من جديد تتصدر أزمة اللاجئين السوريين إلى واجهة الأحداث، حيث حط تجار الحروب والعابثون بحقوق الإنسان رحالهم على مدينة جنيف السويسرية للمشاركة في المنتدى الذي نظم تحت عنوان “أزمة اللاجئين السوريين” على هامش مؤتمر اللاجئين العالمي. المنتدى الدولي الهدف منه حشد الدعم للاجئين السوريين وللدول التي تستضيفهم. والمفارقة الكبرى تكمن في أن الذين يعزفون على وتر الإنسانية ويذرفون دموع التماسيح على الأوضاع المزرية التي حلت بالشعب السوري وتحديدًا اللاجئين هم مخالب القط في هذه المأساة، فمن يعطل الحل السياسي ويدعم مقابله الإرهاب ويجند الإرهابيين والتكفيريين والمرتزقة ويجلبهم من أصقاع العالم ويفتح لهم مراكز تدريب، ويعقد لهم صفقات تسلح ضخمة، هم أولئك المتسببون فيما يحدث الآن من دمار وخراب هائل لسوريا، وهم المتلطخة أيديهم بدماء الشعب السوري الذي يسعون إلى إبادته ونفيه من وطنه، دافعين بأدوات إرهابهم لقتله واختطافه وتهجيره.
المتباكون الضالعون في الجريمة الإنسانية الكبرى هم أنفسهم من ساهموا في صنعها, هم أنفسهم من أرسل الموت إلى سورية، وهم أنفسهم مَنْ رسم مشروع الهجرة غير الإنسانية المراد لها أن تكون كذلك… هم أنفسهم من زيّن للناس الحياة في بلاد الغرب الاستعماري على أنها حياة وردية ليلقيهم فيما بعد على ضفاف الموت، والهدف هو تنفيذ المشروع التدميري ذاته الذي يعول عليه أصحاب مشاريع التقسيم لتحقيق أهدافهم وأجنداتهم، في محاولة للضغط على الدولة السورية وأبنائها، وخط مقاومتها الصلب. والسؤال المعروف للجميع كيف تمّ ذلك…؟ ولماذا…؟
إن إفراغ الدولة السورية من أبنائها، بحجة هروب الشباب من الحرب الدائرة في بلادهم، كان الهدف الأهمّ الذي عملت عليه دول المشروع التقسيمي، ولم ننسَ بعد كيف هيأت تركيا خيام اللجوء للسوريين قبل وجود المعطيات التي بنت عليها في نصب تلك الخيام، بخطوات تمهيدية مكشوفة، بدأت دول المشروع تبني عليها كلّ مبادراتها ومناقشاتها للوصول إلى قرار في مجلس الأمن، ما هو في الحقيقة إلا استكمال لما بنت عليه هذه الدول من أهداف استعمارية في المنطقة بعامة، وسورية بخاصة. فكم جرى التعويل على تلك الملفات الإنسانية معدومة الضمير، وواضحة الأهداف، خلال أكثر من ثمان سنوات، عاشتها سورية وهي تعاني من ألم الحرب، وفظاعة التنظيمات الإرهابية، وما قامت به من تنكيلٍ وذبحٍ وقتلٍ وتشريد قسري للأبرياء… مما لم يلفت نظر مدّعي الحضارة في المجتمع الدولي، في الوقت الذي كانوا يصبون فيه الزيت على النار بتسليح الإرهابيين وتمويلهم، وتمريرهم وتسهيل عمل تلك التنظيمات الإرهابية التي ترأسها ”داعش” على مختلف مسمّياتها في عمق الأراضي السورية والعراقية، ومن ثمّ يتباكون على مخلّفات المآسي الهادمة للبنية النفسية والحضارية والأثرية والإنسانية !
فماذا فعلوا أمام الآلاف المؤلّفة من الرسائل التي أرسلتها الدولة السورية إلى كلّ من مجلس الأمن والأمم المتحدة، وكذلك آلاف غيرها من الرسائل للمجتمع الدولي ومنظماته الدولية بأنواعها الموثّقة لما جرى، ويجري من إرهاب عالمي على الأرض السورية لم يعرف العالم له مثيلاً؟ وما الاستجابات والحلول التي قدمها الغرب نفسه الذي يتباكى اليوم على نزيف الهجرة المحفوف بالمخاطر والموت؟ ألم يرَ المجتمع الغربي مذابح ”داعش” بحق الأطفال الذين حرقوهم، وهتكوا أعراضهم، وقطّعوا أوصالهم، وجندّوا بعضهم لتعليمهم الذبح (الحلال) في حق أهلهم وإخوانهم وهجروهم قسرياً بسبب العنف الدموي الذي طال بلادهم وأهلهم؟
إن مأساة اللاجئين السوريين هي مأساة وطنية تؤرق كل سوري شريف، وتؤلمه، بحكم انتمائه الوطني أولاً والإنساني ثانياً، ولكن لكل مأساة أسبابها ونتائجها وحلولها أيضاً، ولعل الكل يعلم أن سورية كانت قبل الأحداث التي شهدتها، والإرهاب المنظم الذي اجتاحها، بلد الأمن والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فقد كانت نسبة النمو فيها تزيد على الخمسة والنصف بالمائة، وهي نسبة متقدّمة على مستوى دول العالم، في إطار مؤشرات التنمية التي تعدها مؤسسات دولية متخصصة، إضافة إلى نسبة البطالة في سورية فلم تكن تتعدى عام 2011 الثمانية والنصف بالمائة، وكذلك استيعاب السوق السورية ومؤسسات الدولة لخريجي الجامعات والمعاهد وأصحاب المهارات من الطاقات الشابة، إضافة لاستيعاب الجامعات والمعاهد كل حملة الشهادة الثانوية بفروعها المختلفة، ولاسيما بعد التوسع الحاصل في التعليم العالي، أفقياً وعمودياً، بعد عام ألفين، وهو سياق في سياسة انفتاح واسع جاءت ترجمة لنهج التطوير والتحديث الذي أطلقه سيادة الرئيس بشار الأسد.
