من الكونغرس إلى الشرق الأوسط إلى منصات التواصل الاجتماعي حول العالم، والتكهنات باحتمال نشوب حرب واسعة طرفاها الولايات المتحدة وإيران، لكن المشاركين فيها ربما يحولونها إلى حرب أوسع وأشمل، صحيح أن الحرب ربما تكون اندلعت بالفعل مع مقتل سليماني، لكن ما احتمالات انفجارها في صورة حرب عالمية ثالثة؟
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «هل هناك خطر لاندلاع حرب أكبر بين أمريكا وإيران؟»، ناقش سيناريوهات الموقف بعد قتل سليماني.
هل سيؤدي لحرب بينهما؟
في الساعات التالية للضربة الجوية الأمريكية في العراق، التي أسفرت عن مقتل أهم القادة العسكريين الإيرانيين، اللواء قاسم سليماني، هيمن سؤالٌ بعينه على النقاشات الجارية في الشرق الأوسط، وفي الكونغرس، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. هل سيؤدي هذا إلى حربٍ بين الولايات المتحدة وإيران؟
من زاويةٍ ما، فقد حدث ذلك بالفعل، إذ إن مقتل سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني -وهي وحدة خاصة للأمن والاستخبارات- يساوي تقريباً أي تعريف لكلمة «عمل حربي»، وهو مختلف تماماً عن الصراعات الباطنية التي خاضتها الولايات المتحدة وإيران منذ سنين. ومن وجهة نظر الإيرانيين، فهو أمرٌ مناظرٌ لأن تأمر طهران بقتل قائد هيئة الأركان المشتركة الأمريكية.
لكن ما زال الغموض يحيط بما سيفضي إليه هذا الهجوم، الذي يأتي بعد أسابيع من المناوشات التصعيدية بين الدولتين، وما يلي هو دليلٌ لمخاطر الانخراط في صراعٍ أكبر بين الولايات المتحدة وإيران، وما دور مقتل سليماني في تلك المخاطر، وما قد يحمله المستقبل.
هل يزيد هذا من خطر نشوب صراع؟
يقول معظم المحلِّلين إن قتل سليماني سيُرغم إيران قطعاً على الثأر، وليس هذا بدافعٍ من الفخر القومي أو حفظ ماء الوجه، بل بسبب الحافز الأساسي لأي دولة: حفظ الذات، مما يشمل حفظ كبار قادتها.
إن قتل أحد أولئك القادة لَهو أقوى من صفعةٍ في الجبين أو إهانةٍ للإمكانيات العسكرية لإيران؛ بل هو تهديدٌ لكفاءة الدولة نفسها. ستشعر إيران بالاضطرار إلى الثأر، ولو كان لإثبات أن قتل قادتها ستنتج عنه هجماتٌ مضادةٌ ضاريةٌ بما يكفي لردع الولايات المتحدة عن تكرار فعلٍ كهذا مستقبلاً. لكن من الصعب التنبؤ بمدى حدَّة ذلك الثأر، مما يخيِّم بظلال الشك على المنطقة.
أمام إيران مهمة بالغة التعقيد، فمن المرجَّح أنها ستلجأ إلى الهجماتٍ المضادةً لتُحدث ضرراً كافياً لإقناع الولايات المتحدة بأن قتل سليماني لم يكن جديراً بعواقبه -وهو هدف بعيد المنال بالنظر إلى مكانة سليماني والتفوُّق الواضح للقوة العسكرية الأمريكية- لكن ليس ضرراً يكفي لبدء صراعٍ شاملٍ.
وفي حال نجاح إيران، فقد تكون العواقب وخيمةً على الولايات المتحدة وحلفائها، لكن ربما لا تُسفر عن إشعال فتيل حربٍ ضروسٍ، لكن لا سبيل للتيقُّن من الأفعال التي قد تصيب كلا الهدفين. وقد تؤدي الأخطاء التقديرية إلى خروج الأمور عن السيطرة.
يوحي الشهر الماضي بأنّ كلّاً من الولايات المتحدة وإيران قد فشلتا بالفعل في ضبط معيار هجماتهما المضادة، فكل دورةٍ من المناوشات التصعيدية قد أدَّت إلى استفزاز كلا الجانبين، بدلاً من إرغام أحدِهما الآخرَ على التراجع، مما ينتج عنه جولة أخرى أشد تكلفةً من سابقتها.
على نحوٍ ما، فَقَد كلا الطرفين السيطرة، فلا الولايات المتحدة كانت ترغب في اجتياح سفارتها ببغداد، ولا إيران أرادت أن يُقتل قائد فيلق القدس التابع لها.
هل التصعيد لا مفر منه؟
هناك ديناميكية أخرى تُصعِّب من السيطرة على هذه الجولة من المناوشات: النوايا الأمريكية كانت غير واضحةٍ في بعض الأحيان. إذ وصفت البيانات الرسمية أهدافاً محدودةً، مثل ردع الهجمات الإيرانية، لكن ذكر كبار المسؤولين أيضاً أهدافاً أكثر اجتياحاً مثل إجلاء إيران من المنطقة أو حتى إسقاط حكومتها.
هذا الغموض، بجانب القوة العسكرية الأمريكية الطاغية، يمارسان ضغطاً على القادة الإيرانيين للتخطيط لأسوأ الاحتمالات. ويصعِّبان من معرفتهم بالتوقيت المناسب للتراجع الآمن.
في وجه التهديدات لوجودها، يكون أمام أي دولةٍ خيارٌ من اثنين: إما التراجع والتفاوض، وإما توجيه ضربةٍ لمصدر ذلك التهديد قويةٍ بما يكفي لإرغامه على التراجع.
