يطالعنا النظام التركي بأشكال متجددة من البغي والعدوان مع كل تطور جديد، ولا أحد ينكر قدرة النظام على التسلل بين الخلافات العربية، للتموضع في مكان يأخذ فيه أكثر من مصالحه، ففي وقت ومكان يحتضن فيهما التنظيمات الإرهابية، وفي وقت آخر يعقد اتفاقيات اقتصادية وعسكرية، مع طرف أصبح بسلوكه في موضع الشك بوطنيته، من أجل أن يأخذ النظام التركي أكثر من حصته من غاز المتوسط التي حددها القانون الدولي.

فبعد العدوان وعسكرة علاقات بلاده في كل من سورية ولبنان والعراق وتونس وليبيا، فقد توهم أردوغان استرجاع ”أمجاد” السلطنة العثمانية البائدة معتمداً على إمكانية إحياء مشروعه ”الإخواني” المحتضر فقام رئيس النظام التركي بقرصنة جديدة تصل إلى الشواطئ الليبية بعد توقيع تقاسم حدود بحرية مع حكومة ”الوفاق” التي تقوم سلطتها على جزء محدود من ليبيا بما فيها طرابلس التي لم تستقر لحكمها بالأصل وتشهد موجات من القتال العنيف بين الحين والآخر.

فكيف يتم ذلك بهذه السرعة؟ وما الذي يريده أردوغان، وهل ما يفعله هو حالة من حالات الهروب التكتيكي بسبب عجزه الاستراتيجي في الداخل، وعدم مقدرته على مواجهة الأزمات المتراكمة يوما تلو الآخر داخل بلاده؟

فالتوترات تتصاعد في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​بسرعة بعد أن التقى مؤخراً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مسؤولاً ليبياً من حكومة الوفاق الوطني في أنقرة، حيث اتفق الطرفان على منطقة اقتصادية تخترق المياه اليونانية والقبرصية، وهو ما يشكّل انتهاكاً لقانون اتفاقية الأمم المتحدة للبحار. ففي السابق تحدّت تركيا القانون الدولي عبر غزو غير قانوني لشمال قبرص وسورية، أما الآن فقد فتحت مستنقعاً جديداً ربما لم يكن أردوغان يتوقعه. مع تدمير الناتو لليبيا في عام 2011، والذي شاركت فيه كل من اليونان وتركيا، كان البلد يعاني من أزمات داخلية، حيث خرجت قوتان رئيسيتان من الفوضى هما الجيش الشعبي الوطني المتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، والجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر.

إن الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الوطني غير مفاجئ، لأن تركيا لديها تاريخ طويل في دعم الإخوان المسلمين، ولهذا وجد ضالته في بعض مناطق القسم الغربي من ليبيا حيث الإخوان والقاعدة وداعش وبقية جماعات الإرهابية والتي لم تتوقف تركيا عن دعمها بالسلاح والتدريب، بل إن الطائرات المسيّرة بدون طيار التي ظهرت هناك كانت تركية الصنع، بالإضافة إلى سفن وقطع بحرية تم ضبط بعضها. ومؤخرا تمكنت قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر من تدمير غرفة للتحكم في الطائرات المسيرة التركية في طرابلس.

لقد انتهز أردوغان حالة النزاع الداخلي في ليبيا ووجود أكثر من حكومة، لا تمتلك أي منها المشروعية الكاملة الكفيلة بتوقيع اتفاقيات باسم الشعب الليبي، فتم توقيع اتفاق هو أقرب لعقود الأذعان، حيث يتم التخلي عن جزء من ثروات الوطن بما ينتهك السيادة الوطنية مقابل دعم عسكري موعود يبقي ليبيا في بؤرة النيران، بعد أن أصبحت حكومة الوفاق الوطني الآن معزولة منذ أن أن وعدت المملكة السعودية والإمارات المتحدة ومصر على دعم الجنرال حفتر بالأسلحة والمال، كما أن من أحد الأسباب الرئيسية لهذا الدعم الجديد لـ حفتر هو أن اليونان وقبرص ومصر في تحالف إقليمي استراتيجي لحماية مصالحهم الاقتصادية ضد العدوان التركي.

لقد تشكلت المحاور بخصوص غاز شرق المتوسط من طرفين، طرف تركي – ليبي حكومة ”الوفاق” برئاسة فائز السراج في سعيها للحصول على دعم خارجي، بعد تكشف ضعفها العسكري ومحدودية شرعيتها الشعبية، لسرقة غاز المتوسط وطرف مصري –قبرصي- يوناني- ليبي ”الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر، يحظى بدعم أوروبي يلتزم بالحصص المحددة بالقانون الدولي، ما يعني أن استعدادات الأطراف لخوض الحروب، من أجل الغاز، قد بدأت قبل استخراجه، فتركيا تزيد من قدراتها العسكرية، كما تفعل مصر، مع فارق أن سياسات تركيا تلقى إدانات من حلفاء لها في أوروبا، مع وضوح الصورة الغربية التي تؤازر قبرص واليونان في حقهما بغاز المتوسط.

