لم تقنع عبارة الإمام السيوطي (ت 911هـ): “ما زالت العلماء قديمًا وحديثًا يكتبون لأنفسهم تراجم” المفكر الغربي جورج ميتش (ت 1965م) صاحب كتاب ‘تاريخ السير الذاتية‘، ولا المستشرق فرانز روزنتال (ت 2003م) صاحب كتاب “السيرة الذاتيّة العربيّة”؛ بثراء التراث العربي بهذا الفنّ. فقد اتسم الكتابان بصيغة تبخيسيّة لهذا التراث لما استبطناه من فكرة أن الوعي بالذات وأدب البوح من سمات الفكر الغربيّ الحديث.

وقد حملت غلبة هذا المزاج التبجيلي للتفرّد الغربي والشعور بالذات لديهم المفكر الفرنسي جورج غوسدورف (ت 2000م) على أن يكتب في مقالة نشرها عام 1956 ووُصفت بأنها أساس دراسات السيرة الذاتية الحديثة: “يبدو أن السيرة الذاتية لم توجد خارج نطاق منطقتنا الثقافية، ولعل المرء يستطيع القول إنها تعبّر عن همٍّ خاص بالإنسان الغربي”.

وأمام هذا التعميم غير المبني على الاستقراء العميق؛ نقدم -في هذا المقال- قراءة لأقدم ثلاثِ سيرٍ ذاتيةٍ عربية وافية وصلتنا في مؤلفات مستقلة، إذا ما استثنينا كتاب ‘طوق الحمامة‘ لابن حزم (ت 456هـ) الذي هو أقرب إلى أدب الحُبّ منه إلى السيرة الذاتية. وتعدّ هذه السِّيَر من أعرق نصوص الاعتراف والأدب الذاتي في التراث العالمي.

وقد تعاصر أصحابها زمنيا في النصف الأخير من القرن الخامس الهجري، الذي شهد بداية الهجمات الصليبية على ممالك الإسلام غربا في الأندلس وشرقا في بلاد الشام. كما انتثر كتّابها على خريطة العالم الإسلامي؛ فعاش أولهم في أقصى الغرب الإسلامي بين الأندلس والمغرب، ووُلد الثاني ومات ببلاد فارس في الشرق الإسلامي، وقضى الثالث حياته الطويلة الحافلة في الشام متنقّلًا بينها وبين مصر والعراق.

ويوحي هذا التوزع الجغرافي بانتشار هذا النمط الكتابيّ لدى المسلمين واستفاضته بينهم، فقد كانوا يسمون المذكرات الشخصية “المتجددات” أو “المياومات” (= اليوميات). ثم إن تنوّع مشارب كتّاب هذه السِّيَر دليل على حضور هذا الفنّ بشكل خاص بين مختلف ألوان طيف النخبة المسلمة؛ فقد انتقينا لك: سيرة سياسية لحاكم مملكة، وترجمة فكرية لعالم دين، ومذكرات لحياة فارس حرب.

ومع هذا التوزع والتنوع بين الرجال الثلاثة؛ نلحظ أن من أبرز القواسم المشتركة بينهم -علاوةً على وحدة العصر- أنهم عانوا جميعا من خطوب عاصفة تراوحت أسبابها بين صراعات السياسة، وأزمات الفكر، وكروب الحرب؛ ثم إن كتبهم هذه أسست -بريادتها وتباين تجارب أصحابها- لتقليد ثقافي أصبح اليوم ظاهرة ثقافية راسخة في عالمنا، ألا وهي تقليد “الترجمة الذاتية” أو “المذكرات”.

منقذ الغزالي
دوّن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي (ت 505هـ) سيرته الذاتية ليقدم لطلاب العلم عصارة تجربته الفكريّة بكل تحولاتها، ولذلك كانت سيرته “أولَ كتاب في تاريخ الثقافة الإسلامية حول السيرة الفكرية”؛ حسب ما يرى الباحث السعودي زكي الميلاد في دراسة له بعنوان: ‘الفكر الإسلامي في العصر الوسيط من الغزالي إلى ابن تيمية‘.

كتب الغزالي سيرته الذاتية بناء على طلب ‘أخٍ في الدين‘ وفق تعبيره: “أما بعد: فقد سألتني أيها الأخ في الدين، أن أبثّ إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفِرَق مع تباين المسالك والطرقِ، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاستبصار”.

يحكي أبو حامد رحلة عقل شغوف بشتى حقول المعارف، ومنشوده الوحيد هو اليقين؛ وهذا هو المفتاح الذي متى أمسكتَه دخلتَ على الغزاليّ من بابه، فقد كَتب عنه كثيرون لكنهم لم يوّفقوا إلى فهم مطلوبه. ستجد الغزاليّ في سيرته يحكي لك عن تعطشه إلى “درك حقائق الأمور”، واختبار المناهج المتاحة في عصره لمقاربة تلك الحقائق، ثم ركونه إلى ما يجد فيه برد اليقين.

كان لدى الغزاليّ فضول علمي دائم؛ فهو يقول عن نفسه إنه: لا يغادر باطنياً إلا ويحب أن يطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً إلا ويريد أن يعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفياً إلا ويقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا ويحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبداً إلا ويترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا ويتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته. فهو يريد أن يسبر كل طريق، ويقف على كل مرتفع.

