أصبحت قضية التغيرات المناخية والآثار المرتبة عليها هي الشغل الشاغل للعديد من وسائل الإعلام ومراكز الفكر والحكومات ومنظمات المجتمع المدني خلال الفترة الماضية. وجاء هذا الاهتمام المتصاعد تزامنًا مع انعقاد قمة الأمم المتحدة للعمل من أجل المناخ لعام 2019 في 23 سبتمبر بنيويورك، والتي جاءت في ظل تظاهرات حاشدة في مختلف أنحاء العالم للمطالبة بإجراءات عاجلة لحماية المناخ، حيث تنعقد القمة قبل الموعد النهائي الذي تم وضعه للموقّعين على اتفاقية باريس لتعزيز التزاماتهم الوطنية بتقليص انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 45% بحلول عام 2020، وانعدام الانبعاثات نهائيًّا بحلول عام 2050.

هناك الكثير من الدراسات للآثار الاقتصادية والاجتماعية للتغير المناخي، وأضيف إليها مؤخرًا الاهتمام بدراسة انعكاسات التغيرات المناخية على الأمن العالمي، ومدى مساهمتها في خلق وتأجيج بؤر للصراع بما في ذلك تنامي خطر الإرهاب، حتى إن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وعددًا متزايدًا من الدول يذهبون إلى تصنيف تغير المناخ على أنه تهديد للأمن العالمي والوطني.

تختلف الرؤى والأفكار حول العلاقة بين التغيرات المناخية وتنامي الإرهاب والصراعات، ولكنها لا تنفي وجود علاقة قوية بينهما، بل إن معظمها يتفق على أن تغير المناخ يُضاعف التهديدات، أي إن التغيرات المناخية عندما تتلاقى مع المخاطر والضغوط الأخرى الموجودة في سياق معين يمكن أن تزيد من احتمالات الفوضى أو الصراعات، حيث إن التأثير السلبي للتغيرات المناخية يتصاعد ويبدو أكثر وضوحًا في حال توافر عوامل أخرى مساعدة، مثل: الفقر، والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية. ولقد أصبح عدد متزايد من الزعماء الدوليين يقرون بمخاطر التغير المناخي، الذي وصفه كبير المستشارين العلميين في المملكة المتحدة “ديفيد كينغ” بأنه “مشكلة أكثر خطورة حتى من تهديد الإرهاب”.

هناك عوامل رئيسية تُحدد العلاقة بين التغيرات المناخية والتهديدات الأمنية، من بينها: العنف والصراعات الداخلية، وخلق بيئات حاضنة للإرهاب، وكذلك تزايد مخاطر النزاعات المسلحة.

بحيرة تشاد وجماعة “بوكو حرام”

يرتبط تأثير التغير المناخي على الموارد الطبيعية بالضغوط الديموجرافية والاقتصادية والسياسية التي تساهم في ضعف قدرة الدول على تلبية احتياجات مواطنيها من الموارد الأساسية، مثل الغذاء والمياه والطاقة وغيرها، وهو ما يؤدي -بدوره- إلى هشاشة الدول وتصاعد الصراعات الداخلية التي قد تتسبب في انهيارها، وكذلك زيادة خطر الجماعات الإرهابية والعصابات المسلحة. وقد بيّنت الدراسات أن إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا هي الأكثر عرضةً للمخاطر الأمنية الناتجة عن التغير المناخي، بسبب الهشاشة المميزة لكثير من الدول في هذه الأقاليم. فمن بين الدول العشرين الأعلى تصنيفًا في “مؤشر الدول الهشة” هناك اثنتا عشرة دولة من دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا. ويشمل مؤشر الدول الهشة 178 دولة، ويعرف الدول الهشة بأنها الدول ذات القدرة المتدنية على إتمام وظائف إدارة الحكم، والتي تُعاني من أزمات داخلية وخارجية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتفشي الفساد السياسي والمالي في أنظمتها. وعلى الرغم من اختلاف ظروف الدول الهشة داخليًّا، إلا أنها جميعًا تشترك في تفشي متلازمة الفقر والبطالة والفساد وانعدام الأمن. ويشمل انعدام الأمن هنا المخاطر الأمنية المترتبة على بعض ظواهر التغيرات المناخية.

ففي إفريقيا تتشابك العلاقة بين الإرهاب والتغير المناخي في منطقة بحيرة “تشاد” بشكل كبير؛ فكلاهما عامل مسبب للآخر، حيث تقلصت مساحة البحيرة بنحو 90%، ومن المتوقع أن تختفي البحيرة تمامًا نتيجة عوامل الجفاف والتصحر الناجم عن التغير المناخي، وكذلك الزيادة السكانية والاحتياجات الناتجة عنها، الأمر الذي يعرض حياة 30 مليون شخص للخطر الشديد، بسبب تعرضهم للإجهاد المائي وانعدام الأمن الغذائي نتيجة تدمير الحياة الاقتصادية بتلك المناطق.