وتشير بعض التسريبات حول تفاصيل هذه المذكرة إلى أن الطرفين حددا المناطق البحرية لكل منهما شرق البحر المتوسط، وأنه في حال وجود مصادر ثروات طبيعية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لأحد الطرفين، تمتد لمنطقة الطرف الآخر، يمكن للجانبين عقد اتفاقيات لاستغلال تلك المصادر بشكل مشترك. كما تضمنت المذكرة خرائط تحدد الجرف القاري، والمنطقة الاقتصادية الخالصة لكلا الطرفين في تجاهل لدول قائمة بين خطوط الترسيم. ومن قبل إعلان الدول الثلاث الفاعلة في شرق المتوسط وهي مصر واليونان وقبرص أن هذه المذكرة غير قانونية ومنعدمة الأثر فإن هناك شواهد تؤكد شكوك الطرفين الموقعين في جدوى هذا الترسيم، حيث تبدأ هذه الشواهد من وضعهما هذا الترسيم في صيغة مذكرة تفاهم وليس اتفاقية، وذلك على الرغم من التناول الإعلامي للموضوع الذي غفل عن الفرق بين الاثنين.

فمذكرات التفاهم لا تتطلب موافقة الهيئات التشريعية بعكس الاتفاقيات التي تتطلب ذلك ويترتب عليها آثار قانونية، كما أن من الشروط الواجب توافرها في الاتفاقية عدم تجاوز سلطة القانون أو عدم خرق أية قاعدة دولية متعارف عليها. ويبدو أن الطرفين وضعا ما اتفقا عليه على شكل مذكرة تفاهم تجنبا لعدد من العوامل التي تنسف هذا الاتفاق، حيث تبدأ هذه العوامل بأن الخرائط المسربة لمذكرة التفاهم تصطدم بحقوق دولية موثقة باتفاقيات ترسيم الحدود واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. كذلك فإنه وبحسب القانون الدولي فإن الاتفاقيات الدولية لا تصبح نافذة إلا إذا صادقت عليها برلمانات الدول الموقعة، وهو أمر يتنافى مع الحالة الليبية، حيث عبر البرلمان عن رفضه لتفاهمات السراج مع تركيا، ناهيك عن أن السراج ووفقا لاتفاق الصخيرات لا يملك التوقيع على الاتفاقيات منفردا؛ لأنه لا بد من توقيع الاتفاقيات الدولية بموافقة مجلس الوزراء الليبي مجتمعا.

لقد فجرت أطماع أردوغان صراعات كثيرة في المنطقة وهاهو يفجر صراعاً إقليمياً خطيراً في شرق المتوسط كان الرد الأول عليه طرد اليونان السفير الليبي كما أدى التوقيع على الاتفاق أيضاً إلى إثارة عاصفة من الرفض والسخط الشديدين شملت بالإضافة إلى اليونان قبرص ومصر وارتفع منسوب الغضب العارم لدى الاتحاد الأوروبي إلى أبعد الحدود وكاد يعصف بتوافقات وخطط حلف ”ناتو” في البلقان والمتوسط، وأدخل العلاقة بين ”ناتو” وتركيا ثاني أكبر دولة فيه لجهة عدد السكان والجيوش في أزمة بالغة التعقيد.

والأكيد أن ما يريده أردوغان يمضي في أكثر من اتجاه، فهو عبر الاتفاق العسكري مع السراج يجد منفذا لتسليح الإرهابيين بشكل رسمي، وينقل المعركة لوجستيا إلى الأراضي الليبية، من خلال وجود أقرب ما يكون لقاعدة تركية على الأراضي الليبية. وهناك أيضا بعد آخر يوضح بجلاء مقدار الضغائن التي تعتمل في عقل وقلب أردوغان تجاه مصر، إذ يعلم القاصي والداني أن مصر وقيادتها السياسية ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي قد سببت وتسبب له هواجس أفقدته اتزانه، وجعلته يحلم بانكسار مصر. ولم تتوقف المؤامرات التركية الخبيثة ضد “أرض الكنانة” من الجانب الغربي الليبي على حدودها، وقد تسربت بالفعل بعض العناصر الإرهابية في لحظات بعينها، وارتكبت أياديها الملوثة بالدماء أعمالا إرهابية بشعة راح ضحيتها مصريين أبرياء، غير أن صحوة الجيش المصري أبطلت جلها، وها هو أردوغان يسعى من جديد لإحياء تحالف عسكري هدفه الأول زعزعة استقرار البلاد والعباد في أرض السلام. ولا تتوقف محاولات أردوغان العدائية ضد مصر عند هذا الحد، فقد سعى من قبل لإيجاد أكثر من موطئ قدم في عمق القارة السمراء، وخير مثال على ذلك جزيرة سواكن السودانية التي خسرها بعد سقوط نظام عمر البشير.

