبناء الجماعة البيضاء، لا سيما أولئك الذين تسبب نهج الطريق الثالث بخسارتهم لصالح اليمين الراديكالي. قالت موف في أكثر من مقابلة: “عندما يذهب المواطنون للتصويت فإنهم لا يكادون يلحظون أي فارق بين الخيارات الماثلة أمامهم. وقد أدى ذلك إلى تنامي شعبوية بنكهة يمينية. ماريان لوبان تتحدث عن آلام الطبقات الشعبية، تخبرهم بأن الأجانب أصل كل مشكلاتهم. لذلك فإننا نحتاج إلى خطاب آخر مضاد، يقوم على أساس المساواة”.
ثمة افتراض مشترك بين أبناء اليسار الشعبوي بأن الطبقة العاملة (البيضاء) تذهب وتصوت لليمين الراديكالي الشعبوي بسبب المؤرقات الاقتصادية أكثر من كون الدافع ثأرا ثقافيا. بالتالي، ما إن يوفر لهم اليسار بديلا اجتماعيا اقتصاديا أفضل، حتى يتضاءل اكتراثهم بالإسلام والمسلمين. لكن، ومثلما برهن السوسيولوجي السياسي الأميركي مارتن ليبست قبل أكثر من 60 عاما، هناك جانب أصلاني وسلطويّ في الطبقة العاملة. كما أن عقودا من الأبحاث العلمية أكدت لنا أن هؤلاء المصوتين الأصلانيين من أبناء الطبقة العاملة، شأنهم شأن المصوتين الآخرين الذين يدعمون اليمين الراديكالي الشعبوي، يحفّزهم أولا وقبل أي شيء آخر معارضة الهجرة (والإسلام). بكلمات أخرى، يحركهم الثأر الثقافي أكثر من المؤرق الاقتصادي.
مع أن “الليبراليين الشعبويين” من أمثال بلير وكلينتون قد يفهمون بواعث ناخبي اليمين الراديكالي الشعبوي بصورة أفضل من اليسار الشعبوي، فإن حلولهم المقترحة للمشكلة فاقمت من سوئها فحسب. حيث تُظهِر أبحاث أكاديمية باستمرار أنه عند اعتناق الأحزاب [اليسارية] سياسات اليمين في محاولة إيجاد حل مشترك لمسألة اليمين الراديكالي، فإن ذلك في الحقيقة لا يؤذي أحزاب اليمين الشعبوي، بل إنه عادة ما يعطيها دفعة للأمام. علاوة على ذلك، تُظهِر أبحاث أخرى أن هذا الاعتناق لسياسات اليمين لم يعالج النزف الانتخابي الذي تعانيه أحزاب الديمقراطية الاجتماعية أيضا.
وهذا منطقي جدا؛ فمن خلال تعيين الهجرة قضية ذات أولوية، وتعزيز التصوير السلبي للهجرة والمهاجرين، أعطت الأحزاب الكبرى دفعة معنوية لمسألة الهجرة وأحزاب اليمين الراديكالي الشعبوي. علاوة على ذلك، إن مصوتي اليمين الراديكالي ليسوا أصلانيين فحسب، فهم شعبويّون أيضا، وهو ما يفسر السبب وراء عدم فاعليّة نهج “واقعية الهجرة” الذي أتت به أحزاب الديمقراطية الاجتماعية. أي إنه حتى عندما يتطور الدعم الخطابي إلى سياسات اندماج أقوى وسياسات معادية للهجرة، فإن معظم المصوتين من (الطبقة العاملة) الذين يعارضون الهجرة ويعتقدون بأنها يجب أن تكون موضوعا بارزا يعتقدون أيضا أن أحزاب اليسار بشكل عام، وأحزاب الديمقراطية الاجتماعية تحديدا، لا تؤتمن على أصواتهم. أضف إلى ذلك أن هؤلاء المصوتين كانوا يعتبرون المنحى اليميني الذي سلكته أحزاب اليسار تأكيدا على أن التصويت لليمين الراديكالي الشعبوي هو الخيار الأكثر فعالية، بما أنه يضمن لهم قيام الأحزاب الأخرى حتى بتنفيذ سياساتهم.
