عبارة من 8 كلمات وردت في خطبة آية الله العظمى علي السيستاني، في إحدى خطب الجمعة التي ألقاها مُمثله في كربلاء.
عبارة تشرح الكثير.. فقد فسرها الجميع على أنها إشارة إلى الهيمنة الإيرانية على مقاليد الحكم في العراق.
في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2019، يتحدث المرجعية الدينية العليا لشيعة العراق عن “تدخُّل خارجي”، ويضيف أنه لن يتدخل في عملية اختيار الحكومة الجديدة.
السيستاني يتدخل في السياسة فقط بأوقات الأزمات، ولآرائه أثر كبير على الرأي العام.
يعيش العراق أزمة جديدة مختلفة عن سابقاتها، عنوانها حراك الشارع، لكن جذورها متشابكة.
موجة الاحتجاجات في العراق كانت مفاجأة.
لكن المفاجأة الأكبر كانت مع اتساع نطاقها ليشمل محافظة كربلاء ذات الأغلبية الشيعية، وهو ما يعني
أولاً نفاد صبر الشيعة من حكم النخبة الشيعية.
ثم إن ظهور الشعارات المعادية لإيران في الحراك العراقي يعكس
ثانياً رفض الشارع العراقي لمشروع “الهيمنة” الإيراني.
وكل ذلك يعني ثالثاً رفض الشارع للنظام السياسي الفاسد القائم على “المحاصصة العرقية والطائفية”، والذي فشل في تحقيق أبسط احتياجات المواطن العراقي في فرصة عمل ومياه نظيفة وشبكات كهرباء وصرف صحي.
حتى لو بدا أن “الرئيس العراقي ورئيس الحكومة وأكبر الأحزاب في البلاد مستعدون للاستسلام للضغوط المتزايدة في الشارع، فلن تسمح إيران بذلك”، كما تقول تقارير صحفية غربية.
والدليل؟
في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019، وافق زعماء أكبر تحالفَين بالبرلمان: رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وهادي العامري المؤيِّد لإيران، على التخلص من عادل عبدالمهدي، رئيس الحكومة غير الحزبي، وطرده من منصبه.
ورحيل رجل مثل عبدالمهدي يمثل ضربة لطهران.
لذلك، وفوراً، سافر قاسم سليماني، القائد الأعلى لفيلق القدس الإيراني، في اليوم نفسه إلى بغداد. وهناك، طلب من العامري مواصلة دعم رئيس الحكومة العراقية، قائلاً في اجتماع مع مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى: “نحن في إيران نعرف كيفية التعامل مع الاحتجاجات”.
أما ما يعنيه سليماني من “كيفية التعامل مع الاحتجاجات”، فقد تجلى بوضوح مع اندلاع موجة العنف ضد المتظاهرين والتي راح ضحيتها العشرات.
ورغم كل شيء، ورغم جهود إيران: رحل عبدالمهدي.
وفي النخبة الشيعية بالعراق هناك قوى سياسية تتحالف مع إيران.
وقوى أخرى تناصبها العداء.
وقوى ثالثة تحتفظ معها بشعرة معاوية.
منذ الاحتلال الأمريكي تهيمن المجموعات الشيعية على المشهدين السياسي والأمني في العراق. وأسفرت محاولاتها لتغيير النظام عن منظومة اقتصادية نيوليبرالية لا تحظى برضا الشعب، وعن انعدام الأمن نهائياً.
في هذا التقرير نستعرض التاريخ الشيعي للعراق، ومشاركات النخبة الشيعية في السياسة، وثمار تجربة النخبة الحاكمة منذ 15 عاماً، وتأثير إيران على التفكير والممارسة السياسية للشيعة بالعراق.
يعتبر الشيعة العراقيون بلدهم “عاصمة” المذهب.
التشيُّع كان عراقي الجذور والنشأة منذ انحياز العراقيين، وأهل الكوفة منهم تحديداً، إلى الإمام علي بن أبي طالب ومن بعده إلى بنيه في القرن الأول الهجري، السابع الميلادي.
اتخذ الامام علي بن أبي طالب من الكوفة مركزاً لخلافته، كما دُفن في العراق أغلبية أئمة الشيعة، وهو ما جعل الشيعة يتوافدون إليه؛ لزيارة مراقد أهل البيت في النجف وكربلاء.