إن لجوء السوريين أو نزوحهم داخل سورية أو خارجها يعود لأسباب يدركها الجميع، وترتبط بشكل أساسي بالحرب الإرهابية، التي تشن على الشعب السوري، بدعم وإسناد وتخطيط خارجي، يضاف إليها العقوبات الاقتصادية الظالمة وغير الشرعية التي فرضها الغرب الاستعماري على الشعب السوري منذ بداية الأحداث، وأتبعها بنهب منظم لثروات الشعب السوري، من بترول وغاز ومحاصيل زراعية ومعامل ومصانع عامة وخاصة، وتخريب ممنهج لبنية الدولة ومؤسساتها، وبالتحديد قطاعات الماء والكهرباء وخطوط النقل، ناهيك عن استهداف المدارس والمشافي والجامعات وغيرها من مرافق عامة، تؤدي خدمات تربوية وصحية وغيرها لكل المواطنين وكل ما هو مقيم على أراضي الجمهورية العربية السورية.
من هنا يبرز دور العامل الخارجي أساسياً في معاناة السوريين، والرغبة في استمرار العدوان على الشعب السوري، وإطالة أمد الأزمة بهدف استنزاف الدولة السورية مادياً وبشرياً، بعد الفشل في إسقاط نظامها السياسي الوطني، وعدم القدرة على فك ارتباط المواطن بمؤسساته المتماسكة، والملتف حول عناوينه الوطنية، على الرغم من كل أشكال الاستهداف الممنهج والمدروس في مطابخ الغرب الاستعماري وأدواته المحلية والإقليمية.
ومن مهازل القدر أن نرى جميع الذين اشتركوا في سفك الدم السوري وتدمير بنى الدولة السورية يذرفون دموع التماسيح على اللاجئين السوريين بل يمسحون دموعهم الكاذبة بيد ويستمرون في تصويب رصاص إرهابهم إلى صدور السوريين باليد الأخرى، وهم كمن يقتل القتيل ويمشي في جنازته، ومن المفارقات الصارخة أنهم بعد كل ما حصل من ويلات ومآس للسوريين لا زالوا يواصلون دعم التنظيمات الإرهابية لإكمال مخطط التدمير والقتل مع نكرانهم أنهم أصل البلاء، والمهزلة الأكبر أن ينضم رجب أردوغان إلى حفلة التباكي الكاذبة. ويعرف الجميع أن رئيس النظام التركي رجب أردوغان هو المتسبب الأساسي بقضية اللاجئين السوريين وهو الذي تلاعب بهذه الورقة في كل سياساته الداخلية والخارجية والاقتصادية، وبعد إفلاس مشروعه ضد سورية يعود اليوم للابتزاز بهذه الورقة من خلال التهديد بفتح الحُدود أمام اللاجئين السوريين لكيّ يتدفّقوا إلى أوروبا في حال لم تحصل بلاده على مُساعداتٍ كافيةٍ، ودعم أوروبي وأمريكي لإقامة ما يسمى ”منطقة آمنة” في شمال سورية.
ويبدو أن أردوغان لم يشبع من المتاجرة بعذابات اللاجئين السوريين وآلامهم ودماء أبنائهم التي سفكها طوال السنوات الثماني الماضية ولم يكتف بستة مليارات يورو قدمها له الاتحاد الأوروبي كمساعدات مالية لتخفيف أعباء اللاجئين فراح يزيد من مطالبه بالحصول على مبالغ مالية كبيرة بالإضافة إلى تقديم دعم أوروبي وأمريكي لإقامة ”المنطقة الآمنة” التي يحلم بها في الشمال السوري.