لكي تستعيد أحزاب الديمقراطية الاجتماعية شعبيتها في القرن الحادي والعشرين، فلا بد لها في قالبَيها الاشتراكي والليبرالي أن تذهب إلى ما هو أبعد من الشعبوية، حيث أظهر النجاح المفاجئ الذي حققه كلٌّ من جيريمي كوربين في المملكة المتحدة وبيرني ساندرز في الولايات المتحدة وجود القابليّة لاستعادة الديمقراطية الاجتماعية.
لكن قبل استعادة الديمقراطية الاجتماعية وتحديثها بحيث تلائم القرن الحادي والعشرين، فلا بد لها أن تقرّ بالدور الخاص الذي لعبته في النموذج السياسي الذي يدافع عنه اليمين الراديكالي الشعبوي اليوم بشكل علني. فمع أن الديمقراطية الاجتماعية لم تدافع صراحة عن فوقية العِرق الأبيض، فإن نظامها السياسي ودولة الرفاه كانا يقومان على نظام اجتماعي يُفضّّل العمال البيض أبناء البلاد الأصلانيّين على “العمال الضيوف” من غير البِيض، كما أنها اعتنقت الإملاءات الأبوية التي تناصر حياة عائلية يهيمن عليها الذكور اقتصاديا. فرغم أن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، والاتحادات التجارية، سارعت إلى استمالة العمّال من خارج الجماعة البيضاء، فإنّها، جوهريا، لم تغير نموذجها الأساس.
تحتاج الديمقراطية الاجتماعية إلى تحقيق مُثُلها العليا بطريقة تشمل تحت مظلتها كل أبناء الطبقة العاملة؛ وهذا لن يتم دون العودة إلى النظرية بما هي أيديولوجيا مساواتيّة تقوم على التعاضد بين كل الأفراد والفئات الهشّة، بغض النظر عن الطبقة، العِرق، أو الميل الجنسي، عوض ممارسة الديمقراطية الاجتماعية على الطراز الأوروبي، حيث ستكون هناك نسبة متعاظمة من الإناث وأصحاب البشرة الملوّنة (أو الذين ينتمون إلى سلالة مهاجرة) الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة الآخذة في التقلص مع بداية القرن الحادي والعشرين، وفي كل أرجاء أوروبا الغربية.
علاوة على ذلك، وبمعايير اليوم، كان عامل المصنع التقليدي يتمتع بمكانة ممتازة نسبيا، حيث كان يعمل بوظيفة ذات راتب مجزٍ ودائمة. لكن في عالم العولمة النيوليبرالية، لم يتوقف الأمر عند ذهاب العديد من مناصب الطبقة العاملة التقليدية إلى بلدان أكثر فقرا، فقد زاد على ذلك استبدالُ مناصب هشة تفتقد إلى الحماية والأمن بهذه المناصب. ولعل أكبر تحدٍّ تواجهه الديمقراطية الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين يتمثّل في إيجاد طريقة لدمج أولئك “البريكاريين” [6] ضمن حركة أشمل تدافع عن العدالة الاقتصادية والاجتماعية. والقيام بذلك تحت عنوان “الطبقة العاملة” من عدمه يظل مسألة ثانوية. إن الأهم من هذه الأسماء هو أن تتمحور هويّة هذه الأحزاب حول المصلحة الاقتصادية الاجتماعية عوض أن تتمحور حول الهوية العرقية القومية.