ويؤكد الغزالي أنه صرف في هذا الشغف بالحقيقة كلَّ عمره؛ إذ “كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزةً وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي”. ولذلك راح يفحص مصادر المعرفة؛ فبدأ بالحواس الخمس فوجدها مقصّرة، فالعين مثلا تبدي له القمر أصغر من الدرهم في يده، والتقصير في ذلك من العين لا القمر، ثم فحص الطرق العقليّة فبان له سؤال حيّره “حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين”.

ونحن نجد “حجة الإسلام” في سيرته هذه يتحرك لدرك الحقائق لا التشكيك فيها، إذ كان باعثه التحقق لا التحيّر، وقد اقتبس منه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (ت 1650م) حسب رواية حكاها لنا المؤرخ التونسي عثمان الكعاك (ت 1976م)، إذ قال إنه –خلال عمله في إدارة المكتبة الوطنية التونسية التي كان أول أمين عام لها (1956 -1965م)- استطاع أن يصل إلى مكتبة ديكارت فوجد فيها نسخة من كتاب ‘المنقذ من الضلال‘ مترجمة إلى اللغة اللاتينية، ورأى فيها خطوطًا بخط ديكارت علّم بها تحت أفكار للغزالي، وكتب بجانبها: “يُنقل هذا إلى منهجنا”؛ يعني كتابه ‘مقال في المنهج‘!!

بل إن ديكارت ربما استوحى فكرة تأليف كتابه هذا موضوعا ومضمونا من صنيع الغزالي، إذ هو أيضا –مثل ‘المنقذ من الضلال‘- سيرة ذاتية فلسفية لصاحبه. وكان زكي نجيب محمود (ت 1993م) أشار -في مبحث بعنوان: “أنا أريد إذن أنا إنسان” ضمن كتابه ‘رؤية إسلامية‘- إلى ما يفيد اعتقاده أن ديكارت تأثر بالغزالي في صياغة مقولته الفلسفية الشهيرة في الشك المنهجي: “أنا أشك إذن أنا موجود”!!
فحص منهجي
ثم أخذ الغزالي يفحص مناهج الباحثين فوجدها أربعة: منهج المتكلمين، ومنهج الباطنيّة، ومنهج الفلاسفة، ومنهج الصوفيّة. أما منهج المتكلمين فمبنيّ على الجدل والحجاج، ومتى قام المرء أمام من هو أقوى منه في عرض حجته تذبذب إيمانه ووقعت في نفسه الشكوك؛ وأما المنهجية الباطنيّة فلم ترُق للغزالي لأنها كانت تهمل العقل وتعتمد على النقل عن الإمام المعصوم.
أما منهج الفلاسفة فيقول بشأنه: “ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله، وتفهّمه وتزييف ما يُزيَّف منه؛ علمت أن ذلك أيضاً غير وافٍ بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات”.

ولم يبقَ له من المناهج التي أراد اختبارها سوى منهج أهل التصوّف الذي وجد فيه ضالته، وذلك أنه لا يهمل العقل كالباطنيّة، ولا يتوقف بالمعرفة عنده كالفلاسفة، ولا يحصل لدى الآخذ به تشكيك بالجدل، لأن فيه مبدأ الذوق والتجربة الروحيّة التي تسكن إليها النفس؛ فلندعه يحكي قصة اعتناقه لمذهب الصوفية:

“ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت همتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل…، وكان العلم أيسر علي من العمل؛ فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل: ‘قوت القلوب‘ لأبي طالب المكي (ت 386هـ)…، حتى اطلعت على كُنه مقاصدهم العلمية، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم.. لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكان قد حصل معي -من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفيْ العلوم الشرعية والعقلية- إيمانٌ يقينيٌّ بالله تعالى، وبالنبوة، وباليوم الآخر”.

ثم وجد الغزالي أن “وراء العقل طورًا آخر تفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأموراً أخر العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز، وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها، فكذلك بعض العقلاء أبوْا مدركات النبوة واستبعدوها، وذلك عين الجهل؛ إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه [العقل]، ولم يوجد في حقه فيظن أنه غير موجود في نفسه”. وبهذا المنهج نال الغزاليّ مطلبه وبلغ غايته، فألقى في رحاب التصوف عصاه واستقر به النوى.

مذكرات الأمير
كان الأمير عبد الله بن بُلُقِّين (أو بُلُكِّين) بن باديس الصنهاجي الحاكم الأخير لمملكة غرناطة التي أسسها -سنة 409هـ بالقرب من مدينة إلبيرة- فرعٌ منحدر من عائلة بني زيري البربرية الصنهاجية، وذلك قُبيل السقوط النهائي للخلافة الأموية بقرطبة؛ وقد حكم الأمير عبد الله غرناطة -حسب قوله- لمدة “نحوٍ من عشرين عاما” (465 -483هـ).

