شهدت الأعوام الأخيرة تحركات جادة في سبيل تحول مصر لتصبح مركزًا إقليميًّا للطاقة في منطقة شرق المتوسط، حيث تمتلك المقومات اللازمة للعب دور فعال في سوق الغاز؛ فتفردها بامتلاك البنية التحتية اللازمة لإسالة الغاز، فضلًا عن الاحتياطيات الضخمة من الغاز الطبيعي التي تم اكتشافها مؤخرًا والتي قدرت بنحو 30 تريليون قدم، بالإضافة إلى تحقيقها الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وزيادة إنتاج البترول والغاز واحتياطياتهما، وتميزها بموقع استراتيجي محوري، هذا بالإضافة إلى اتّباعها سياساتٍ متزنة ساهمت في إقامة علاقات جيدة مع كافة الدول المحيطة؛ كل تلك العوامل ساهمت في دعم الطموح المصري للتحول في مجال الطاقة وبزوغ دور مصر كقوة إقليمية صاعدة في هذا المجال. فعقب إعلان مصر عن نجاحها في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي عام 2018، تم إطلاق مبادرة “منتدى غاز شرق المتوسط” من القاهرة في يناير 2019، بهدف التعاون الإقليمي واسع النطاق بين الدول المصدرة للغاز، وذلك في إشارة إلى دور مصر الفعّال في هذا المجال، حيث قامت بتوقيع العديد من الاتفاقيات في هذا السياق لاستيراد الغاز الخام من الدول المجاورة ثم إعادة تصديره بعد إسالته للخارج. وتتمثل تلك الدول في كلٍّ من قبرص واليونان، بالإضافة إلى اتفاق آخر تم إبرامه مع إسرائيل.
ومؤخرًا، أثار إعلان إسرائيل توقيع اتفاق لمد خط أنابيب في شرق المتوسط -أو ما عرف بمشروع “إيست ميد”، مع كل من قبرص واليونان بغرض تصدير الغاز إلى أوروبا- تساؤلات حول جدوى إنشاء هذا الخط ومدى تأثيره على المساعي المصرية للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة في المنطقة. كما أثار الجدل حول التحركات الإسرائيلية في هذا الشأن وإضرارها بالمصالح المصرية، خاصة أن الاتفاق تم في وقت احتدت فيه المنافسة على الغاز الطبيعي بين دول شرق البحر المتوسط، وفي ظل مشهد سياسي معقّد تسعى فيه تركيا إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال تصدير الغاز إلى القارة الأوروبية، فضلًا عن الخلافات على ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وقبرص واليونان.
مشروع إيست ميد
وقّعت كلٌّ من اليونان وقبرص وإسرائيل، في يناير 2020، اتفاقًا لمدّ خط أنابيب تحت البحر بطول 1900 كيلومتر لنقل الغاز الطبيعي، والذي من المقرر أن يصبح الأطول في العالم، بهدف تصدير الغاز من منطقة شرق البحر المتوسط إلى أوروبا، وقد تم الاتفاق بين الدول الموقّعة على الانتهاء من إنشاء الخط بحلول عام 2025.
وتتراوح تكلفة الخط بين 6-7 مليارات دولار. ومن المتوقع أن ينقل 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًّا من إسرائيل والمياه الإقليمية القبرصية، مرورًا بجزيرة كريت اليونانية إلى البر اليوناني الرئيسي، حيث يتصل بخط غاز “بوسيدون” الذي يربط اليونان بإيطاليا ثم شبكة أنابيب الغاز الأوروبية.
ويأتي الإعلان عن إطلاق مشروع “إيست ميد” في إطار الصراع بين تركيا من جهة وإسرائيل واليونان من جهة، خاصة في ظل التطورات الأخيرة بشأن توقيع الاتفاق التركي الليبي الأخير (الذي تم توقيعه بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني بليبيا)، والذي نص على إعادة ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا. ويُعد الغرض من الاتفاق هو التأثير على أهمية تركيا كمركز إقليمي لمرور الطاقة لأوروبا الغربية؛ حيث يهدف الاتفاق إلى تعزيز موقف اليونان وقبرص أمام تركيا. وفي إشارة إلى الموقف الإسرائيلي، شدد “نتنياهو” في رسالة بعثها إلى زعماء اليونان وقبرص على أن اتفاق الغاز بين تركيا وليبيا غير قانوني، ولذلك يجب الرد وتوقيع اتفاق أنبوب الغاز مع اليونان وقبرص.