ولم يسلم السوريون الذين تاجر بهم هذا النظام وقبض المليارات جراء تسببه بنزوحهم ومأساة لجوئهم من التنكيل بهم والاعتداء عليهم بأبشع أنواع الاعتداء من قبل خلايا وعصابات الأحزاب والجماعات التركية اليمينية المتطرفة التي تنضوي تحت لواء حزب أردوغان حزب ”العدالة والتنمية” وبخاصة في مدينة اسطنبول. وهناك تعاون وثيق بين النظام التركي وواشنطن لعرقلة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وتمارس الإدارة الأمريكية أقصى الضغوط على جميع البلدان التي تؤوي اللاجئين لمنع عودتهم، كما تقوم بتحريض المنظمات الدولية وأجهزة الأمم المتحدة لتخويف من يقدم لهم المساعدات بأن الأوضاع الأمنية في سورية ”غير مستقرة” وتعمل وسائل الإعلام المشبوهة على الترويج لذلك وإطلاق فبركات واختلاق حوادث وتضخيمها وتشويه الواقع رغم ما حققه الجيش العربي السوري من تحرير معظم الأراضي السورية وبسط الأمن والأمان فيها.
ولكن أساليب أردوغان باتت مكشوفة ولن يخرج من لعبة الابتزاز الجديدة إلا خائباً ومخذولاً فأوروبا رفضت تقديم أي مساعدات إضافية ناهيك عن زيادة التوتر معها وحلمه في ”منطقة آمنة” لا يزال رهن الوعود الأمريكية المعسولة وغير قابل للحياة وسط تصميم سورية وحلفائها على إفشاله بكل الطرق والوسائل. وإزاء هذا الدور الذي تلعبه حكومة العدالة والتنمية فيما يتعلق بأزمة اللاجئين السوريين، حيث هناك من يتوهم أن بحار الإنسانية والقيم والمبادئ التي تفيض من قلب رجب طيب أردوغان ومسؤولي حكومته هي التي دفعته إلى إيواء السوريين الفارين من إرهاب التنظيمات المسلحة، فإن من الواجب لفت الانتباه إلى أن النشء السوري في تركيا يتم تعليمه اللغة التركية وإرضاعه الثقافة التركية والولاء والانتماء لتركيا، والعداء لوطنه سوريا من مدخل معاداة ‘النظام” السوري وتشويهه والتحريض ضده، وتصويره في أفهام النشء السوري بأنه ”نظام قمعي وديكتاتوري” وغيرها من الأوصاف… هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن من يقوى عوده ويشتد ساعده يتم تدريبه على السلاح والقتل والعنف وإعادته إلى وطنه سوريا من أجل القتل والتخريب والتدمير بعدما أرضع الحقد والكراهية لوطنه بكذبة معاداته ”النظام”.
إنّ الحكومة السورية والجيش العربي السوري، ورغم حملة التكالب والتآمر عليها وعلى الدولة السورية كلها، لم يتوقفا لحظة عن الوفاء بمسؤولياتهما تجاه الشعب السوري، ولا يزالان يناضلان في الميدان والسياسة من أجل الدفاع عن كرامة وشرف الشعب السوري وتأمين المأوى الآمن والغذاء والدواء والماء الصالح للشرب، ولم تتوانَ الدولة السورية عن إطلاق النداءات للاجئين المهجرين عنوة ومطالبتهم بالعودة إلى حضن الوطن السوري، حيث الكرامة والكبرياء والستر والصون من الابتزاز والابتذال والانتهاك… وهي دعوة ينبغي على اللاجئين السوريين أن يأخذوها بعين الاعتبار والثقة؛ فالمناطق السورية غدت هادئة إلا بعضها وهي مناطق معروفة، ولو كان معشر المتآمرين صادقين فيما يقولون ويفعلون لما لجأوا إلى عملية التهجير أساساً، ولوفروا ملاذات آمنة للاجئين، مع مظاهر العيش الكريم والحياة المستقرة المطمئنة الخالية من الابتزاز والانتهاك، وامتنعوا عن شحنهم بالكراهيات ضد وطنهم سوريا، وتجنيد الشباب والأطفال للقيام بالأعمال الإرهابية، بدلًا من تعليمهم، مع أنه حتى ما يروج عن تعليمهم، يتم فيه غرس قيم ومبادئ وولاءات لغير الوطن السوري.
وأخيراً يمكن القول: إن أزمة اللاجئين السوريين التي تضج بها الدنيا هذه الأيام عرت الأطراف العربية والغربية المشاركة في دعم الإرهاب، وأسقطت كل الأقنعة عن الوجوه المتآمرة على سورية. ولذلك، ليس أمام كل القوى التي تآمرت على الشعب السوري وعمدت إلى تهجيره قسراً سوى أن تراجع سياساتها الكارثية، وتتخلى عن دعم الإرهاب وتتوقف عن تمرير الإرهابيين، وتسند الجهود لدى الجانب الآخر الساعي إلى الحل السياسي في سوريا. وعلى أوروبا ـ إن أرادت التخلص من تبعات أزمة اللاجئين وتداركها ـ أن تبني سياسات مستقلة وتتخلى عن تبعيتها الدائمة للسياسة الصهيو ـ أميركية التي لا يحمل كوارثها ونتائجها المأساوية دوماً غير أوروبا ومن يتبع النهج ذاته.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.