كتب الأمير سيرته بحس تاريخيّ عالٍ لتصحيح صورة دولته ومسيرته الشخصيّة، ولذلك كان عنوانها: ‘التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة‘؛ فقد رأى كيف تشكّل الأخبار التي يتناقلها الناس -برواية خصومه- المزاج العام، فتثوّرهم ضده وتحرّض عليه ابن عمه الصنهاجي سلطان دولة المرابطين المجاورة يوسف بن تاشفين (ت 500هـ). ولذلك قرر المبادرة بأن يكتب تاريخه بيده، إذ رأى أن من العجز أن يفقد -بعد ضياع ملكه- رواية سيرته وتصحيح صورته.

ترجم المؤرخ الأندلسي ابن الخطيب (ت 776هـ) -في كتابه ‘الإحاطة في تأريخ غرناطة‘- للأمير ابن بلقين؛ فقال إنه “كان جبانًا مغمد السيف قلقا…، يخلد إلى الراحات ويستوزر الأغمار”. وسنجد أن ابن بُلقين دفع عنه هذه التهم، وإن كان -عن غير قصد- أقرّ بوجود بعضها. وكما كان دافع ابن بلقين لكتاب سيرته حسّه التاريخي؛ فإنه خط سطورها بوعي سياسيّ متقدّم، فكانت أول قضية يثيرها في مذكراته -قبل الشروع في تسجيل أخبار دولتهم- مسألة الشرعية السياسية، متنبّهًا إلى أنّ الإنجاز وحده لا يكفي ما لم يبيّن شرعيّة حكمهم.

وفي ذلك يقول: “أوّل ما ينبغي تقديمه ذكر دخولنا الأندلس، وكيفية ولايتنا إياها.. فإنه متى أتينا على خبر يطيب ذكره في هذا التأليف [كان] للمعترض أن يقول: هذا أحسن لو كان على أصل يُحمد وعن ولاية تُرتضى”، ويقرر ما يصدّقه غالبا منطقُ التاريخ ولسان الواقع من أن “الثناء الحسن لا يقع على الدولة إلا في مدتها وأيام سعادتها، ولو كانت ظالمة؛ فلا يقع فيها الذمّ إلا بعد توليها، ولو كانت عادلة”.

ثم يشير إلى أنه بعد اعتلال الخلافة الأموية في الأندلس بداية القرن الخامس، وتفرّق قواد جيش المنصور ابن أبي عامر (ت 392هـ) واستقلال كل منهم بالمدينة التي كان يحكمها؛ قرر جدهم زاوي بن زيري العودة إلى المغرب، فاستبقاه أهل إلبيرة وأمّروه عليهم لأنهم “كانوا من أجبن الناس وأخوفهم على مدينتهم، لا يستطيعون قتال أحد ولو كان الذباب! إلا بمن يحميهم ويذبُّ عنهم”؛ حسب الأمير.

ويبدو لنا أن كتابته لهذه السيرة عمل محفوف بالمخاطر لانقلاب المزاج العام عليه، إذ كانت سياساته من أسباب قوة المدّ النصراني مقابل المسلمين في عهد ملوك الطوائف الذين كانوا في تناحر دائم، فهو محتاج أن يستجمع شجاعته ويقدّم شهادته في جوّ متوتّر “ولا خير في رامٍ رَعِشٍ، ولا متكلمٍ هائبٍ، فإن الهيبة فرع المخافة، والمخافة فرع الحذر، ومن حذر فقَد عقله، ومن خاف تكدر عيشه”!
تكوين مبكر
يطلعنا ابن بلقين على مسيرة نموّه السياسي ليثبت استحقاقه للحكم وتمام استعداده لتوفّر الخبرة لديه في سن مبكرة، وهو يرد بهذا على المنتقصين له لتوليه الحكم ولمّا يبلغ العشرين؛ فيُرجع سرّ نبوغه السياسي إلى نشأته في ‘المطبخ السياسي‘ لمملكة عائلته؛ فقد أخرجه جده من “المكتب” (= الكُتّاب) ليتدرب على الحكم بين يديه، وقال له: “معك من الكتابة وتلاوة القرآن ما يكفيك، وهذا أوْلى ما تتعلم؛ فعليك بإحضار ذهنك لجميع ما يكون مني وما ينقضي في دولتي أيام هذه الفتن، فإن الزمان أشرُّ والأيام أقصر من أن تُدرك تعلم كل شيء يُعنى به الملوك لأبنائهم”.

وبالإضافة إلى تلك النشأة المبكّرة في المطبخ السياسي؛ يشير الأمير إلى أن طبيعة الحكم تفرض على صاحبه نمطًا من التعليم الإجباري والخبرة: “ولعمري إن الوالي أكثر علمًا وأحسن عقلًا، فإن جميع عقول الناس تُعرض لديه، ويجرّب في موضعه ما لا يجربه غيره في تقلبه في البلاد، وإليه تُهدى الأخبار ويتخاصم الناس..، فيرى ويسمع كل يوم جديدًا لم يره أمس”.

ويخصص ابن بلقين صفحاتٍ ليطلعنا على جو الانقلابات المتتالية عليه (سبعة انقلابات على الأقل)، وتمكُّن اليهود من الوزارة وتغوّلهم على الأموال، وإعلان أخيه تميم انشقاقه عليه، وانقلاب بعض قادته العسكريين ووزرائه عليه، وتهديد ملك قشتالة المسيحي ألفونسو السادس (ت 502هـ) مرات لملكه ومصالحته إياه.