جدوى المشروع
رغم أن مشروع “إيست ميد” يحظى بدعم سياسي قوي؛ ليس فقط من إسرائيل واليونان وقبرص، ولكن أيضًا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلا أن تكلفته الباهظة تُعد عائقًا رئيسيًّا أمام إنشائه، بالإضافة إلى العديد من التحديات التي تثير التساؤلات حول جدوى وفرص تنفيذ المشروع بسبب طوله الذي يصل إلى 1900 كم في أعماق كبيرة تحت المياه، فضلًا عن استثماراته الضخمة التي سترفع تكلفة نقل الغاز، بالإضافة إلى عدم موافقة الجانب الإيطالي حتى الآن على المشروع باعتبارها آخر نقطة في الخط، لربطه بأوروبا؛ حيث أكدت وسائل إعلام يونانية (حسبما ورد بموقع “دويتش فيله” بالعربية) أن هناك خلافات داخل الحكومة الإيطالية في وجهات النظر تجاه المشروع. وبدراسة كافة أبعاد المشروع، فإن تنفيذ المشروع يواجه تحديات عدة. ويمكن حصر الأسباب التي يعوّل عليها صعوبة تنفيذ المشروع، فيما يلي:
– ارتفاع تكلفة المشروع التي قد تتعدى سبعة مليارات دولار.
– طول الخط الذي يصل إلى 1900 كم في أعماق البحر، حيث إن عمق المياه في حقل ليفاثيان يزيد من تكلفة استخراج الغاز، حيث يصل عمق الأنبوب في بعض أجزائه إلى 3 آلاف متر تحت البحر. هذا بالإضافة إلى عدم توافر البنية التحتية اللازمة في إسرائيل، وعدم قدرتها على بناء محطات إسالة خاصة بها في ظل المعارضة العامة لخطط إنشاء مثل هذه المحطة على الخط الساحلي الصغير المكتظ بالسكان في إسرائيل.
– تقدر المدة الزمنية لتنفيذ الخط بسبع سنوات في أحسن تقدير.
– تقدر القدرة الإجمالية للضخ من خلال الخط بحوالي 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًّا، في حين أن احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي تبلغ 500 إلى 600 مليار متر مكعب سنويًّا، أي إن نسبة مساهمة هذا الخط في توفير إمدادات أوروبا من الطاقة لا تتجاوز 2% من احتياجات الدول الأوروبية.
– يهدف المشروع إلى مد جنوب أوروبا فقط بجزء من احتياجاتها من الغاز، ويعتبر غير ذي جدوى بالنسبة لدول شمال وغرب أوروبا المتمثلة في ألمانيا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا ومجموعة الدول الإسكندنافية، وهي الدول الأكثر استهلاكًا للغاز.
– من الممكن أن يصبح الخط قابلًا للتطبيق تجاريًّا إذا تجاوز سعر الغاز الطبيعي في أوروبا حوالي 8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وهذا الرقم أعلى بكثير من متوسط السعر المتوقع خلال السنوات العشر المقبلة عند 6.5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وفي الوقت الراهن يبلغ سعر المليون وحدة حرارية 2.12 دولار.
– وجود البديل الأرخص المتمثل في مصر، والتي يمكن أن ترسل الغاز المسال عن طريق البحر دون الحاجة إلى إنشاء خط أنابيب.
– عدم وجود مصدر تمويل للمشروع حتى الآن، وذلك في ظل عدم رُجحان أن يتم تمويله من قبل الاتحاد الأوروبي بسبب دعم الدول الأوروبية لمشروعات الطاقة الخضراء في الوقت الراهن.
– وجود العديد من خطوط الأنابيب البديلة لنقل الغاز إلى أوروبا.
– عدم موافقة الجانب الإيطالي بشكل صريح حتى الآن على إنشاء الخط.
المصدر : المركز القومي للفكر والدراسات الاستراتيجية