وتعيش في العراق كبرى المرجعيات الشيعية بالعالم، حيث احتضنت النجف أكبر جامعة علمية للشيعة وهي الحوزة العلمية، وهو ما جعل للعراق ارتباطاً رئيسياً بالتشيُّع.
عانى الشيعة في زمن الأمويين والعباسيين من العقوبات المالية والقتل والسجن.
وبدأت الدولة الصفوية الشيعية بإيران في القرن الثالث عشر، ثم دخل الشاه إسماعيل الصفوي بغداد 1508م، وفتك بأهلها وأهان علماءها وخرّب مساجدها وجعلها اصطبلات لخيوله. وهدم ما كان فيها من قبور أئمة السُّنة، وذبح جماعة من علمائهم، وفرض التشيع على أهل العراق.
ثم سيطر المجتمع العربي السني تاريخياً على العراق، منذ العصر العثماني حتى حكم حزب البعث.
وعندما سقط حكم صدام حسين، توقع العراقيون الشيعة نهاية الهيمنة السُّنية ودوراً أكبر في السياسات العراقية.
وبعد مشاركة الشيعة في التخلص من داعش، توقعوا مرة أخرى أن تتحسن أحوالهم المعيشية وأوضاعهم في المجتمع العراقي.
ولكن لم تحقق حكومات الأحزاب والائتلافات الشيعية أيا من هذه التوقعات.
اعتمد الإطار السياسي الجديد ذو الأغلبية الشيعية نظاماً سياسياً ينخره الفساد لا يراعي المواطن العراقي العادي ولا يستطيع تأمين خدمات أساسية مثل المياه النظيفة والكهرباء، فضلاً عن التعليم والرعاية الصحية. ويضاف إلى هذه الخيبات الواقع الاقتصادي العائم بالفوضى والبطالة المنتشرة في كل مكان، خاصة في أوساط الشباب الشيعة.
الشيعة في المجتمع العراقي: عائلات
كبيرة تقود نصف العراقيين
مكونات العراق اليوم هي نفسها تقريباً كما كانت عليه قبل أكثر من ألف سنة.
هناك المكوّن العربي بشقيه السُّني والشيعي، إضافة إلى التيارات العلمانية والليبرالية. وقالت الإحصائيات البريطانية لسكان العراق عام 1919، إن نسبة الشيعة في العراق وقتها كانت تقدَّر بنحو 53% من السكان.
الآن يقترب سكان العراق في نهاية 2019 من 38 مليون نسمة، بغالبية مسلمة نسبتها 95% من السكان. وتبلغ نسبة المسلمين الشيعة 52% مقابل 42% من السُّنة.
بعد سقوط صدام حسين كانت هناك أربع عائلات شيعية دينية كبيرة تتنافس على النفوذ وأعلى سلطة دينية في العراق. وجميعهم يحظون باحترام كبير وسط عموم الشيعة العراقيين:
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، أبدى رجل الدين البارز عبدالمجيد الخوئي رغبته في التعاون مع الولايات المتحدة؛ من أجل تشكيل عراق جديد بعد صدام، ولم يُعرف عنه أنه دعا أتباعه إلى مقاومة الاحتلال الأمريكي.
لقي عبدالمجيد الخوئي مصرعه بعد فترة وجيزة من سقوط النظام البعثي، في تفجير بسيارة مفخخة بمدينة النجف.
كان آية الله محمد باقر الحكيم معروفاً بمعارضته للاحتلال الأمريكي،دون الدعوة إلى مقاومة القوات الأمريكية، رغم أنه تبنَّى فكرة المقاومة ضد صدام حسين عندما كان منفياً في إيران.
عُرف آية الله الحكيم بموالاته التامة للجمهورية الإسلامية في إيران ونظرية ولاية الفقيه، ورغبته في بناء نظام إسلامي برعاية رجال الدين بالعراق.
يتولى آية الله علي السيستاني منصب المرجعية العليا منذ عام 1999، بعد مقتل آية الله محمد صادق الصدر.
آية الله السيستاني من أكثر رجال الدين العراقيين استقلالاً، ويرفض مبدأ ولاية الفقيه، بل إنه كان يعارض آية الله الخميني عندما كان منفياً في النجف قبل الإطاحة بشاه إيران.
في بداية الغزو الأمريكي، نصح أتباعه بعدم التورط في الصراع بين الولايات المتحدة وصدام حسين.
يحظى السيستاني باحترام جميع الأحزاب الشيعية العراقية، وكان أول من نادى بإجراء انتخابات سريعة في عام 2003؛ لكيلا يستغل أحدٌ الفراغ السياسي الهائل وقتها.