عند آخر مفترق طرقٍ في عام 2015، اختارت إيران عقد اتفاقٍ حين تخلَّت عن الكتلة الأساسية لبرنامجها النووي، وسمحت بجولات تفتيش سافرة من أجل التخفيف من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بقيادة أمريكا، لكن الولايات المتحدة كانت قد سهَّلت من ذلك عن طريق السعي إلى توضيح أن إيران لن تعرِّض نفسها لأي تهديداتٍ لوجودها عن طريق تحجيم برنامجها النووي. وبعد شهورٍ من المباحثات، شعر القادة الإيرانيون بالثقة في أن شروط الاتفاق كانت في مصلحتهم، وأنها تحظى بدعمٍ دوليٍّ واسعٍ.
لكن مَيل الرئيس ترامب نحو التغيير المفاجئ للسياسات، بازدرائه الدعم الدولي وانسحابه من الاتفاقات، بما في ذلك الاتفاق النووي الإيراني نفسه، قد يغيِّر من حسابات إيران. وقد ترى الدولة المراهنة بالثأر هي الخيار الأضمن.
كيف قد يبدو التصعيد؟
إيران قوة إقليمية ذات إمكانيات عسكرية يفوق تطورها بكثيرٍ أية دولةٍ خاضت الولايات المتحدة حرباً معها منذ الحرب العالمية الثانية. وهي بعيدة كل البعد عن عراق صدام حسين المتداعي أو جيوش شمال فيتنام غير النظامية. وقد استثمرت سنواتٍ من الاستعداد للصمود في وجه أي حربٍ محتملةٍ.
من المتوقع أن تكون تصعيدات إيران غير متكافئة، مما يعني الاستعانة بالوكلاء أو الجماعات المسلحة الصغيرة لاستهداف قوَّات أمريكا أو حلفائها أو مصالحها الاقتصادية. وقد أبدت إيران كذلك استعداداً لاستهداف المدنيين.
ولم يلقَ خصوم أمريكا نجاحاً في استخدام الهجمات غير المتكافئة لإجبار واشنطن على التراجع، كما لم تنجح الولايات المتحدة قط في إيجاد استراتيجية مضمونة لردع الهجمات غير المتكافئة.
قد يكون الخطر الأعظم هو أن تبلغ حرب إيران غير المتكافئة نقطةً تُجبر الولايات المتحدة على مهاجمة إيران بصورة مباشرة. ويخشى محلِّلون أن يؤدي هذا إلى اندلاع حربٍ مباشرةٍ مستدامةٍ، لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين مدى سهولة حدوث ذلك.
ليس من السهل على إيران الفوز بحربٍ مباشرةٍ مع الولايات المتحدة، لكن يتوقَّع محلِّلون أن قواها التقليدية ستجعل أي حربٍ أرضيةٍ مكلفةً وطويلةً وشاقةً. علاوةً على امتلاك إيران كمّاً كبيراً من الصواريخ متوسطة المدى القادرة على إصابة قواعد أمريكا أو حلفائها في أنحاء الشرق الأوسط.
هل سيتسع نطاق الصراع؟
قد تستدعي إيران وكلاءها من الميليشيات في لبنان واليمن والعراق وسوريا، لكن لا توجد حكومة تستحسن المشاركة في حرب متكاملة. ومن المستبعَد أن يشترك أي من حلفاء أمريكا في المنطقة -إسرائيل ودول الخليج مثل السعودية- ما لم تستدرجهم هجمات إيرانية.
يزداد الضغط على العراق للاختيار بين الولايات المتحدة وإيران. وفي حال إجلاء القوات الأمريكية، ستخسر واشنطن نقطة نفوذٍ كبيرةً في العراق، الأمر الذي سيمنح إيران على الأرجح نفوذاً أوسع داخل الدولة.
مع أنه من المحال استبعاد الانجراف غير المقصود نحو الحرب، فإن مخاوف نشوب حرب عالمية ثالثة -العبارة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بين عشية وضحاها- مبالغٌ فيها. قد تعترض روسيا والصين بشدةٍ على الهجمات الأمريكية، لكن احتمال مشاركتهما في القتال ليس أكبر ممَّا كان عند احتلال الولايات المتحدة للعراق أو مساعدتها في إطاحة الحكومة الليبية.
هل أي من الجانبين مستعد لما هو قادم؟
مفاجأة هذا التصعيد تصعِّب من معرفة مدى استعداد إدارة ترامب وتخطيطها للعواقب المحتملة.
العلامات الأولى توحي بأن التهوُّر المعروف عن ترامب ربما يكون قد لعب دوراً. فمن غير الواضح إن كان الحلفاء الأوروبيون قد أُخطروا بتنفيذ الهجوم قبل حدوثه. وحتى القادة الإسرائيليون بدوا متخبِّطين في استجابتهم.
استعداد إيران لاتخاذ إجراءاتٍ خطيرةٍ -ربما بدافع رؤية أن حجم التهديد الأمريكي لن يدع لها خياراً آخر- يزيد من الخطر تجاه جميع الأطراف.
وليست أعظم المخاطر سياسيةً فقط. قد يسهل على الأمريكان نسيان أن إيران ليست مجرد خصم، بل أنها كذلك موطنٌ لـ80 مليون مدني يعاني الكثير منهم في ظل العقوبات الاقتصادية. وسيكون هناك خطرٌ كذلك على ملايين آخرين في أنحاء الشرق الأوسط، حيث من المرجَّح أن تنشب صراعات بالوكالة. الأرجح أن تسقط غالبية الأعباء الناجمة عن أي صراعٍ على تلك الأسر العادية، كما يحدث دائماً.