من المهم التشديد على أن ما نواجهه في اللحظة الراهنة هو أزمة تخص أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، لا المُثُل العليا للديمقراطية الاجتماعية. قد يبدو من المضلل ادعاء هذا الأمر في وقت لا تتوقف فيه أحزاب الديمقراطية الاجتماعية عن خسارة الناخبين، لكن الديمقراطية الاجتماعية بخير. وللأمانة، إنني لا أستطيع تذكّر فترة أخرى من حياة النضج شهدت فيها هذا الكمّ من الجدال الحيوي بشأن مستقبل الديمقراطية الاجتماعية. وتوخيا للإنصاف، فلا بد من الاعتراف بأنَّ هذا الجدال يشتعل بشكل حصري، وهو أمر يدعو للسخرية، في الولايات المتحدة، وتحت الاسم الخاطئ “الاشتراكية الديمقراطية”، لكنه يتأجج، وهذا التأجج لم يعد حكرا على “الصالونات” التقدمية التقليدية المعتادة.
تحظى العديد من سياسات الديمقراطية الاجتماعية بدعم الغالبية السكانية في أوروبا وأميركا الشمالية، حيث تفيد دراسة حديثة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على سبيل المثال، أن غالبية السكان على امتداد 21 دولة من دول المنظمة يؤيدون فرض ضرائب أكبر على الأثرياء كطريقة لدعم الفقراء، وأن أكثر من نصف سكّان هذه الدول يشعرون بأنهم يريدون من حكومتهم أن تكفل لهم معاشات تقاعدية أفضل (54%)، في حين يتبنى نصف سكان هذه الدول تقريبا الرأي ذاته فيما يتعلق بالرعاية الصحية (48%)، بينما طالب أكثر من ثلث هؤلاء (37%) بأن يُكفل لهم ضمان دخل أساسي.
لكن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية تواصل فقدان أصوات الناخبين، بالتزامن مع تفكك دولة الرفاه، التي تعتبر التجلي المؤسساتي للعديد من سياساتها. ويرجع السبب في ذلك إلى كون سياسات فرض الضرائب على الأثرياء وتقوية دولة الرفاه متأصّلَيْن في أيديولوجيا الديمقراطية الاجتماعية، التي فقدت هيمنتها لصالح النيوليبرالية منذ ثمانينيات القرن الماضي. ليست النيوليبرالية مجرد نظام اقتصادي، إنها أيضا أيديولوجيا غيّرت الطريقة التي ينظر فيها الناس للسياسة. ولعلنا نكون محقين إذا ما جادلنا بأن النيوليبرالية قد نجحت بما هي مشروع أيديولوجي أكثر منها برنامج اقتصادي. فتحوّل المواطن الفطن إلى محض زبون جاهل، يعتبر القطاع العام بديلا ناقصا للقطاع الخاص، ويعتبر التنافس بين الشركات والأفراد أفضل نموذج للمجتمع المأمول.
وبالتالي، قبل أن يكون هناك أي عودة لأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، يجب على الديمقراطيين الاجتماعيين تحدي الافتراضات التي يقوم عليها المجتمع النيوليبرالي، وإعادة تأسيس أفكارهم الخاصة بشأن المساواة والتعاضد بوصفها المنطق المشترك الجديد. كما قال الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي قبل نحو قرن من الزمن، لا يمكن تحقيق النجاح السياسي دون تأسيس هيمنة ثقافية. إن أحزاب الديمقراطية الاجتماعية ستكون قادرة على استثمار سياساتها في الانتخابات فقط في حال دعم الناس القيم الكامنة في الديمقراطية الاجتماعية. علاوة على ذلك، دون دعم واسع للقيم الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية الاجتماعية، فحتى السياسات ذات الشعبية ستُهزم بسهولة.
سيتطلّب مشروع إعادة تأسيس الهيمنة الثقافية لأفكار الديمقراطية الاجتماعية حشد أفراد من خارج الأحزاب السياسية القائمة، بما فيها أحزاب الديمقراطية الاجتماعية نفسها، حيث تتم إدارة هذه الأحزاب في معظم البلدان، من قِبل أشخاص انضموا إليها في ذروة شعبية نهج الطريق الثالث، الذي يُعتبر خطأ ذروة الديمقراطية الاجتماعية “الحقّة”. كما أن الاستعادة الأيديولوجية يجب أن تتم بالتعاون مع أحزاب الخُضر و”اليسار الراديكالي” التي تمتلك مشاريع أيديولوجية متداخلة وإن كانت متباينة جوهريا، وأن تتم هذه العملية باستقلالية عنهم في الوقت نفسه.