اتسمت جميع قرارات وفتاوى آية الله السيستاني بالقبول لدى أوساط كبيرة من الشيعة العراقيين، وهو ما جعل كلمته ذات قيمة بالحياة السياسية العراقية، وزاد من رصيده موقفُه من الاحتجاجات الأخيرة التي بدأت في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي حظيت بدعمه الكبير، معلناً رفضه أي تدخُّل أجنبي في قرارات المتظاهرين العراقيين.
مكونات العراق اليوم هي نفسها تقريباً كما كانت عليه قبل أكثر من ألف سنة.
هناك المكوّن العربي بشقيه السُّني والشيعي، إضافة إلى التيارات العلمانية والليبرالية. وقالت الإحصائيات البريطانية لسكان العراق عام 1919، إن نسبة الشيعة في العراق وقتها كانت تقدَّر بنحو 53% من السكان.
الآن يقترب سكان العراق في نهاية 2019 من 38 مليون نسمة، بغالبية مسلمة نسبتها 95% من السكان. وتبلغ نسبة المسلمين الشيعة 52% مقابل 42% من السُّنة.
بعد سقوط صدام حسين كانت هناك أربع عائلات شيعية دينية كبيرة تتنافس على النفوذ وأعلى سلطة دينية في العراق. وجميعهم يحظون باحترام كبير وسط عموم الشيعة العراقيين:
محمد صادق الصدر
يتزعمها الآن مقتدى الصدر، بعد اغتيال والده محمد صادق الصدر 1999، والذي كان يشغل منصب المرجعية العليا قبل آية الله السيستاني.
ويرى البعض أن مقتدى الصدر يطمع في أن يحل محل آية الله السيستاني بعد وفاته.
الشيعة في السياسة: 5 تكتلات كانت تعارض وأصبحت تحكم
رغم أن العرب الشيعة في العراق يشكلون كتلة تظهر موحَّدة نحو الخارج وتحت الغطاء المذهبي، فإنهم يختلفون في حراكهم السياسي اليومي بشكل كبير. الأحزاب الدينية الشيعية وتياراتها السياسية شكلت ما يسمى التحالف الوطني، الذي حصل على أكثر من 130 مقعداً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
تتوزع هذه المقاعد بشكل عام بين قوى صغيرة وأخرى كبيرة.
وبين عامي 1968 و2003 كان العراق يحكمه حزب واحد فقط، وهو “البعث”، الذي كان يسيطر عليه صدام حسين السُّني، وعمِل على قمع الطائفة الشيعية العراقية بالكامل. وتعرَّض السياسيون الشيعة للسجن والإعدام، وبعضهم اختار المنفى في إيران أو أوروبا.
مع الغزو الأمريكي للعراق 2003، انقلبت الموازين وعاد السياسيون الشيعة لتشكيل مشهد سياسي يحصلون فيه على النصيب الأكبر من السلطة.
وقتها ظهر أكثر من 300 حزب سياسي في العراق، أغلبها شيعية، لكن ظل عدد محدود من تلك الأحزاب الشيعية يسيطر على الحكم. كما ظهرت فصائل مسلحة مرتبطة بالأحزاب الكبيرة.
هنا أبرز الأحزاب والفصائل الشيعية.
مع الغزو الأمريكي للعراق 2003، انقلبت الموازين وعاد السياسيون الشيعة لتشكيل مشهد سياسي يحصلون فيه على النصيب الأكبر من السلطة
وقتها ظهر أكثر من 300 حزب سياسي في العراق، أغلبها شيعية، لكن ظل عدد محدود من تلك الأحزاب الشيعية يسيطر على الحكم. كما ظهرت فصائل مسلحة مرتبطة بالأحزاب الكبيرة.
هنا أبرز الأحزاب والفصائل الشيعية.
من أقدم الأحزاب الشيعية العراقية، وفي مرحلة ما بعد صدام حسين نال لقب اسم الحزب الحاكم، فقد تولى 3 من قياداته منصب رئاسة وزراء العراق بين 2005-2017. وهم: إبراهيم الجعفري، ونوري المالكي، وحيدر العبادي.
تأسس الحزب عام 1957 بقيادة دينية من رجال دين بارزين مثل محمد باقر الصدر، الذي كان المُنظِّر الرئيسي للحزب، وحاول خلق أيديولوجية إسلامية شيعية، تكون الوجه الآخر للحركة الماركسية.
