تلبّدت سماء العاصمة اليابانية طوكيو بالغيوم بعد ظهيرة يوم 19 (نوفمبر/تشرين الثاني) في العام 2018، قبل أيام معدودة من عيد الفصح، من بين تلك السحب ظهرت تلك الطائرة الفارهة الخاصّة التي توجهت لهبوط سلس في مدرج مطار هانيدا الدولي، أحد أبرز مطارات العاصمة اليابانية، كواحدة من عشرات الطائرات الخاصة التي تهبط وتغادر يوميا الأراضي اليابانية.
من باب الطائرة، ظهر رجل ستّيني ذو ملامح شرق أوسطية واضحة، وهو الرجل الذي يعرفه جيدا كل مَن له علاقة بعالم المال والأعمال، والذي قوبل باحتفاء شديد بواسطة عدد من المساعدين الذين جهّزوا له سيارة فارهة تنتظره بمجرد فتح باب الطائرة. إلا أن المفاجأة كانت عندما ظهرت عناصر من الشرطة اليابانية التي ألقت القبض على الرجل سريعا، واقتادته إلى مكان مجهول أمام نظرات الذهول من الحاضرين كافة.
كان الموقف صادما، ليس فقط على مستوى طريقة إلقاء القبض العنيفة على الرجل والتي من غير المعتاد أن تحدث بهذا الشكل في مجتمع مُتحضِّر كاليابان، وإنما أيضا بسبب مكانة هذا الرجل الذي يُعتَبر من أهم وأبرز الوجوه الأجنبية ذات النفوذ في البلاد. كان هذا الرجل هو “كارلوس غصن”، الرئيس والمدير التنفيذي لتحالف “رينو – نيسان – ميتسوبيشي” للسيارات، وواحد من أهم أنجح وأشهر رجال الأعمال والإداريين التنفيذيين في مجال صناعات السيارات في العالم.
لم يستطع “غصن” في ذلك اليوم مباشرة جدول أعماله الذي كان يقتضي الذهاب إلى مطعم السوشي المفضّل له في العاصمة اليابانية لتناول وجبة العشاء المحجوزة سلفا برفقة ابنته، ثم التحضير للذهاب إلى مقابلة عمل في اليوم التالي. لاحقا، وعندما تبدأ التحقيقات معه بتهم عديدة أبرزها اختلاسات مالية وإساءة استخدام منصبه في تحقيق منافع شخصية وتهم فساد مالي، سيصف ما حدث له في ذلك اليوم بأنه “كمين”، وأن الأمور أكبر بكثير من التهم الموجّهة له. (1)
ضعه مديرا على شيء ما وسوف يُحقِّق أرباحا
قبل أربعين سنة من لحظة القبض عليه، كان كارلوس غصن شابا يافعا أتمّ دراسة الهندسة في كلية البوليتكنيك الفرنسية العام 1974، ثم أتبعها بالتخرّج في “المدرسة الوطنية العليا للمناجم” العريقة في مدينة باريس (École des Mines de Paris) في العام 1978. كان غصن يحمل هوية متعددة الجنسيات؛ فهو ينتمي إلى أسرة لبنانية هاجرت إلى البرازيل حيث وُلد وقضى فترة طفولته، ثم عاد إلى بيروت ليدرس عدة سنوات، لينتهي به المطاف في باريس لإنهاء حياته الجامعية وبدء حياته المهنية.
عقب تخرّجه مباشرة، التحق غصن -متدرّبا- بشركة “ميشلان” الفرنسية التي تُعتَبر أكبر شركة أوروبية في مجال صناعة إطارات السيارات. لاحقا، حقّق تفوقا ملحوظا جعله يحظى بمسيرة مهنية مذهلة السرعة خلال 18 عاما قضاها في الشركة. ففي العام 1981، وبعد ثلاث سنوات فقط من تعيينه، أصبح مديرا لمصنع الشركة في مدينة لو بوي أون فيليه الفرنسية، ثم عُيِّن مديرا لقسم الأبحاث والتطوير في الشركة قبل أن يُتم عامه الثلاثين.