ويسعى أردوغان جاهداً للاقتراب من البحر الأبيض المتوسط لإعاقة خطط التعاون المصري الأوروبي على صعيد اكتشافات الغاز في مياه المتوسط، بينما تتحول مصر إلى مركز إقليمي للطاقة في حوض البحر المتوسط من خلال الاكتشافات العديدة، والتي لن يكون آخرها حقل ”ظهر العملاق”. فالخرائط الجيولوجية و”المسح السيزيمي” لمصر برمتها من الدلتا إلى البحر الأحمر وصولا للمتوسط يبين أن مصر تسبح فوق أحواض غاز وبحيرات نفط غير مسبوقة، الأمر الذي تنبهت له دراسات وتقارير استخباراتية أميركية، خلصت إلى أن مصر بحلول العام 2022 ستصبح مركزا متقدما في استخراج الطاقة على الصعيد العالمي، ولهذا تحدّث البنية التحتية لمشروعات تسييل الغاز وتكرير البترول، وتتوسع في مشروعات الطاقة المتجددة، وتزيد إنتاج محطات الكهرباء من أجل الوفاء باحتياجات السوق المحلي بداية، وتاليا فتح قنوات التصدير لأوروبا.

ويخيل لأردوغان أنه قادر على ضرب الخرائط الدولية التي تنظم عمليات التنقيب عن الغاز عرض الحائط، وأن الاتفاقية مع السراج في شقها الاقتصادي كفيلة بأن تجد له موقع قدم في المنطقة، ولو في غير مياهه الإقليمية، ويفوته أن البحث عن الغاز والنفط يتطلب بداية التوقيع على الاتفاقية الدولية للبحار، وفهم أن الترسيم بين الدول المتشاطئة مسألة لها شرعتها الأممية، أما الحديث عن التنقيب في مياه يفصله عنها قبرص والجزر اليونانية، فهذا خارج كافة الإطارات الدولية ويعد بمثابة إعلان حرب.

الاكتشافات الضخمة لمكامن النفط والغاز، فتحت شهية الدول وخاصة الغربية ”أوروبا وأمريكا” الراغبة بالاستغناء عن الغاز الروسي على المدى الطويل، ما يعني أن حرب الغاز في المتوسط ستجذب أطرافاً دولية أخرى، وحتى روسيا قد تدخل على الخط للمحافظة على حصة مقبولة من الإنتاج العالمي، فملف غاز المتوسط وبسبب البلطجة التركية سيتدحرج أكثر فأكثر نحو التدويل.

لا يبدو أن أردوغان الذي استغل الأوضاع الليبية الصعبة قد اكتفى من سرقة أموال ليبيا ونفطها عبر حكومة السراج فامتدت أطماعه من خلال اتفاق القرصنة الجديد للسيطرة على حقوق ليبيا الغازية في المتوسط وما قد يمدد الجرف القاري لتركيا بنحو الثلث ما يتيح له المطالبة في احتياطيات النفط والغاز المكتشفة حديثاً في شرق المتوسط على حساب الحقوق الثابتة لكل من قبرص واليونان ومصر وحتى لبنان وسورية ولكن هذا الاتفاق غير الشرعي لن يعطي حقوقاً لنظام أردوغان وستفشل مقامرته الجديدة وتسقط أحلامه المريضة مرة أخرى. وواضح تماماً أن الاتفاق انتهاك سافر للقانون الدولي ويتعارض مع أبسط مبادئ قوانين البحار ولا يكتسب صفة قانونية باعتبار أنّ الطرف الليبي الذي وقعه لا يمثل ليبيا ولا أكثرية الشعب الليبي، والحكومة الحالية تعد بنظر أغلبية الشعب الليبي مغتصبةٌ للسلطة والثروة وقد بددتها وتبددها على إسناد قوى الإرهاب ”الإخوانية” في عدة دول، وتعمل تحت أوامر سلطة حركة ”الإخوان المسلمين” العالمية التي تجد خلافتها المهزومة وأوهامها المخربة في نظام أردوغان وسلطته المأزومة في تركيا.

 

 

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version