سنوات القمع والمنافي: صراع الدولة الإسلامية والديمقراطية
في الثمانينيات والتسعينيات تعرَّض أعضاء الحزب لحملة وحشية، انتهت بإعدام مؤسسه.
هرب أعضاء وقيادات حزب الدعوة إلى خارج العراق، وفضّل بعضهم إيران، وهذا هو الجناح الذي ظل موالياً لإيران حتى اليوم، ومُخلصاً لفكر الخميني عن الحكومة الدينية ومبدأ الولي الفقيه.
والبعض الآخر اختار المملكة البريطانية منفىً له، وهم من أصبحوا أكثر ميلاً إلى فكرة الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة، وبناء نظام إسلامي حديث يتوافق مع تعددية الشعب.
بعد سقوط صدام حسين: خلافات حول العلاقة مع إيران
قدَّم حزب الدعوة نفسه على أساس أنه يسعى لإقامة “نظام إسلامي شيعي” في العراق، على الرغم من الخلافات الداخلية بالحزب حول الأمر.
لكن شيئاً فشيئاً تغيرت أيديولوجية الحزب لمصلحة الدعوة إلى إرساء قواعد الديمقراطية والبعد عن النظام الديني. وكانت الخلافات الداخلية سبباً في التغيير.
أصبح هناك تيار نوري المالكي، الذي يميل شرقاً نحو إيران.
وتيار حيدر العبادي الذي يفضِّل التوجه إلى الغرب.
لكنَّ سعي المالكي خلال حكمه، لإحكام السيطرة الشيعية وإقصاء التيارات الأخرى كافةً السُّنية والكردية، زاد من صعوبة وضع الحزب، وأدى إلى فشله في انتخابات 2018.
تأسس في إيران سنة 1982 باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، بقيادة مؤسسه محمد باقر الحكيم، الذي يؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، وشارك في الحرب إلى جانب إيران.
عقب الاحتلال الأمريكي في 2003، انخرط المجلس في العملية السياسية وغيّر اسمه إلى المجلس الأعلى الإسلامي العراقي.
يرى بعض المراقبين أن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق تنظيم باسم شخص، هو الحكيم، أكثر مما هو حركة شعبية لها توجهها السياسي.
بعد سقوط صدام حسين عاد محمد باقر الحكيم من إيران، وأعلن أنه مستعد للعمل مع القوات الأمريكية على الأراضي العراقية، فتم اغتياله بهجوم انتحاري بسيارة مفخخة استهدفت موكبه في النجف.
خلفه شقيقه عبدالعزيز الحكيم، الذي توفي عام 2009، فتولى ابنه الشاب عمار الحكيم قيادة الحزب، وأحدث كثيراً من التغييرات الدرامية في سياسة الحزب:
دعا أنصار حزب البعث إلى المشاركة في العملية السياسية.
وانحاز إلى القضية الكردية أكثر؛ طمعاً في الأصوات الانتخابية الكردية.
كما رحَّب بالتعاون مع الدول العربية، بعد أن ظل سنوات طويلة موالياً تماماً لإيران.
استقال عمار الحكيم من الحزب، ليؤسس “تيار الحكمة الوطني” عام 2017، بهدف “بناء دولة عراقية تُحفظ فيها الحقوق بشكل منسجم شامل وأوسع من المشروع الضيق الذي كان يعمل به المجلس الأعلى”، كما قال.
من خلال تيار الحكمة الوطني، استطاع عمار الحكيم الدخول في عديد من التحالفات؛ لكسب مقاعد بالبرلمان العراقي، فتحالف مع منافسه مقتدى الصدر، وحافظ أيضاً على تحالفه مع حزب الدعوة.
عندما تأسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، نصح آية الله الخميني قادته ببناء جناح عسكري يساعدهم في مقاومة صدام حسين، فتأسست منظمة بدر من مجموعة من المقاتلين العراقيين وبدعم مالي إيراني.
شاركت منظمة بدر، التي كانت وقتها وحدة عسكرية صغيرة، بجانب إيران في حربها مع العراق. وتوسعت لتصبح كتيبة كبيرة، وشنت غارات داخل الأراضي العراقية. وكان لهذا اللواء دور مهم في انتفاضة شيعة العراق 1991، حين قامت عناصره بتصفية أجهزة حزب البعث بالجنوب.
