غارة صهيونية جديدة ضمن نسق تآمري قديم. فقد أكد مصدر عسكري سوري أن طائرات إسرائيلية أغارت على مطار التيفور في ريف حمص الشرقي مساء الثلاثاء، حيث تصدت الدفاعات الجوية السورية لها. وقال المصدر العسكري أنه في يوم الثلاثاء 14/01/2020 تمام الساعة العاشرة و10 دقائق قام الطيران الإسرائيلي بعدوان جوي شديد على المطار العسكري السوري، حيث أطلق عدة صواريخ، تمكنت الدفاعات الجوية في الجيش العربي السوري من التصدي لها وإسقاطها. وأفاد المصدر أن الطائرات دخلت الأجواء السورية من اتجاه التنف التي تحتلها الولايات المتحدة قرب الحدود السورية العراقية الأردنية.
هل من باب المصادفة أن تتكرر عربدات ”إسرائيل” مع كل إنجاز نوعي يحققه أبطال الجيش العربي السوري وهم يقوّضون معاقل الإرهاب الوهابي التكفيري، ويوسعون جغرافية المناطق المطهرة من رجس التنظيمات الإرهابية على امتداد الجغرافيا السورية؟ وكيف يمكن فهم ذاك التزامن المتكرر بين الهزائم الميدانية التي تمنى بها المجموعات الإرهابية وبين الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية في ضوء الحرب الممنهجة المفروضة على الدولة السورية منذ قرابة تسع سنوات؟ وماذا يعني أن ترغم الأفعى الصهيونية لإخراج رأسها من جحرها بعد التيقن بأن فراخها تسحق تحت أقدام حماة الأرض والعرض وعنوان عزة الوطن وسيادته وكرامته؟
من المقاربات الواضحة التي تلازم تصدير الأزمات نحو الخارج أو التحضير لأي انتخابات داخل الكيان الإسرائيلي منذ إعلان تأسيسه، هو تزايد احتمالات النشاطات العسكرية أو شن حروب خارجية، باعتبار أن الأزمات الداخلية أو موسم الانتخابات تشكل محطة أو مناسبة للقيادتين السياسية والعسكرية الحاكمة في تل أبيب لتصفية حساباتها داخلياً أو التخلص من أعبائها بهدف تلميع صورتها وزيادة رصيدها عبر استقطاب تأييد المستوطنين عبر النشاط العسكري الخارجي لمواجهة خصومها من التيارات أو الأحزاب الأخرى في المعركة الانتخابية. غير أن موسم الانتخابات الإسرائيلية هذه المرة تتزامن مع ظروف ومتغيرات داخلية وخارجية لا تصب في مصلحة رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو، وتحد من قدراته الاستعراضية بشن حروب كبرى ومباشرة نتيجة تآكل القدرات التفوقية لسلاح الجو الإسرائيلي بشكل خاص وتغير موازين القوى وقواعد الاشتباك التي فرضها محور المقاومة.
ضمن هذا الإطار يلجأ رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو للاستمرار في سياسته ”العدوانية العسكرية دون الحربية” ضد سورية بذريعة الوجود الإيراني أو إيقاف وصول السلاح لحزب الله لإحراز نصر ضمن ما يمكن وصفه ”جولة ضمن المعارك أو معركة ضمن الحروب”. على طول مسار الحرب العدوانية على سورية كان العدو الإسرائيلي الشريك الفعلي فيها يزداد جنوناً ويصاب بالهستيريا كلما ألحق الجيش العربي السوري وحلفاؤه الهزيمة تلو الهزيمة بأدواته الإرهابية على الأرض فكان يتدخل مباشرة لحمايتها ورفع معنوياتها المنهارة إما بالقصف المدفعي من خلف الحدود أو الغارات الجوية التي زادت على 220 غارة في السنوات الأخيرة وبعد إسقاط وسائط الدفاع الجوي السورية لإحدى طائراته من طراز ”إف 16” اعتمد أسلوب إطلاق الصواريخ من طائرات تحلق خلف السماء السورية خشية إسقاطها.
من المعروف للقاصي والداني أن المتضرر الأكبر مِن تَعافِي سورية وصُمود جيشها، واستِعادته مُعظَم الجغرافيا السوريّة إلى سِيادَة الدَّولة هو العدو الصهيوني ولذلك ليس مفاجئاً أن يواصل هذا العدو مسلسل غاراته الصاروخية العدوانية تحقيقاً لأمرين الأول: إظهار أنه لا يزال حاضراً في ساحة الحرب على سورية وأنه لم يتخل عن المجموعات الإرهابية وخاصة تنظيم ”جبهة النصرة” المحشور في إدلب والمرعوب من زحف الجيش العربي السوري المنتظر. والثاني: إطالة أمد الحرب الإرهابية على سورية إلى أبعد مدى ممكن أملاً بمتغيرات تغير موازين القوى أو الحصول على أي مكاسب سياسية لمصلحة رعاة الإرهاب.