لقد كان الأمير في كل هذا يقف موقفًا سلبيًا ينقصه الحزم، ولكنه يعرض للقارئ وجهة نظره ودوافعه السياسيّة، فيجعل صلحه مع ألفونسو ودفعه “الجزية” إليه –وهو الملك المسيحي- ضرورةً لحفظ “مصلحة المسلمين”، أما ميله إلى العفو عن أخيه والمنقلبين عليه فيبرره بأنه أصلح للرعيّة: “فأعطيته العفو لمّا سأل ليكون ذلك قدوة لمن سأل منا العفو بعد الإساءة، فلا ييأس مَن فعلها”.

ويستمر الأمير عبد الله في مساره التبريريّ حتى يصل إلى قضيّة حساسة، وهي الاستبداد ونبذ الشورى، فيعرض نقدًا للخيار الديمقراطي مفضلًا عليه الاستبداد؛ فيقول في نص لا يخلو من الطرافة: “وكنا لا نقدّم شيئًا ولا نؤخره من هذه الأمور إلا بعد رويّة وفكرة في العاقبة، وندع مشورة الناس فإنا بلوْنا (= عرَفنا) منهم قلة التحقيق، والنطقَ على الهوى…؛ فلما بلونا من الناس هذه الشمائل، وأن كل أحد يجب أن تجري الأحكام على اختياره، رجعنا إلى إيثار اختيارنا إذ كان نظرنا لأنفسنا أرشد من نظر غيرنا”.

ويشرح لنا ابن بلقين إعراضه عن ذكر تفاصيل ما حصل لملوك الطوائف في فترته، فيؤكد أن منهجه هو ذكر مشاهداته وعدم الركون إلى ما تتداوله الناس لأن في ذكره ترويجًا له وقد يجانب الحقيقة. كما قدّم لنا وصفًا للروح الجماعية التضامنية التي سادت المسلمين بقيادة ابن تاشفين في معركة الزلّاقة سنة 479هـ “فكل يرغب في الجهاد، قد أعمل جهده ووطن على الموت نفسه”.

وهذه الروح الجهادية كان الأندلسيون افتقدوها عقودا منذ أن غلب ملوك الطوائف على البلاد بعد التفكك النهائي للدولة الأموية سنة 422هـ، ولكنها لم تلبث أن تبددت بعد الانتصار والشعور بزوال الخطر النصراني بقيادة ألفونسو، لتتجلّى بعدها روح الفرقة والتناحر والتحالف مع الأعداء في محاصرة ‘حصن لييط‘ قرب غرناطة سنة 481هـ.

نهاية حزينة
ولعل من لطيف السرد التاريخي لدى الأمير قراءةَ التاريخ بطريقة معكوسة؛ فقد جرى الأمر في كُتب التاريخ أن تكتب الشعوب تاريخها محمِّلةً مسؤولية الهزائم لحكامها، لكننا نجد الأمر هنا معكوسًا لدى الأمير، فهو يحمّل المسؤولية للشعب دون الحكّام. إنه يقول مثلا في حديثه عن حصارهم لحصن لييط: “ورأى سلاطين الأندلس عند ذلك من تحامُق رعاياهم وامتناعهم من [الـ]مغارم.. التي كانت عليهم، مع احتياجهم إلى الإنفاق؛ ما قُلق به وساء الظن من أجله”، ويضيف: “فلم يزد الرؤساء إلا توحشًا (= غمًّا) ولا الرعية إلا تسلّطًا”.

وحين جاء ابن تاشفين لتسلّم غرناطة وعزل الأمير عبد الله جزع جزعًا شديدًا وخاف من العاقبة، وسجّل اعترافًا يوافق ما ذكره مؤرخون من فزعه، وأضاف لنا معلومة جديدة وهي إصابته باكتئاب مزمن “لا سيما أن الجزع والسوداء متمكنة من نفسي وأجدها في طباعي”. ويصف ذهوله لخبر عزله فيقول: “فأذهلني ذلك عن كل ما لي فيه صلاحٌ…، بل كانت نفسي آكدَ عليّ”، ويبين أن سبب ذلك كونه “لم تجرِ عليه قبل ذلك محنة، ولا أكربه الدهر برزيّة، فجاءت [المصائب] جملةً”.

بيد أن هناك تهمة كان الأمير دائم التنصّل منها وهي العمالة للملوك المسيحيين؛ فقد ذكر أن ألفونسو عرض عليه أن يدافع عنه أمام هجوم ابن تاشفين، ولكنه اختار التخلي عن غرناطة قائلا: “إني لا أعين على مسلم أبدًا”، ثم أضاف: “لَأن يرثها المسلمون أولى وأجملُ عاقبة”!

وعبارته هذه تذكرنا بكلمة أمير إشبيلية المعتمد بن عباد (ت 488هـ) -التي رواها الذهبي (ت 748هـ) في ‘تاريخ الإسلام‘ نقلا عن المؤرخ والعالم الأندلسي أبي يحيى إليسع بن حزم الغافقي الجياني (ت 575هـ)- حين خوّفه مستشاروه من الاستنجاد بالمرابطين (تدخلهم الثاني سنة 481هـ)؛ فأجابهم: “رَعْيُ الجمال خير من رعي الخنازير”! لكنه في آخر أمره تحالف مع المسيحيين ضد المرابطين –في تدخلهم الثالث لإنقاذ الأندلس سنة 483- فكان ذلك ذريعة لهم للإطاحة بملكه.