في العام 1985، وفي مطلع ثلاثينياته، عُيِّن غصن رئيسا تنفيذيا لعمليات الشركة (COO) في قارة أميركا الجنوبية، فعاد مرة أخرى إلى البرازيل حيث وُلد وقضى طفولته، وكانت المهمة المطلوبة منه شديدة الصعوبة، وهي القيام بتطوير عمليات الشركة التي لم تجنِ أي أرباح في ظل الركود الهائل في السوق البرازيلي الذي كان يُعاني من تضخُّم كبير في تلك الفترة. استطاع غصن تشكيل فريق متنوّع الجنسيات نجح في جعل هذا القطاع المتعثِّر يبدأ في تحقيق الأرباح بعد عامين اثنين فقط من تولّيه هذه المهمة.
بعد هذا الإنجاز، وبعد أن تعلَّم اللغة الإنجليزية لتُضاف إلى لغاته الثلاث الأخرى التي يُتقنها “الفرنسية والبرتغالية والعربية”، نُقل غصن إلى أميركا الشمالية ليُعيَّن رئيسا ومدير عمليات لفرع الشركة في ولاية ساوث كارولينا في العام 1989، ثم تمت ترقيته بعد عام واحد لمنصب المدير التنفيذي للشركة في أميركا الشمالية، وتولّى مسؤولية إعادة هيكلتها وإصلاح عملياتها حتى بعد الاستحواذ على شركة “ميشلان” بواسطة شركة “يوني رويال جودريتش” للإطارات.
في العام 1996، وبعد 18 عاما قضاها في أروقة إدارة شركة “ميشلان” جعلته واحدا من مشاهير الإداريين، انتقل غصن ليُصبح نائب رئيس تنفيذي في شركة “رينو” الفرنسية العريقة للسيارات، مسؤولا عن المشتريات والأبحاث والهندسة والتطوير والعمليات والتصنيع، إلى جانب إدارته الكاملة لقسم الشركة في أميركا الجنوبية.
تولّى غصن مهمة إعادة هيكلة شاملة لعمليات الشركة والبدء في تحقيق أرباح كبرى فقط بعد تعيينه بعام واحد، وذلك بمجيء العام 1997. في تلك الفترة ذاع صيت غصن، وأُطلق عليه اسم “قاتل النفقات” (Le Cost Killer) بسبب برنامجه للإصلاح الإداري بتقليل النفقات وزيادة المبيعات. هذه الإنجازات الكبيرة ساعدته لينتقل إلى مرحلة أخرى تتجاوز حدود الشركات الفرنسية، ليذهب إلى ما هو أبعد بكثير. (1، 2، 3)
في بداية العام 1999، كانت شركة “نيسان” اليابانية للسيارات تلفظ أنفاسها الأخيرة. كانت الشركة العريقة تقع تحت طائلة ديون هائلة تُقدَّر بـ 20 مليار دولار. ومن بين 46 موديل سيارة تُنتجها الشركة في اليابان، ثلاثة فقط منها كانت تُحقِّق الأرباح. بكل التحليلات، كانت “نيسان” سفينة في طريقها للغرق، واعتُبِرت أي محاولات لإنقاذها شبه مستحيلة.
في مارس/آذار 1999، احتلّ اسم كارلوس غصن عناوين الصحف العالمية، عندما وافق باعتباره نائب رئيس “رينو” الفرنسية على إنفاق 5.4 مليار دولار لشراء 36.8% من أسهم شركة “نيسان” اليابانية، وإنشاء تحالف “رينو – نيسان” مع انتقاله إلى اليابان للبدء في عملية إعادة هيكلة كاملة للشركة اليابانية الغارقة، وإعادة إحيائها بأساليب إدارية جديدة مختلفة عن أساليب الإدارة اليابانية.
كانت مهمة شاقة وشبه مستحيلة، لدرجة أن أحد مساعديه اقترح على غصن أن يكتفي بتأجير شقّة في طوكيو بدلا من شراء واحدة، باعتبار أن إقامته لن تستمر إلا عدة أشهر قبل أن تنتهي بالفشل المحتوم. إلا أن غصن، الذي كان قد خرج لتوّه من مهمة إعادة هيكلة “رينو” الفرنسية، أطلق خطة في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه اسمها “خطة إنقاذ نيسان” (Nissan Revival Plan) التي تعهّد فيها بانتشال الشركة من ديونها في زمن قياسي، والبدء في تحقيق الأرباح في العام المالي التالي مباشرة، وخفض الديون والخسائر خلال زمن قياسي لا يزيد على ثلاث سنوات، بل وتحدّى غصن أنه إذا لم تتحقق هذه النتائج فسوف يُقدِّم استقالته!