وقد نشأت التنظيمات الإرهابية في محيط بحيرة تشاد (بوكو حرام مثالًا) نتيجة الفقر الشديد الناجم عن التغيرات المناخية التي أدت إلى جفاف معظم البحيرة التي كان يقتات منها ملايين البشر في دول عدة: نيجيريا وتشاد والكاميرون، الأمر الذي ساعد على تنامي نشاط جماعة بوكو حرام، التي حلّت محل الدولة الرسمية في توفير احتياجات المواطنين من الغذاء وفرص العمل وغيرها، وبالتالي تنامت فرص تنظيم متطرف مثل بوكو حرام في الصعود منذ عام 2009 وإلى اليوم. كما أننا نجد آثارًا أخرى أكثر خطورة بسبب توطن التنظيم في محيط البحيرة، حيث أصبح حائلًا دون اتخاذ إجراءات حكومية ودولية من شأنها الحد من أثر التغيرات المناخية التي تصيب المنطقة، بل إن التنظيم الإرهابي لجأ إلى تسميم مصادر المياه، مثل الآبار والجداول، في المناطق غير الخاضعة لسيطرته، مما ضاعف من معاناة السكان.

وقد أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع القرار رقم 2349 في نهاية مارس 2017، ليدين الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان في حوض بحيرة تشاد. وأقر المجلس بدور تغير المناخ في تفاقم انعدام الأمن البشري، خاصة انعدام الأمن الغذائي، وتدهور سبل المعيشة التي ترتبط بنزاعات معقدة من بينها الآثار السلبية لتغير المناخ والتغيرات البيئية على استقرار المنطقة”.

منطقة القرن الإفريقي

غالبًا ما تؤدي تأثيرات الاحترار العالمي إلى تغييرات جيوسياسية تبدو تأثيراتها بوضوح في حال حدوثها بالمناطق الهشة، مثل القرن الإفريقي على سبيل المثال. فوفقًا لما تم طرحه من تأثير للتغيرات المناخية على الموارد الطبيعية وما قد تتسبب فيه من ضعف قدرة الأمم على حكم نفسها، وزيادة فرص النزاعات، فإن النتيجة المحتملة ستكون تحول هذه المناطق إلى بيئة خصبة للإرهاب، خاصة في ظل حالة انعدام الاستقرار وتصاعد معدلات الفقر. وفي هذا السياق، تتكاثر التنظيمات الإرهابية، ويسهل عليها ممارسة نفوذها في ظل البيئات الهشة المتأثرة بالصراع، حيث لا يصبح للدولة نفوذ وتفتقر إلى الشرعية. وفي بعض الأحيان تحاول التنظيمات الإرهابية سد الفجوة التي خلّفتها الدولة من خلال توفير الخدمات الأساسية والموارد للحصول على الثقة والدعم بين السكان المحليين.

هناك الصومال كمثال آخر، فمع تزايد معدلات ندرة المياه كنتيجة للتغيرات المناخية زاد تأثير التنظيمات الإرهابية، حيث كشف تقرير معهد استكهولم (في 23 أكتوبر 2019) أن تغير المناخ يمثل تحديات خطيرة لمهام بناء السلام الحالية والمستقبلية، وأن تغير المناخ يُضاعف التحديات القائمة ويقوي الجماعات المتطرفة. وبيّن التقرير أن أساليب الرعي التقليدية أصبحت غير صالحة بسبب التصحير ونقص المياه، مما يضطر الرعاة إلى نقل مواشيهم إلى مناطق قد تضعهم في صراع مع المزارعين. كما أدت آثار تغير المناخ إلى زيادة عدد النازحين داخليًّا في الصومال. ويتعرض النازحون داخليًّا لجهود التجنيد التي تقوم بها الجماعات الإرهابية. في بعض الحالات تؤدي التحولات في التركيبة السكانية إلى إضعاف ترتيبات تقاسم السلطة التي تتولى تسييرها بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في الصومال UNSOM، بما يقوض جهود الأمم المتحدة لبناء مؤسسات الحكم في الصومال.

وكشفت دراسة أجراها “ماركوس كينج” بجامعة جورج واشنطن في عام ٢٠١٧ (وهو الآن عضو المجلس الاستشاري بمركز الأمن والمناخ الأمريكي وله العديد من الدراسات في هذا المجال) عن وضوح العلاقة بين المناخ والصراع وتسليح المياه، فنتيجة لما تعرضت له الصومال من جفاف مرتبط بتغير المناخ قام تنظيم “شباب المجاهدين” بتغيير خططه القتالية التي كانت تعتمد على حروب العصابات، واتجه نحو محاولة عزل المدن عن مصادر المياه الخاصة بها، وبالتالي ممارسة الضغط عليها والتحكم فيها.