يخصص الأمير عبد الله صفحات لوصف خروجه هو وعائلته من غرناطة، والإذلال الذي جرى عليهم من رجال ابن تاشفين، ومصادرة جميع أموالهم وتعرضه للتفتيش الشخصي هو ووالدته، ثم استجوابهم له ولوالدته عن المدخرات والودائع. أما هو فقد ألهاه الرعب عن ادخار الودائع، وأما أمه فإنها احتاطت ببعض التدبير، لكنه ما زال يرجوها أن تدلهم على ودائعها لينجوا بأنفسهم.

الوداع الأخير
كان وداعهم لغرناطة مشهدا دراميّا حزينا لملك مخلوع عن عرشه، ولا يُكتفى بذلك بل يُجرّد من كل شيء. حتى بلغ به الأمر إلى الحال التي يصفها بقوله: “وأحوجنا [ذلك] إلى بيع ثيابنا التي كانت لنا”! وهو مشهد يذكرنا بما تكرر ثانية بعد أربعة قرون (سنة 897هـ)، حين سلّم آخر ملوك الدولة النصرية أبو عبد الله الصغير (ت قرابة 937هـ) مفاتيحَ غرناطة –وكانت حينها آخر ممالك الأندلس- إلى ملكيْ إسبانيا المسيحييْن فرديناندو الثاني (ت 1516م) وأزبيلا الأولى (ت 1504م)!

كما كان لأم أبي عبد الله الصغير موقف مماثل لموقف أم الأمير ابن بلقين؛ فقالت كلماتها التي صاغها شعرا –قبل قرن من الآن- الأديبُ المصري محمود أفندي واصف، بقوله على لسانها:
ابْكِ -مثلَ النساء- مُلكا مُضاعا ** لم تحافظ عليه مثلَ الرجال!!

ولما فرغ ابن بلقين من سرد قصة صعود دولته وذهابها، أخذ يستعرض لنا طريقة سلوّه عنها بعد استقراره في ‘أغمات‘ (بلدة مغربية تبعد 32 كيلومترا جنوب شرق مراكش)، وما وجده هو وعائلته فيها من إكرام لدى ابن تاشفين أنساه معاملة موظفيه القاسية؛ فيقول: “وأمرنا أن نستوطن أغمات، فأتيناها ولقينا من أمير المسلمين كل جميل…، ووجدناه -بعد الله- أرفق بنا وأحسن مذهب فينا من الناس أجمعين”!

ويبدو أن أغمات هذه صارت حينها ‘منفى إجباريا‘ لبعض ملوك الأندلس المتساقطين في أيدي المرابطين، فإليها أيضا اقتيد المعتمد بن عباد وعائلته بعد استيلاء ابن تاشفين على مملكته ذات الصيت العريض في إشبيلية؛ إذ يقول ابن بلقين إن المعتمد “سيق معنا إلى أغمات”. وهكذا تتطابق محنة الأمير الصنهاجي مع محنة الأمير اللخمي: سببا وأسرا ومنفى ومصيرا.

وفي أغمات؛ أخذ الأمير ابن بلقين يسرد لنا اهتماماته الجديدة، بعد أن رأى أن “شغل البال بما مضى لا يردُّ شيئا غير الهم والكرب اللذين ينخلان الجسم ويُذهبان اللبّ”؛ ولذلك عاد إلى التعلّم بشغفٍ، واختار لنفسه علومًا هو بها مُغرَمٌ كالفلسفة والتنجيم والتطبيب، وأعلن توبته من الخمر التي كان معاقرًا لها، ووجّه وجهه نحو الآخرة قائلا: “لم يبق لنا من الآمال غير مالٍ حلال للمعاش يُغني عن السؤال، وعمل صالح للمعاد يُنجي من العقاب ويوجب الثواب”!

اعتبار أسامة
ونختم هذه السِّير الثلاث بالسيرة الأعجب والأعظم؛ وهي مذكرات الفارس العربي مؤيد الدولة أسامة بن مرشد ابن منقذ الكناني الشيزري (ت 584هـ)، التي أفادنا فيها بأنه وُلد “في يوم.. السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمانية وثمانين وأربعمئة”. ومذكراته هذه منجم للمعارف والثقافات، وكشّاف يضيء للباحث أجواء الحروب الصليبية ميدانا وزمانا، خاصة أنه عاصرها وشهد عليها قرابة قرن!

فقد نشأ فارسنا في بيت شهامة وشجاعة ودين، حيث تربى على يد والده مرشد الذي تنازل عن الإمارة لأخيه ليتفرّغ لنسخ المصاحف، فمات وبين يديه 43 نسخة من القرآن كتبها بيده التي أصابها سهم فقطع عصبها، لكنه ظل “يكتب خطًا مليحًا فما غيرت تلك الطعنة خطه، وكان لا ينسخ سوى القرآن…، وكتب ختمة بالذهب وكتب فيها علوم القرآن: قراءاته وغريبه..، وناسخه ومنسوخه، وتفسيره وسبب نزوله وفقهه، بالحبر والحمرة والزرقة، وترجمه (= عنْوَنَهُ) بـ‘التفسير الكبير‘”.