أسهمت المنظمة مع القوات الأمريكية في عملياتها بعد الغزو، وأصبحت لها قيادة سياسية مستقلة نوعاً ما عن الحزب، وبدأت في الميل إلى نوري المالكي الموالي لإيران، بداية من عام 2010.
وفي مارس/آذار 2012، انفصلت منظمة بدر عن حزب المجلس الأعلى الإسلامي، بعد أن استفادت من الانضمام إلى ائتلاف الحزب في الانتخابات البرلمانية لعام 2010، وحصلت على 7 مقاعد بالبرلمان العراقي.
بعد انفصال منظمة بدر عن الحزب، شاركت في الحرب بسوريا مع إيران، بجانب كتائب “حزب الله” العراقية، وكتائب “سيد الشهداء”.
يُعدّ التيار الصدري بزعامة السياسي ورجل الدين البارز مقتدى الصدر (45 عاماً)، الحركة الشيعية الوحيدة التي أصرت على البقاء داخل العراق؛ لمقاومة قمع صدام حسين للشيعة.
التيار غير منظَّم حزبياً، لكنه ارتبط بأسماء مراجع شيعية لها مكانتها.
وكان آية الله السيد محمد باقر الصدر، الذي اغتيل عام 1980، من أبرز مُنظِّري “خلافة الناس من طريق إشراف آية الله العظمى”، أو “المرجعية الرشيدة”، وتقضي بأن تكون الحقوق السياسية للشعب مستقلة عن الفقهاء، وارتأى فرض مزيد من الرقابة على وضع الفقهاء، إلا أن اختيار المرجع الديني يتم عنده وفقاً للشكل التقليدي، وليس بالانتخابات الديمقراطية، كما ينقل عنه مصطفى اللباد في كتاب “حدائق الأحزان”.
يصوّر مقتدى الصدر نفسه على أنه الزعيم الروحي للفقراء الشيعة فى العراق، ذاع صيته وبدأ تاريخ تياره فعلياً بعد الغزو الأمريكي، فكان تياره من أشد الحركات مقاومةً للاحتلال الأمريكي.
أسس الصدر شبكة مؤسسات اجتماعية: مساجد ومعاهد دينية وجمعيات خيرية؛ لمساعدة الفقراء، وهو ما أمَّن له دعماً كبيراً بين الفقراء الشيعة، لا يزال يتمتع به إلى الآن. ويُقدَّر أتباعه بالملايين.
استند مقتدى الصدر في شعبيته الكبيرة إلى سمعة أبيه، الذي اغتاله نظام صدام حسين عام 1999، وإلى رفضه الحاسم للوجود الأمريكي على الأراضي العراقية.
في البداية كان مقتدى الصدر يميل إلى إيران، فدعمته بالمال لإنشاء ميليشيا “جيش المهدي” الذي كان يحارب القوات الأمريكية، لكن بعد مراحل كثير من النضج السياسي، ابتعد مقتدى عن التبعية الإيرانية، وتبنى خطاباً قومياً أكثر شعبوية؛ بل إنه دعا أكثر من مرَّة إلى ضرورة عودة العراق إلى بيئته العربية، وتقوية العلاقات الخليجية، وزار السعودية عام 2017.
لكن ما زالت علاقته بإيران قائمة إلى الآن، رغم كل ما يشوبها من توتر تارة، وغموض تارة أخرى.
في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2018، فازت كتلة سائرون التابعة لمقتدى الصدر، بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية، وهو ما جعله عاملاً مؤثراً في تشكيل الحكومة.
جيش المهدي تنظيم عراقي شيعي مسلح أسسه مقتدى الصدر في أواخر عام 2003، وكان المسؤول عن قتل كثير من الجنود الأمريكيين فى العراق، وهو ما جعله موضع غضب البيت الأبيض. كما لعب دوراً كبيراً في الاقتتال الطائفي العراقي بين عامي 2006 و2007، وتُوجَّه إليه عديد من الاتهامات بارتكاب جرائم ضد الطائفة السنية.
قبلها بعام، خاض جيش المهدي معارك ضارية مع منظمة بدر التابعة للمجلس الأعلى الاسلامي، واتهم مقتدى الصدر وقتها إيران باستخدام منظمة بدر للانتقام من “جيش المهدي” بعد خروجه من عباءتها.