كما أشارت دراسة منشورة بمجلة Nature، في 12 يوليو 2019، إلى أنه مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية من المتوقع أن يزداد خطر النزاع المسلح زيادةً كبيرةً، حيث توصلت الدراسة إلى أن المناخ قد أثّر على ما بين 3% و20% من النزاعات المسلحة خلال القرن الماضي، ومن المرجّح أن يزداد التأثير بشكل كبير في المستقبل. وطرحت الدراسة عددًا من السيناريوهات المستقبلية حول تداعيات التغيرات المناخية على مستقبل الصراع. مشيرة إلى أنه في حال حدوث سيناريو 4 درجات مئوية إضافية من الاحترار (وهو تقريبًا المسار الذي نسير عليه حاليًّا إذا لم تخفض الدول بشكل كبير انبعاثات غازات الاحتباس الحراري) فإن تأثير المناخ على النزاعات سيزيد أكثر من 5 أضعاف. وحتى في السيناريو الذي يبلغ فيه الاحترار درجتين مئويتين (الهدف المعلن لاتفاق باريس للمناخ) فإن تأثير المناخ على النزاعات سوف يزيد بأكثر من الضعف.

آثار تغير المناخ ومخاطر نشوب صراعات في العالم العربي

يشهد العالم زيادة مثيرة للقلق في الأحداث المناخية المتطرفة، مثل: حرائق الغابات، والأعاصير، والجفاف، وموجات الحرارة، والتصحر، ونقص المياه والغذاء، وهي الأحداث التي تحصد بالفعل أرواحًا تزيد عما يحصده الإرهاب. فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يسبب تغير المناخ العالمي الآن وفاة أكثر من 160 ألف شخص سنويًا بعيدًا عن الكوارث الكبرى التي تأخذ في وجهها آلاف البشر فضلًا عن الأعداد الهائلة للنازحين.

وتُشير الدراسات إلى أن العالم العربي سيكون من المناطق الأكثر تضررًا من تغير المناخ، فموجات الحرارة المتطرفة ستنتشر في مساحات أكبر من الأراضي ولفترات زمنية أطول، ما يجعل بعض الأجزاء غير صالحة للسكن، ويحد من القدرة على زراعة أجزاء أخرى. وقد تعيش معظم عواصم الشرق الأوسط 4 أشهر شديدة الحرارة كل عام. وسيخلق ارتفاع الحرارة ضغوطًا هائلة على المحاصيل وعلى الموارد المائية النادرة بالفعل، مع احتمال أن يؤدي ذلك إلى تزايد الهجرة ومخاطر نشوب صراعات وأعمال عنف. على سبيل المثال، موجة الجفاف الشديدة التي ضربت سوريا بين عامي 2006 و2009، وهي موجة الجفاف الأسوأ التي حلت بسوريا في العصر الحديث، والتي كانت -على الأرجح- بسبب تغير المناخ. ويعتقد الباحثون أن هذا الجفاف كان عاملًا من عوامل الاضطرابات العنيفة داخل المجتمع السوري التي بدأت هناك في عام 2011. وأشارت دراسات أخرى إلى أن الجفاف الشديد مع عوامل أخرى، بما في ذلك السياسات الزراعية والاستخدام الخاطئ للمياه، تسبب في تلف المحاصيل، ما أدى إلى هجرة حوالي 1.5 مليون شخص من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، الأمر الذي أدى إلى نفوق 80% من الثروة الحيوانية في بعض المناطق، وبالتالي وقوع ثلاثة أرباع المزارعين تحت ضغط البطالة. وطبقًا لما ذكرته الأمم المتحدة فقد تعرض 60% من الأراضي السورية، أو ما يساوي 1.3 مليون شخص (من إجمالي السكان البالغ عددهم 22 مليونًا) لأضرار بسبب عدد من الأسباب المختلفة، من بينها تغير المناخ والتصحر الناتجين عن الأنشطة الإنسانية وسوء استخدام المياه. وطبقًا للاتحاد الدولي للصليب الأحمر والأمم المتحدة فإن ما يزيد عن 800 ألف شخص فقدوا موارد رزقهم بالكامل، وهذا بدوره يضاف إلى الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت في نهاية المطاف إلى احتجاجات وإضرابات في المجتمع السوري تحولت لاحقًا إلى صراع عسكري وظهور الجماعات الإرهابية.

بداية وليست خاتمة

 المخاطر الناجمة عن التغير المناخي تمثل تهديدًا آنيًّا، وليست فقط خطرًا مؤجلًا سيكون على الأجيال القادمة التعامل معه. هذا هو الاستنتاج الذي توصل إليه علماء من مركز جامعة “هارفارد” للبيئة، في تقرير أصدروه حول الأبعاد الأمنية لتغير المناخ. وينصح التقرير المعنون “المناخ المتطرف: الاتجاهات الحديثة مع الآثار المترتبة على الأمن القومي”، بتطوير مفهوم للأمن القومي يأخذ التغيرات المناخية في الاعتبار، كما ينصح صانعي السياسات في كل دول العالم بالبدء فورًا في إعطاء أولوية قصوى لقضية تغير المناخ، والتعامل مع التهديدات الناتجة عن تغير المناخ كجزء لا يتجزأ من استراتيجية الأمن القومي.

المصدر : المركز القومي للفكر والدراسات الاستراتيجية

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version