هذا عن الديانة؛ أما الشجاعة فحسبك بأبٍ يجعل اصطياد الحيّات والأسود من الأنشطة الترفيهيّة لأبنائه!! ويكفي للحكم بعَجَب هذا النمط من التربيّة والتحريض على اقتحام المهالك أن أسامة نفسه استغرب منه؛ إذ يحكي عن عدوّ دهمهم فلم يحضر هو إلا بعد انصرافهم، فلما جاء قال له أبوه: “اتبعهم بمن معك، وارموا أنفسكم عليهم؛ فعجبت من قوله: وارموا أنفسكم عليهم”!

ويبدو أن هذه الشجاعة والحميّة لم تكن حكرا على رجال هذه الأسرة العربيّة، بل كانت خُلُقا مركوزا حتى في طبائع نسائها؛ إذ يخبرنا أسامة بأن عمّته خاطبت ابن عم له فكّر مرة في الانهزام عن نساء أهله وتركهن في مواجهة العدو الصليبي حين اقتحم عليهن قصرهن؛ فقالت: “بئس ما تفعل! تخلّي بنات عمك وأهلك للحلّاجين وتروح؟ أيّ عيش يكون عيشك إذا افتُضحت في أهلك وانهزمت عنهم؟ اخرج قاتل عن أهلك حتى تُقتل بهم، فعل الله بك وفعل! ومنعته، وكان من الفرسان المعدودين بعد ذلك”.

ويمتدّ خُلق الشجاعة والإباء هذا فيتجاوز أهل بيت أسامة إلى خدمهم وحاشيتهم، ومن ذلك أن امرأة عجوزا شاركت في دفع الصليبيين عن قلعة شيزر التي ظلت معقل عائلته حتى أفناهم زلزال دمرها سنة 552هـ؛ يقول أسامة: “وتلثّمت في ذلك اليوم عجوزٌ من جواري جدّي الأمير أبي الحسن يقال لها ‘فنون‘، فأخذت سيفًا وخرجت إلى القتال، وما زالت كذلك حتى صعدنا وتكاثرنا عليهم”.

أما عن نهمه المعرفي ومحبته للعلم وتضلّعه فيه حتى ألّف عدة كتب بديعة؛ فيكفينا منه أن الذهبي ذكر –في ‘سير أعلام النبلاء‘- من تلامذته أئمة حفاظا مثل أبي سعد السمعاني (ت 562هـ) وابن عساكر (ت 571هـ) وعبد الغني المقدسي (ت 600هـ). كما أنه كان شاعرا مُجيدا وراوية للشعر، فإنه كان “يحفظ من شعر الجاهلية عشرة آلاف بيت”!! وفقا لما قاله تلميذه السمعاني ونقله عنه الذهبي؛ فكم يا ترى كان يحفظ لشعراء الإسلام؟!

كنوز مقرصنة
وفي هذا الصدد؛ يذكر أسامة أن كُبرى حزازات عمره المؤلمة إنما ألمّت به –رغم ما خاضه من خطوب وحروب- حين تعرضت مكتبته الثمينة لعملية سطو من الصليبيين الذين أعطوه الأمان لنقلها مع عائلته وأمواله من مصر الفاطمية -حيث أقام عشر سنين (549- 559هـ) خاض فيها مغامرات سياسية قاتلة- إلى الشام التي سيدور فيها بين قصور سلاطين الزنكيين والسلاجقة والأيوبيين. ثم غدر الصليبيون بأمانهم بمصادرتهم لأموال عائلته ولمكتبة، “فهوّن عليّ سلامةُ أولادي وأولاد أخي… ذهابَ ما ذهب من المال، إلا ما ذهب من الكتب فإنها كانت أربعة آلاف مجلّد من الكتب الفاخرة. فإن ذهابها حزازة في قلبي ما عشت”!!

تشغل فلسفة الشجاعة والطعان وأخبار الفروسيّة جزءًا كبيرا من مذكرات أسامة؛ فيحكي باستفاضة عن مشاهداته في أرض المعارك والتحام الصفوف في القتال وأنواع الطعنات فيه، وهو في كل ذلك حريص على حكاية ما رآه وخَبِرَه منذ أن خاض أول معركة في حياته يوم 5/5/513هـ، وكانت مع كتيبة من الصليبيين.

ولذلك حين عرض للطعنات التي تنفذ في الجسم ولا تقتل صاحبها شرح الطريقة المثلى للطعن بالرمح قائلا: “يجب على من وصل إلى الطعن أن يشد يده وذراعه على الرمح إلى جانبه، ويدع الفرَسَ يعمل ما يعمله في الطعنة، فإنه متى حرك يده بالرمح -أو مدها به- لم يكن لطعنته تأثير ولا نكاية”. ويذكر من الطعنات العجيبة تلك التي تنتظم رجلين فتخترقهما دفعة واحدة، ويروي أن أحد فرسانهم “طعن فارسًا منهم إلى جانبه فارس آخر -وهما يتبعان أصحابنا- فرمى الفارسين والفرسين”!!