فى عام 2011 وبعد عودته من إيران لمدة دامت أربع سنوات، بسبب الدراسة الدينية بحوزة قم، أو المنفى الاختياري، أمر مقتدى الصدر أتباعه بالتحول من المقاومة العنيفة إلى المقاومة السلمية والتركيز أكثر على الحياة السياسية.
لكن بعد اجتياح تنظيم “الدولة الإسلامية” للأراضي العراقية في عام 2014، أسس مقتدى الصدر الفصيل المسلح “سرايا السلام” من بقايا جيش المهدي، وشاركت إلى جانب الحشد الشعبي العراقي في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية.
فى عام 2014، عندما هاجم تنظيم الدولة الإسلامية العراق، كان الجيش العراقي والقوات الأمنية ما زالوا في حالة هشاشة أمنية، ولم يستطيعوا التصدي لهجمات التنظيم الإرهابي.
وقتها أصدرت المرجعية الشيعية العليا للبلاد، المتمثلة في آية الله العظمى علي السيستاني، فتوى تدعو كل عراقي يستطيع حمل السلاح إلى الانضمام إلى القوات الأمنية الحكومية والقتال ضد تنظيم داعش.
وتأسس الحشد الشعبي العراقي.
استطاع الحشد الشعبي القتال بضراوة بجانب القوات الحكومية والأمريكية ضد تنظيم داعش إلى أن تم التخلص منه، وتحرير الموصل بالكامل عام 2017.
مقاتلو الحشد الشعبي يحتفلون بتحرير شرق الموصل
لا توجد أرقام دقيقة لأعداد مقاتلي الحشد الشعبي إلى الآن، لكن تشير بعض التقديرات الصادرة من البرلمان العراقي إلى أن العدد نحو 160 ألف مقاتل.
يعتقد البعض خطأً أن الحشد الشعبي كيان شيعي موحد، تحت أيديولوجية وولاء واحد، لكن في حقيقة الأمر، ينقسم الحشد الشعبي وفصائله إلى ثلاثة أنواع كالآتي:
والمتمثل في الفصيل العسكري “سرايا السلام”، والذي يعتبر واحداً من أقوى الفصائل المسلحة داخل الحشد الشعبي، من حيث القدرة العددية، والتنظيم.
عندما صدر قرار يقضي بدمج الحشد الشعبي داخل القوات الأمنية الحكومية، كانت “سرايا السلام”، بزعامة مقتدى الصدر، أول من وافقت على هذا المرسوم.
مقاتلون تابعون لقوات الحشد الشعبي
تعلن فصائل هذا التيار ولاءها الكامل للمرجعية الدينية بالنجف المتمثلة في آية الله السيستاني، وقد تشكلت بناءً على فتواه؛ للدفاع عن العتبات والمزارات الشيعية في العراق ضد هجوم تنظيم داعش.
لم تشارك تلك الفصائل في الحياة السياسية، بل إن قادتها أعلنوا أنهم مستعدون لحلّ الفصائل أو الاندماج في القوات الحكومية.
ويضم هذا التيار:
سرايا العتبة العباسية
سرايا العتبة الحسينية
سرايا العتبة العلوية
لواء علي الأكبر
ثلاثة من أعضاء لواء أبو الفضل العباس
يضم هذا التيار عدداً كبيراً من الفصائل المسلحة داخل الحشد الشعبي، تلك الفصائل تتلقى الدعم المالي مباشرة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتلقت التدريب على يد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
قادة تلك الفصائل يعلنون بشكل صريح ومباشر، التزامهم ولاية الفقيه بإيران والمتمثلة في آية الله علي خامنئي؛ بل إنهم يرفضون المرجعية الدينية الشيعية بالنجف المتمثلة في آية الله العظمى علي السيستاني.
يشمل هذا التيار:
فصائل سرايا خراساني
كتائب حزب الله
كتائب أبو الفضل العباس
كتائب سيد الشهداء
تلك الفصائل جميعها رفضت مرسوم الحكومة القاضي بدمج الحشد الشعبي تحت لواء الدولة.
يوجد عدد من المراجع العرب في النجف، لكن الشيعة لم يركزوا على وتر العروبة كثيراً؛ لاعتقادهم أن هذا لن يجدي في المجتمع العراقي، الذي لم يهتم يوماً بأصل المرجع بقدر الاهتمام بشهرته العلمية وزهده وتقواه.