وما من شك أن تكرار العدو الإسرائيلي لهذه الاعتداءات على سورية في وقت تزداد فيه هزائم العصابات الإرهابية على أيدي الجيش العربي السوري وحلفائه يأتي بالتنسيق التام مع واشنطن الراعي الأول للإرهاب والإرهابيين والحامي الأول للسلوك الإسرائيلي العدواني المحمي أمريكياً من أي مساءلة دولية وهذا ما يشجع مسؤولي الكيان الصهيوني على الاستمرار في ارتكاب الاعتداء تلو الآخر من دون أدنى خشية من محاسبة أو عواقب. وفي سياق الهستيريا الصهيونية التي تجتاح الكيان الصهيوني خوفا من اندحار الإرهاب في سورية وهو الذي يشكل لـ(إسرائيل) رأس حربة لتدمير المنطقة فقد كشفت صحيفة (ساندي تايمز) البريطانية تفاصيل مقابلة صحفية أجرتها مع رئيس أركان جيش العدو الإسرائيلي المدعو غادي آيزنكوت، حيث أكد فيها ولأول مرة منذ بداية الحرب على سورية، أنه قدم أسلحة للتنظيمات الإرهابية المسلحة التي كانت تتخذ مواقع لها قرب شريط فض الاشتباك في الجولان السوري المحتل.
ويشكل هذا الاعتراف أول تأكيد رسمي إسرائيلي لكل ما كانت وسائل الإعلام السورية تؤكده وتعلن عنه وتشير فيه إلى دور الاحتلال الإسرائيلي في تسليح المجاميع والتنظيمات الإرهابية التي كانت تعمل ضد الجيش العربي السوري في منطقة جنوب سورية بما في ذلك منطقة درعا والقنيطرة، ولم يكتف آيزنكوت بالإقرار بتسليح الميليشيات الإرهابية فقط، بل أقر في المقابلة نفسها أن الجيش الإسرائيلي قصف مواقع داخل سورية بألفي صاروخ وقذيفة في عام 2018 فقط وأنه لم يصرح عن هذه العمليات علناً بل كان يتركها لما تذكره وسائل الإعلام الإسرائيلية والعربية من دون ذكر المصدر الرسمي الإسرائيلي.
يبدو طبيعيا استخدام إسرائيل لضربات جوية متكررة على الأراضي السورية، كجزء من حالة ”الردع” المعتادة عليها، فهي إستراتيجية لم تتبدل في سياستها المعتمدة أساساً على إبراز عامل التفوق والقوة، فإسرائيل تفكر منذ اندلاع الحرب على سورية بجملة ممكنات تجعلها تعود للتحكم بتوازنها على مسرح الحدث، فمنذ عام 2006 أصبحت ”هشاشة” الردع عبر سلاح الجو معضلة على المستوى الإستراتيجي العام، وبات التفكير بالتفوق العسكري يحتاج لترتيبات سياسية ولعلاقات إقليمية مختلفة.
وفي هذا السياق، قدم العقيد غومير دانك المتقاعد من سلاح الجو في 25 تشرين الأول الماضي، والذي يعد أحد رجال الأبحاث الكبار في جامعة حيفا تحليلاً بعنوان ”الأسباب الحتمية لخسارة إسرائيل أمام جبهة سورية”. دانك في بحثه يقول: إن القيادة الإسرائيلية واجهت فشلاً محتماً حين حاولت إنهاء الوجود العسكري الإيراني الداعم لسورية برغم مئات الغارات الجوية التكتيكية الإسرائيلية فوق الأراضي السورية بحجة ضرب أهداف عسكرية إيرانية، كما يؤكد دانك أن كل زيارات نتنياهو للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تنفع بشيء لأن روسيا كانت منذ بداية مشاركتها في الحرب على الإرهاب تعد إيران حليفاً في الميدان لها ولسورية معاً وهذا ما أثبتته التطورات التي نراها الآن.
وينتقل دانك بعد عرض هذه التطورات إلى دعوة القيادة الإسرائيلية إلى ”زيادة التركيز على كيفية مواجهتها للصواريخ ذات القدرة في إصابة أهدافها والتي تضم جبهة الشمال منها مئات وربما آلاف وزيادة العمل على تفكيك هذا التحالف الإقليمي بعد أن فشلنا خلال ثماني سنوات ماضية من تفكيكه”.