غلب على أسامة مزاج عالم الأنثربولوجيا الذي يتابع المجتمعات البشريّة، ويدون ملاحظاته على عاداتها وثقافتها وتطور بعض العلوم لديها. ولذلك فإن سيرته وعاء جامع للباحثين في هذا الفن، فهو متنبّه مثلًا إلى تشابه الألوان في ملابس العرسان لدى العرب في الجاهلية والإسلام واتخاذهم اللون الأحمر لها.

كما يشير إلى مكانة الفارس لدى الإفرنج الصليبيين، وأنه اكتشف هذا المعنى بعد محادثة له مع أحد ملوكهم حين قال له: “يا فلان (= أسامة) بحق ديني لقد فرحتُ البارحة فرحًا عظيمًا، قلتُ: الله يُفرح الملك، بماذا فرحت؟ قال: قالوا لي: إنك فارس عظيم. وما كنتُ أعتقد أنك فارس”! ويقارن فروسيتهم بمكانة الفروسية عند المسلمين بإيراده قصة فارس صليبي واجه “أربعة فوارس منا… فحمل عليهم فهزمهم…، ودخل أولئك النفر إلى البلد فافتُضحوا واستخفهم الناس ولاموهم..، وقالوا: أربعة فوارس يهزمهم فارس واحد؟!”.

كما يلتقط لنا صورة لنظام القضاء عند الإفرنج تثبت عتاقة ما يُعرف اليوم بـ”نظام هيئة المحلَّفين” (JURY SYSTEM)؛ وهو نظام يتيح للشعب المشاركة في السلطة القضائية لضمان تطبيق العدالة واستقلالية القضاء. فهو يشير إلى قضية حضرها ورأى فيها مداولات لهيئة المحلفين؛ يقول: “فخرجوا من مجلسه واعتزلوا وتشاوروا حتى اتفق رأيهم كلهم على شيء واحد. وعادوا إلى مجلس الملك فقالوا: وقد حكمنا أن صاحب بانياس عليه غرامة ما أتلف من غنمهم؛ فأمره الملك بالغرامة…، وهذا الحُكم بعد أن يعقده الفُرسان ما يقدر الملك ولا أحد من مقدَّمي الإفرنج [على أن] يغيّره ولا ينقضه”.

توثيق منصف
ومن الملاحظات التي يسجلها أسامة عن الإفرنج أنهم شعوب مغلقة، فيروي عن امرأة إفرنجيّة يتزوجها أمير قلعة جعبر وهو مسلم، ويموت عنها الزوج ويصبح ابنها الأمير وهي الآمرة الناهية، ثم تهرب من القلعة بحبل وتمضي إلى مدينة سَروج وتتزوج بإفرنجيّ يعمل إسكافياً!

ويوثق بعض الممارسات التي تُعرف الآن في الغرب كإقامة مصارعات دامية بين الفرسان تنتهي بهلاك أحد المتصارعين. ويروي قصصا كثيرة يستدل بها على قلة اهتمامهم بأمور الشرف العائلي وستر العورات، فهم مثلا لا يأتزرون في الحمامات العامة. كما يلاحِظ “الاختلاف العظيم [بينهم وبين المسلمين]: ما فيهم الغيرة والنخوة وفيهم الشجاعة العظيمة، وما تكون الشجاعة إلا من النخوة والأنفة من سوء الأحدوثة”. ثم يروي نماذج من انتقال بعض سلوكيات المسلمين الاجتماعية إليهم جراء احتكاكهم بهم.

ونجد في ‘الاعتبار‘ شهادة مهمة لتطور الطب البشري والجراحة لدى المسلمين في عصر أسامة، وشبه بدائيتهما لدى الإفرنج الأوروبيين. فنراه ينقل لنا لونًا من الطب القديم والإسعافات الأولية في أرض المعركة تدل على تطور الطب لدى العرب، فقد حصلت في أيامه حوادث عولجت جراحيًا فبرئ المصابون بها، فعمُّه ‘عز الدولة‘ أصيب في إحدى المعارك بـ”طعنة طُعنها في جفن عينه السفلاني… فخاطها الجرائحي وداواها فعادت كحالها الأوّلية: لا تعرف العين المطعونة من الأخرى”!

وفي المقابل؛ ذكر طبيب مسيحي لأسامة أن الإفرنج طبّهم متخلّف، فقد زار أحد حصونهم ليعالج رجلًا أصيب بدُمّل في قدمه ورأى أن حالته قابلة للعلاج، فتدخل الطبيب الإفرنجي وأمر ببتر ساق المصاب فضُربت بالفأس ضربتين فهلك الرجل من حينه! وعُرضت على هذا الطبيب المسيحي حالة امرأة أخرى تشتكي من رأسها، وحين باشر علاجها تدخل الطبيب الإفرنجي نفسه وقال إنها تعاني من عشق جنيّ تلبّس بها، فسلخ جلد رأسها على هيئة صليب وحشاه ملحًا، فماتت متأثرة بهذا العلاج!