بدأ غصن تنفيذ خطته الإصلاحية بتفعيل أساليب إدارية مغايرة للأساليب الإدارية اليابانية المُعتادة، مع حرصه على احترام الثقافة اليابانية وتجنّب الصدام بها بشكل عنيف. في بداية الإصلاح، أغلق غصن 5 مصانع رئيسية للشركة، واقتطع 21 ألف وظيفة (نحو 14% من القوى العاملة في الشركة) معظمها في اليابان، وتقليل عدد الموردين وحاملي الأسهم. لم يكتفِ غصن بإعادة هيكلة موارد الشركة بتقليل نفقاتها إلى الحد الأدنى، بل امتدت خطته لتشمل تغيير ثقافة الشركة نفسها المستمدة من البيئة الإدارية اليابانية، حيث قام بتغيير نظام الترقية التقليدي القائم على العمر، واستبدل به ترقيات وحوافز قائمة على مؤشرات الأداء وليس سنوات الخبرة. كما بدأ بتحويل ثقافة الشركة من اليابانية الخالصة إلى الإنجليزية، من خلال خطّة طموحة لإعادة الانتشار عالميا في أوروبا وأميركا من خلال واجهة جديدة.
خلال السنة الأولى من إطلاق خطة إنقاذ “نيسان”، حققت الشركة أرباحا بقيمة 2.7 مليار دولار، قادمة من إجمالي خسائر بقيمة 6.46 مليار دولار حققته العام السابق. بعد مرور عامين إضافيين من إطلاق خطة الإنقاذ، عادت “نيسان” واحدة من أكثر شركات السيارات تحقيقا للأرباح. بعد 6 سنوات من تولّي غصن مسؤولية إنقاذ الشركة، كانت شركة “نيسان” قد تجاوزت منافستها “هوندا” لتصبح ثاني أكبر شركة سيارات في اليابان، ويتضاعف رأس مالها خمس مرّات، ويرتفع هامش عملياتها عشرة أضعاف، وتخرج “نيسان” من تعثُّرها في اليابان لتتحوّل إلى لاعب رئيسي في سوق الولايات المتحدة.
كان إنجاز غصن مذهلا لليابانيين الذين اعتَبروه الغايجن (Gaijin) -الأجنبي باللغة اليابانية- المُنقذ لواحدة من أهم الشركات العريقة في اليابان. وعلى الرغم من أنه رابع أجنبي يقود الشركات اليابانية، فإنه اعتُبِر أكثرهم تأثيرا ولفتا للانتباه في المجتمع الصناعي الياباني الذي اعتاد تصدير الأساليب الإدارية الناجحة للعالم بدلا من استيرادها. (1، 2، 3)
التحليق فوق سحاب الإنجازات
في بدايات الألفية، وبعد انتشال “نيسان” من الغرق وعودتها إلى الساحة العالمية، تحوّل كارلوس غصن إلى رمز شديد الشهرة في اليابان، ليس فقط على مستوى الصناعة، وإنما أيضا على المستوى الشعبي. أصبح من الطبيعي أن يطلب مُعجبوه منه توقيعا أوتوغرافيا، حتى رجال الأعمال اليابانيون بدؤوا يسيرون على نهج الأجنبي ذي الملامح شرق الأوسطية، ليس فقط في نهجه الإداري، وإنما أيضا في طريقة ارتدائه للملابس والظهور الإعلامي.
في العام 2004، منح إمبراطور اليابان آكيهيتو ميدالية الشريط الأزرق لكارلوس غصن لإنجازاته الاستثنائية في خدمة اليابان، مما جعله أول مدير أعمال أجنبي يحصل على هذه الميدالية على الإطلاق. في تلك الفترة أيضا، صدر كتاب مانغا بعنوان “القصة الحقيقية لكارلوس غصن”، الذي يُبرز قصة بطل غامض يأتي من بلاد بعيدة.