وقد اشتهر من العلماء الإيرانيين في العراق كثير منهم:
السيد أبو الحسن الأصفهاني
السيد أبو القاسم الخوئي
الشيخ عبدالكريم الزنجاني
وآخرهم السيد علي السيستاني، وهو أحد الأربعة الكبار في النجف الأشرف
العراقي السيد محمد سعيد الحكيم
الأفغاني الشيخ إسحق الفياض
الباكستاني الشيخ محمد بشير النجفي
إلى ذلك، يضيف الشيخ طالب الساعدي، الأستاذ في حوزة النجف، أن مراجع قم أكثر بكثير جداً من مراجع النجف، بسبب الظروف التي مرت على العراق في مرحلة نظام صدام حسين وحزب البعث.
الساعدي يقول لـ “عربي بوست”، إن “ولاية الفقيه مسألة خلافية، وبعض علماء النجف يذهبون إلى مبدأ ولاية الفقيه كالشهيد محمد باقر الصدر، والشهيد محمد صادق الصدر، السيد مقتدى الصدر يؤمن بولاية الفقيه مثل والده، ولكنه على أي حال ليس مجتهداً أو مرجعاً، والمسألة راجعة إلى الفقهاء المجتهدين. أما السيد علي السيستاني، فهو يؤمن بولاية الفقيه في حدود معيّنة، وليست مطلقة”.
المرجع السيستاني داعم ومؤيد لمطالب المتظاهرين والاحتجاجات بالعراق، بحسب مسؤول في مكتب السيستاني بمحافظة النجف.
ويقول جعفر الموسوي لـ “عربي بوست”، إن “خطاب المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد علي السيستاني واضح للجميع، هو في الوقت نفسه تأكيد دعم مطالب المتظاهرين والاحتجاجات السلمية في بغداد وعدد من المحافظات العراقية، ورافض بالوقت ذاته لاستخدام العنف وفض الاحتجاجات واعتقال المتظاهرين وتهديدهم بالقتل.
وهنا يؤكد المرجع الديني الشيخ جواد الخالصي، أنَّ “رفض السيد السيستاني للمشاركة في العملية السياسية نابع من موقف شرعي ووطني، يتعلق بسلامة الوطن ووحدة الشعب، وهذا يتناسب مع الموقف التاريخي الذي لزمته المرجعية الإسلامية في العراق عبر تاريخها وإلى اليوم، خاصةً موقف الإمام الخالصي الكبير ومن معه مع العلماء الأعلام والمراجع العظام؛ الذين رفضوا الانجرار خلف العملية السياسية، التي أراد الإنجليز فرضها على الشعب العراقي في بداية القرن الماضي”.
انتفاضة 2019: نبحث عن وطن.. نبحث عن عقد اجتماعي جديد
هكذا كتب المراسل السويسري من شوارع العراق الملتهبة بالانتفاضة:
“البطالة والفساد الممنهج يرتبطان في نظر عديد من المتظاهرين ارتباطاً وثيقاً بالنظام السياسي القائم على المحاصصة والمحسوبية والفساد، في ظل غياب الخدمات الأساسية.
رغم أن النفط يدرُّ المليارات في خزانة الدولة العراقية، تنهار شبكات الطاقة بانتظام.
وتنقطع الكهرباء تحت وطأة مكيّفات الهواء.
في البصرة، ثالث كبرى مدن البلاد، وبعديد من المدن والقرى الأخرى، لا توجد مياه صالحة للشرب.
وفي ظل هذه الأوضاع خرج العراقيون وعلى رأسهم الشيعة إلى الشوارع، رغم أنهم أكبر المستفيدين من النظام الجديد بعد انهيار دولة صدام حسين”.
إنه تقرير نشرته صحيفة Tages Anzeiger السويسرية في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
التحالفات الشيعية تشكل الأغلبية في البرلمان، لكن أقوى الفصائل بقيادة مقتدى الصدر ترفض بشدة، النفوذ الإيراني المتفشي في بغداد، ودعت إلى تشكيل حكومة من التكنوقراطيين، إلا أن الصدر اضطر في نهاية المطاف إلى التسوية مع الجماعات المؤيّدة لطهران.
جدارية في ساحة التحرير في بغداد حيث بدأ المتظاهرون احتجاجاتهم في مطلع أكتوبر 2019
العراق يعاني أيضاً من نفوذ الميليشيات الخاضعة لإيران والتي لعبت دوراً مهماً في مكافحة تنظيم “الدولة الإسلامية”. رسمياً، تم دمج الميليشيات في جهاز الأمن العراقي، لتكون تحت إشراف رئيس الوزراء. لكن الواقع يبدو مغايراً، حيث تتلقى بعض الفصائل الأوامر مباشرة من سليماني.