لكن أسامة –مدفوعا بروح الإنصاف التي سرت في كتابه كله- يذكر أن تبخيس الطبيب المسيحي لطب الإفرنج ليس دقيقًا، ويقدم شهادته المغايرة: “وقد شاهدتُ من طبّهم خِلاف ذلك”، ويحكي قصة فارس “من ألعن الإفرنج وأرجسهم التهبت رجله ولم يقدر على علاجه سوى طبيب إفرنجي”.

ومن طريف ما يورده أسامة في مذكراته حالة تطبيقية لما يسمى اليوم “القتل الرحيم” (Euthanasia) مارسها أحد القساوسة؛ كتم أنفاس مريض حتى مات، فلما سئل عن ذلك قال: “كان يتعذّب [فـ]ـسددت أنفه حتى يموت ويستريح”!! ويسجل أسامة كذلك سبقًا طبيًا لصعلوك من الصعاليك شق بطنه بنفسه باتساع شبر ليستفرغ ما فيه من ماء، وكان مصابا بـ”الاستسقاء” فبرئ. ولعله بهذا سبق للجراح الروسي ليونيد روغوزوف (ت 2000م) الذي أجرى لنفسه عملية الزائدة عام 1961.

رصد مدهش
ويدهشنا أسامة بملاحظاته لسلوكيات الحيوانات، وهو أمر يعكس ميولًا تحليلية لديه لكل ما يراه. واللافت في قصصه هو كثرة الأسود في بلاد الشام آنذاك؛ وقد جعلته ممارسته لصيدها عارفًا بطباعها، ملاحظا أن تفاوت الشجاعة فيها كتفاوتها في البشر. فها هو يقول: “قاتلت السباع في عدة مواقف لا أحصيها، وقتلت عدة منها ما شركني في قتلها أحد، [هذا] سوى ما شاركني فيه غيري، حتى خبرت منها وعرفت من قتالها ما لم يعرفه غيري”.

ويضيف شارحا لنا بعض طباعها غير المعروفة: “وشهدت من الأُسْد ما لم أكن لأظنه، ولا اعتقدتُ أن الأُسْد كالناس: فيها الشجاع وفيها الجبان”، ويضرب أمثلة على الأسود الجبانة بما شاهده من أسد نطحه خروف فهزمه، وآخر فرّ من كلب!! ثم يعرّف قارئه بطريقة اصطياد الأسود. ومن طرائف أخبار الحيوانات في سيرته ما حكاه عن نمر قـَتل فارسًا إفرنجيًا اسمه “السير (Sir) آدم”؛ فسماه الفلاحون ‘النمر المجاهد‘!

لقد كانت علاقة أسامة مع الإفرنج غريبة: يقتلهم في المعارك ويلعنهم في سيرته، ولكنه يلازم الإنصاف في سرد مناقبهم شجاعةً وفروسيّةً، بل ويذكر بإعجاب شجاعة الإفرنجيات! وقد كان له مع بعضهم صحبة ومودة، حتى إنه فكر في ‘ابتعاث‘ ولده ‘مرهف‘ –وكان عمره حينها أربع عشرة سنة- إلى بلاد الإفرنج لـ”يُبصر الفرسان ويتعلم العقل والفروسيّة”. كما يستوقف القارئ لسيرته زيارته للمسجد الأقصى وهو تحت الاحتلال الصليبي، ذاك الاحتلال الذي عايش أسامة -بعمره الطويل (96 عاما)- بدايته ونهايته!!

وفي نهاية هذه الجولة التاريخية الحافلة مع هؤلاء الأعلام وسيرهم الذاتية على تنوعها؛ يتضح لنا أن الدرس الغربي الأكاديمي فاته الالتفات إلى المادة الغزيرة في تراثنا العربي لفن السيرة الذاتية، باستثناء البحث الذي أعده أستاذ العربية بجامعة فرانكفورت المستشرق الألماني رودلف زلهايم (ت 2013م) بعنوان: “خواطر حول الترجمة الذاتية في العصور الإسلامية”.


وفي مطلع هذا العقد؛ أصدرت مجموعة دارسين من العرب وغيرهم -يعملون في جامعة كاليفورنيا- عام 2001 كتابا بعنوان: “interpreting the self: autobiography in the Arabic literary Tradition” (وقد ترجمته ‘دار كلمة‘ بعنوان: “ترجمة النفس”). يستقرئ الكتاب التراث العربي في حقل السير الذاتية، وقد رصد 140 سيرة ذاتيّة في هذا التراث، بدأت من القرن الثاني الهجري وانتهت بالقرن الرابع عشر الهجري.

وقبل ذلك بنحو عشرين سنة؛ نشر الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت 2008هـ) بحثا بعنوان: “العلماء الذين ترجموا لأنفسهم: السيرة الذاتية”، ضمنه قائمة بمن ترجموا لأنفسهم فناهزوا المئة، لكن ثلة قليلة منهم هي التي أفرَدت كتبا للترجمة لأنفسها. وتعدّ أول سيرة ذاتية -خُصصت بتألف مستقل وموّثق الذِّكر- تلك التي كتبها شيخ القراءات ابن مقسم العطار البغدادي (ت 354هـ)؛ فقد ذكر ياقوت الحموي (ت 626هـ) أن من مؤلفاته: “كتابُ أخبارِ نفسِه”! لكنه يعدّ ضمن تراثنا العريض الذي طواه الضياع!

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version