إن استعادة الديمقراطية الاجتماعية سيتطلّب بنية تحتية ثقافية وسياسية جديدة، تتمركز خارج السياسات الانتخابية، ويجب أن تشمل الاتحادات التجارية، التي لا تزال تمتلك روابط أقوى بالطبقة العاملة، رغم قوتها المتآكلة. هذه البنية التحتية يجب أن تشمل أيضا منظمات تقدمية للأقليات، لا سيما تلك التي تُعنى بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية، ومنظمات أهلية تضرب جذورها بعمق في المجتمعات المحلية. بالمختصر، إنَّ ضخّ الحياة في الديمقراطية الاجتماعية سيتطلب حركة ديمقراطية اجتماعية جديدة، تكون لها قاعدة جماهيرية أكبر، وتتبع سياسات أكثر جرأة وحيوية عن تلك التي تتبعها الأحزاب الحالية.
هوامش:
1. الأصلانية (Nativism) هي قوميّة قائمة على رهاب الأجانب. فهي أيديولوجيا تريد تحقيق التماهي بين الدّولة والأمّة، أي تحقيق الوحدة السياسيّة والثقافيّة، وتريد دولة واحدة لكلّ أمّة وأمّة واحدة لكلّ دولة، وتنظرُ إلى غير الأصلانيين كافّة على أنّهم مصدرُ تهديد. لكن غير الأصلانيين ليسوا أناسا فحسب؛ بل قد يكونوا أفكارا أيضا.
2. حزام الصدأ (Rust-Built) هو مصطلح يُطلق على المنطقة المتداخلة العليا شمال شرق الولايات المتحدة، البحيرات الكبرى وولايات الغرب الأوسط، مشيرا إلى التدهور الاقتصادي، وعدد السكان، واضمحلال المناطق الحضرية بسبب تقلص قوة القطاع الصناعي الذي كان قويا سابقا. اكتسب المصطلح شعبية في الولايات المتحدة في فترة الثمانينيات.
3. الاقتصاد المختلط (Mixed-Economy) هو نظام اقتصادي يقوم بالجمع ما بين نمطين ونظامين اقتصاديين مختلفين هما الاقتصاد المخطط واقتصاد السوق. عادة يحتوي الاقتصاد المختلط على شركات مملوكة من قِبل أفراد ومن قِبل الحكومة.
4. عمال الياقات البيضاء والزرقاء (White/Blue Collar Workers) هو مصطلح غربي يُطلق على أولئك الناس الذين يقومون بعمل “ذهني” مكتبي مثل المديرين والمتخصصين، وهم بذلك يتميزون عن أصحاب الياقات الزرقاء (Blue-collar Workers) الذين يقومون بعمل يدوي ميداني كالعمال، كما يُطلق مصطلح آخر وهو أصحاب الياقات الوردية (pink-collar workers) للعمال الذين يعملون في أعمال خدمة الزبائن.
5. ديكوتومية (Dichotomy) هي انقسام مادة إلى قسمين، أو تصنيف مجموعة من القطع إلى صنفين دون تقاطع بينهما، أو بكلمات أخرى، هي تجزئة مجموعة إلى جزأين اثنين يكونان متنافيين: ما من شيء تابع للجزأين معا، وشاملين:كل شيء تابع لأحد الجزأين دون الآخر.
6. بريكاريا (Pricariat) مصطلح مستحدث لوصف طبقة من الناس يعيشون في وضع اقتصادي اجتماعي هش. يشير المصطلحُ أيضا إلى الشك وعدم اليقين وعدم الائتمان على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي وسط مجموعة متنامية داخل المجتمع على نحو من شأنه أن يقود إلى التطرف والشعبوية.
———————————————————————
ترجمة: فرح عصام.
هذا التقرير مترجم عن The Guardian ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.