بعدها بعام واحد تم ترقية غصن لمنصب الرئيس والمدير التنفيذي لشركة “رينو” الفرنسية، في الوقت نفسه الذي كان يشغل فيه منصب الرئيس التنفيذي لشركة “نيسان”، ليُصبح بذلك أول شخص في العالم يُدير شركتين في قائمة فورتشن غلوبال 500 -التي تضم أقوى 500 شركة في العالم- في الوقت نفسه.
لاحقا، تزايد نشاط غصن بشكل كبير في عالم صناعة السيارات، حيث عُرض عليه إدارة شركة “فورد” العريقة للسيارات، إلا أنه رفض أن ينضم إلى الشركة إلا في منصب رئيس تنفيذي. في العام 2007، قاد غصن تحالفه الكبير بين “نيسان” و”رينو” لاقتحام سوق السيارات الكهربائية، وأُنتِجت سيارة “نيسان ليف” الكهربائية التي تُعتَبر أول سيارة عالمية عديمة الانبعاثات وبسعر في متناول اليد.
في العام 2011، وبعد زلزال اليابان الشهير الذي اعتُبِر من أسوأ الكوارث الطبيعية التي شهدتها البلاد، انهارت أجزاء كبيرة من مصنع لواكي التابع لشركة “نيسان” في مقاطعة فوكوشيما، إلا أن إدارة غصن استعادت عمل المصنع بالكامل في زمن قياسي. لاحقا، عُيِّن غصن نائب رئيس مجلس إدارة شركة “أفتوفاز” الروسية، واستولى على منصب رئيس مجلس الإدارة في 2016، بعد أن سيطر تحالف “رينو – نيسان” على صناعة السيارات الروسية في العام 2014.
بقدوم العام 2016، استحوذت “نيسان” على حصة 34% من شركة “ميتسوبيشي” اليابانية، ليتحوّل التحالف الثنائي بين “رينو” و”نيسان” إلى تحالف ثلاثي يشمل “نيسان – رينو – ميتسوبيشي”، ليُصبح رابع أكبر تحالف شركات سيارات في العالم. (2، 3، 4)
بيد أن بريق الإنجازات الكبيرة التي حقّقها غصن على مدار مسيرته المهنية لم يكن هو الصورة الكاملة. في الجهة المقابلة، كانت هذه النجاحات المدهشة تعوم على بحر من الغضب والضيق، سواء من مظاهر عديدة لشخصية غصن، منها تسلّطه الإداري، أو -كما وصفت صحيفة النيويورك تايمز- المبالغة في مستوى أجره وحياته الفارهة التي لا تتماشى مع طبيعة المجتمع الياباني.
لم يكن “قاتل النفقات” يتقاضى أجرا يحمل أي ترشيد للنفقات. في العام 2004، شوهد غصن وهو يقود سيارته البورش الفاخرة، مما جعل الإعلام الياباني حينذاك يتناول الخبر بدهشة كونه لا يقود سيارة “نيسان”، وهو أمر غير معتاد في الثقافة اليابانية للولاء للمؤسسة. بإلاضافة أيضا إلى الكثير من الشكاوى التي تتحدّث عن “غطرسة” السيد غصن المبالغ فيها على خلفية إنجازاته.
لاحقا، تعاظم أجر غصن بشكل كبير، حتى وصل إلى أن يتقاضى راتبا بقيمة 17 مليون دولار، ثمانية ونصف ملايين منها من شركة “رينو” الفرنسية، وستة ملايين ونصف من شركة “نيسان” اليابانية، ومليونان من شركة “ميتسوبيشي”. هذا الراتب الضخم يُعادل 11 ضعفا لراتب رئيس مجلس إدارة شركة “تويوتا” اليابانية التي تُعتَبر أكبر مُصنِّع للسيارات في العالم.