يقر دانك بأن إسرائيل تواجه بشكل موضوعي معضلة لا يمكن حلها ”وهي أنها حتى لو تدخلت بكل قواتها العسكرية واجتاحت الأراضي السورية فإنها لن تستطيع صنع نظام حكم تضمن ولاءه حتى لو احتلت مع أميركا كل سورية”، ويستشهد بما حدث بعد اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 واحتلالها لمعظم الأراضي اللبنانية ودعمها لحكومة لبنانية توقع على سلام مع إسرائيل، ومع ذلك أصبح لبنان الآن قوة تهدد إسرائيل ولم تنجح حكومة الجميل في ذلك الوقت بالمحافظة على وجودها مثلما لم تستطع إسرائيل تقديم الحماية لها. يبين دانك أن إسرائيل لم تعد قادرة إلا على حماية حدودها الراهنة، وأصبحت عاجزة عن التوسع في الشمال وفي الجنوب عند قطاع غزة، وهذا بحد ذاته يحد من أي إنجاز يمكن للجيش الإسرائيلي تحقيقه…”
مقتضى واقع حال المشهد السوري الذي وصل إليه من خلال العدوان الإسرائيلي على سوريا باستهداف مطار التيفور، سلط ضوءًا هائلًا على حقيقة المخطط التآمري الكبير الذي يستهدف ليس سوريا وحدها، وإنما المنطقة بأسرها. ويبدو أن ما خططت له إسرائيل، ونفذه العرب وكالة ونيابة عنها، على الأراضي السورية، بأيدي ”القاعدة” وتنظيماتها: ”جبهة النصرة” وأخواتها، والتي رعتها دول المنطقة المستفيدة من التغير السياسي، مع ما يتبعه من تغيّر في المواقف، والجغرافيا، التي طالما سعت إسرائيل، إليها… فشل على صخرة صمودٍ سوريّ قلّ نظيره، في مواجهة تلك الحرب الكونية المتكالبة عليها، وحتى فيما تبنّته هذه الحرب الكونية من إذكاء نار فرن ”الربيع العربي” الذي كانت تأمل منه أن يحرق الأخضر واليابس، من البنى التحتية السورية، وتفكيك الدولة ومقدراتها، وسلب موقفها المقاوم قوته وصلابته…
بوضوح شديد يمكن القول: مادام العدوان واحداً ومادام العدو واحداً على اختلاف التسميات والمواقع وأساليب الجريمة، فإن الرد عندها لابد أن يكون واحداً موحداً، والذي يختلف في هذا الرد هو طريقة الأداء فيه مع العدوان الخارجي ونوعية وسائط الصراع اللازمة لتنفيذ هذا الرد، والرسالة واحدة للمثلث المشؤوم والملعون أعني القوى الاستعمارية الغربية في مصدرها وأذرع الإرهاب في الداخل السوري والعدوان الدائم الإسرائيلي على سوريا وعلى قضايا الشعب السوري، ثم يأتي دور العنصر الثالث من العناصر الحاكمة والضابطة للصراع القائم عبر الحدث الصوري، وهو المتمثل بالواقعية أي أن يكون الواقع بما يجري فيه هو موطن الاستمداد لكل سلوك ومقياس، أي حركة أو تحرك مادي أو معنوي في هذا الرد، وأهم منجزات الواقعية عادة كونها تنقل السلوك في مثل هذه الحال الناشئة، في سوريا من مستوى رد الفعل على فعل، إلى مستوى الفعل على فعل، وهذا يتطلب أن نستأثر بمصادر ومقومات الفعل، الذي نريد ولاسيما من خلال الزمان والمكان والوسائل والمدى، الذي نطلق فيه هذا الفعل.
إن كثيراً من تشعبات الأسئلة تلقي بثقلها الآن على الوعي العام والحياة الشعبية في سورية، بل في كل أنحاء العالم، والواقعية تفترض استدعاء عنصر المصداقية، لكي تتجذر يقينية الرد على العدوان الإسرائيلي، محكومة بمسؤولية ورسوخ هذا الرد كما نريده نحن لا كما يتوقعه العدو، ولا كما تسعى أطراف كثيرة لتبريره وتحويله إلى نقطة مساومة على الحال كله، الرد حقيقة واقعة ولو بعد حين، وشروط الرد عسكرياً وسياسياً وواقعياً هي معايير وطنية سورية، ولا يحق لأي طرف أو لأي ضغط بالمشاعر والوجدان أن يسحب هذه المعايير من الحاضنة الوطنية، إلى اعتبارات عصبية أحياناً وعصابية أحياناً أخرى، لعله في اعتبارات هذا العمق المؤسس بين يقينية الرد الحاسم والحازم وشروط الرد الوطني القادم، لعل في ذلك مجالاً رحباً وخصباً في هذه اللحظة لكي يقوم الإعلام بدور غير نمطي وغير إيقاعي كما هو الحال في سبيل أن يتم التركيز على مشروعية الرد ومصداقية أسبابه ولحظة الوصول إليه.
خلاصة الكلام: قال القائد الخالد حافظ الأسد ”لسنا هواة قتل وتدمير إنما ندفع الآن (وبتصرف) القتل والتدمير والعدوان عن أنفسنا والمنطقة والعالم”.
باحث وكاتب صحفي من المغرب.