بالإضافة إلى ذلك، فتحت بعض الميليشيات ما يسمى مكاتب الأعمال، ودخلت المجال الاقتصادي، لتنافس بذلك العاملين في القطاع الخاص، رغم حصولها على 2.2 مليار دولار من ميزانية الدولة، في زيادة عن العام السابق، وهذه الحصة أكبر بمرتين ونصف المرة عن ميزانية وزارة المياه، على سبيل المثال.
الشوارع بعد مواجهات الأمن مع المتظاهرين
بالنسبة لإيران فإن وجود الميليشيات المسلحة التابعة لها؛ ومن ثم بسط نفوذها في العراق يخدم 3 أهداف:
تشكيل ثقل موازن للقوات الأمريكية في البلاد.
ضمان الطريق البري المؤدي إلى سوريا ولبنان، طرق الإمداد للحرس الثوري بسوريا و “حزب الله” في لبنان.
هذه القوات الأمنية الموازية “أصبح لها تأثير قوي على شبكات المصالح الاقتصادية، حيث تضاعف هذا التأثير وازدادت أهميته مع اتساع دائرة العقوبات الأمريكية على إيران، إذ باتت الجمهورية الإسلامية تراهن على حلفائها الإقليميين في مسعاها لتجاوز التأثيرات المدمرة لتلك العقوبات”.
المصدر: الشركة المستقلة للبحوث في العراق
لماذا انقلب الشيعة على حكومتهم؟
يُنتظر من الحكومات أن تساعد في تأمين الاحتياجات الثلاثة الأولى لمواطنيها: الأمن.
والعيش الكريم.
والشعور بالأهمية.
وتشكل هذه الأخيرة -أي “الشعور بالأهمية”- حاجة الأفراد إلى الشعور بأن الحكومة تهتم بهم وتقدّرهم.
وكلما ترسخ في فكر المرء أن حكومته لا تقدم هذه العناصر الأساسية الثلاثة بالمستوى المطلوب، فقد يزداد الناس سخطاً وغضباً.
فقد شيعة العراق ثقتهم بحكومتهم، لأنها فشلت في تلبية احتياجاتهم الأساسية بأي من هذه المجالات الثلاثة، فكانت الانتفاضة.
ثم كانت استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي.
عبارة أخرى من 4 كلمات، بدأ بها رئيس الوزراء العراقي المنصرف عادل عبدالمهدي بيان استقالته، بعد استمرار عاصفة الحراك أسابيع طويلة.
لكنها عبارة تلخص الكثير.
الرجل لم يقل إنه يستقيل استجابةً لمطالب شعبية تجاوزت الحدود الضيقة للإصلاحات المشوهة، وعازمة على عدم التراجع عن مطالب التغيير الجذري، وعلى رأسها إسقاط «الحكم الطائفي».
بل تعمَّد أن يؤكد أن استقالته جاءت استجابةً لدعوة «المرجعية الشيعية العليا»، ممثلة في السيد علي السيستاني، دون أي إشارة إلى مطالب جماهير المتظاهرين وهتافاتهم التي تطالب بإسقاط النظام.
هو هنا يؤكد، دون أي مواربة، أن القرار الأعلى بالبلاد أضحى بيد المرجعية الشيعية العراقية، التي تتقاطع مع إيران في أكثر من خلاف أساسي.
أعنف التظاهرات الاحتجاجية كانت في محافظات الوسط والجنوب ذات الأغلبية الشيعية.
وفيها يطالبون بإسقاط النظام الطائفي، وبالعدالة والشفافية ومحاكمة كل الفاسدين.
يطالبون باستعادة أكثر من تريليون دولار، نُهبت من ثروات العراق وعوائده النفطية، ولم تذهب لمشاريع البناء والتعمير وإعادة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وبناء مؤسسات الحكم القوي.
يتظاهرون من أجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي ترتكز بالأساس على «مبدأ المواطنة المتساوية» وإلغاء كل أنواع التمييز في تولي المناصب.
يدعون إلى دعم الوحدة الوطنية على أساس من «الهوية الوطنية الجامعة».
أمام العراق “الجديد” طريق واحد..
عقد اجتماعي “جديد”، تسوده قيم العدل والمساواة على أساس المواطنة، وليس الطائفة.
TOP