مع طائرة خاصة يصل ثمنها إلى 67 مليون دولار تستوعب 10 أشخاص، والعديد من المنشآت التي يشغلها غصن على حساب الشركة، لم يعد الأمر يقتصر على اليابان فقط، وإنما امتد إلى شركته الأم “رينو” التي تملك الحكومة الفرنسية 15% من أسهمها، حيث بدأ حاملو الأسهم يُثيرون ضجة حول راتب غصن المبالغ فيه الذي يزيد على حدود الـ 240 ضعفا من الحد الأدنى للرواتب، وهو ما يُعتَبر أمرا خارجا عن السيطرة. وصل الأمر إلى أن الرئيس الفرنسي الحالي “إيمانويل ماكرون” وصف الراتب الذي يتقاضاه غصن من الشركة الفرنسية -أكثر من 8 ملايين دولار- بأنه راتب مُفرط. وعندما سُئل غصن ذات مرة إذا كان يتقاضى أجرا أكثر من اللازم (Overpaid)، أجاب أنه يتقاضى تعويضا مناسبا عما يُقدِّمه من خدمات للشركات التي يُديرها. (2)
السقوط من فوق السحاب.. فساد أم مؤامرة؟!
في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وعند هبوطه في مطار طوكيو، ألقت قوات الشرطة اليابانية القبض على كارلوس غصن بعدة اتهامات حول مخالفات مالية وإساءة استخدام أصول الشركة لمصلحته الشخصية ولعائلته، بشكل اعتُبِر إهدارا كبيرا لأموال الشركة. لم يكن سبب إلقاء القبض عليه هو راتبه الخيالي، وإنما بسبب دعاوى من شركة “نيسان” التي أجرت تحقيقا داخليا لعدة أشهر يُفيد أن منقذها من مستنقع الإفلاس كان يُخفي حساباته المالية عن المراجعة عدة سنوات واختلس من ورائها ملايين الدولارات بشكل غير قانوني.
حدث كل شيء بسرعة. بعد ثلاثة أيام فقط من إلقاء السلطات اليابانية القبض على غصن، قرّر مجلس إدارة شركة “نيسان” إقالة غصن من منصبه يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني، تبعتها شركة “ميتسوبيشي” التي أقالت غصن من إدارتها في يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني، بينما تمهّلت شركة “رينو” الفرنسية من إزاحة غصن إلى أن “قبلت استقالته” في يناير/كانون الثاني 2019، ليُصبح الرجل خارج مناصبه الإدارية في التحالف الثلاثي المميز الذي كوّنه خلال السنوات الماضية.
احتُجِز كارلوس غصن للمرة الأولى لما يزيد على 100 يوم، ثم أُخلي سبيله بكفالة ووُضِع تحت المراقبة. لاحقا، أُلقي عليه القبض مرة أخرى في أبريل/نيسان 2019، وهو إجراء غير مسبوق لمن أُخلي سبيله بكفالة، موجّها له المزيد من الاتهامات التي تتعلّق بإخفاء راتبه عدة سنوات، وخيانة الثقة، وإساءة استخدام أصول الشركة لمصلحته الشخصية، فضلا عن التورط في قضية مدفوعات سرية بأكثر من 30 مليون دولار لموزّع “نيسان” في سلطنة عمان.
إلا أن غصن لم يواجه هذه الاتهامات صامتا، وأدلى بالعديد من التصريحات خلال تلك الفترة تُشير إلى أن الأمر أكبر بكثير من كونه فسادا ماليا، حيث واجه رجل الأعمال ذو الأصول اللبنانية هذه الادعاءات كافة بأنه يتعرّض “لمؤامرة وخيانة”، وأن مجلس إدارة “نيسان” وجّه له “طعنة في الظهر”، وأن الأمر لا علاقة له بأي فساد مالي أو اتهامات وُجِّهت له، وإنما مؤامرة سياسية واسعة النطاق. (2، 3، 15)
في يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 2019، اتخذ غصن ما وصفه لاحقا بأصعب قرار اتخذه في حياته، عندما غادر منزله في طوكيو حيث يقضي إقامته المحدودة بكفالة تحت المراقبة، والتقى رجلين أميركيين في أحد الفنادق، ثم استقلّ ثلاثتهم القطار السريع إلى أوساكا غرب اليابان. لاحقا سجَّلت كاميرات المراقبة الرجلين الأميركيين بمفردهما يخرجان من فندق بجوار المطار يحملان صناديق كبيرة، أحد هذه الصناديق كان يضمّ جسد كارلوس غصن نفسه، بعد أن توفّرت له التهوية المناسبة.
وُضِع صندوق غصن في طائرة خاصة غادرت البلاد وهبطت في مطار إسطنبول في تركيا، ولم يمضِ 45 دقيقة على وصول غصن إلا واستقل طائرة خاصة أخرى غادرت إسطنبول إلى بيروت، والتي دخلها مستخدما جواز سفره الفرنسي. بمجرد ظهوره في بيروت، أثار خبر هربه ضجيجا كبيرا في الصحافة العالمية، وتعرّض مجموعة من الموظفين في مطار إسطنبول للإيقاف والمساءلة، بينما أوضحت مصادر صحفية منها الوول ستريت جورنال أن غصن استعان بضابط قوات خاصة أميركي سابق يعمل حاليا “متعاقدا أمنيا خاصا” وصف بأنه “خبير في فن عمليات الهرب السرية”! (8)
سأخبر العالم بكل شيء!
“لم أهرب من اليابان، بل هربت من الاضطهاد الذي كنت أواجهه، وهذا كان القرار الأكثر صعوبة في حياتي. تعرّضت لضغوط خلال التحقيقات في اليابان، وهُدِّدت بمضايقة عائلتي، ولا يجوز أن يعتمد النظام القضائي على فكرة الانتقام. جُرِّدت من حقوقي خلال توقيفي في اليابان، وكنت في سجن انفرادي يتعارض مع القوانين الدولية والعدالة المصونة وفق مبادئ حقوق الإنسان”
كارلوس غصن في تصريحات صحفية
بعد عدة أيام من عملية هربه إلى لبنان، ظهر كارلوس غصن يوم 8 يناير/كانون الثاني في مؤتمر صحفي طويل استمر على مدار ساعتين ونصف في العاصمة اللبنانية بيروت، أجاب فيه -متنقلا بين العربية والفرنسية والإنجليزية والبرتغالية بطلاقة مُدهشة- عن أسئلة الصحفيين، والتي ركّز فيها على أنه تعرّض لظلم شديد أثناء توقيفه في اليابان، وتعرّض لضغوطات “وحشية” لانتزاع اعترافات غير صحيحة منه، فضلا عن أنه لم يمثل أمام محاكمة عادلة أبدا، وكانت تُؤجَّل بشكل مستمرّ لإبقاء الوضع على ما هو عليه، وكان عليه أن ينتظر خمس سنوات إضافية لإصدار حكم عليه.
وفي الوقت الذي شنّت فيه وزيرة العدل اليابانية هجوما حادا على غصن متهمة إياه بأن هربه في حد ذاته جريمة كبرى، صرّح غصن أنه تعرّض لمؤامرة يقودها 3 مديرين يابانيين في شركة “نيسان” سمّاهم بأسمائهم، تعاونوا مع مسؤولين في الحكومة اليابانية وقاموا بتلفيق الاتهامات بالفساد المالي والتهربات الضريبية وإساءة استخدام السلطة، وأكّد حدوث تواطؤ بين شركة “نيسان” التي كان يرأس مجلس إدارتها والادعاء العام الياباني، في سبيل تحييد غصن عن تنفيذ خططه بتوسيع التحالف الذي كوّنه بين شركات السيارات اليابانية والفرنسية.
وقال غصن إن شركة “نيسان” تخسر 40 مليون دولار يوميا منذ توقيفه عام 2018، وخسرت نحو 38% من قيمة أسهمها في الأسواق رغم أن صناعة السيارات تشهد ارتفاعا في حركة الأسواق، بينما خسرت “رينو” التي كان يترأسها أيضا نحو 34% من قيمة أسهمها منذ توقيفه، وإن التحالف الثلاثي الذي كوّنه بين “نيسان” و”رينو” و”ميتسوبيشي” يمرّ بأوقات عصيبة وفقا للأرقام كافة. (9، 10، 11، 12، 13)
غصن “متعدد الجنسيات” قال إن لبنان هو البلد الوحيد الذي وقف بجانبه في أزمته، وأنه ليس رجلا سياسيا ولكنه مستعد لوضع خبراته كافة في خدمة لبنان إذا طلب ذلك، وأنه يعتزم البقاء لفترة طويلة في لبنان. كما قال إنه لا يعترض على المثول أمام محاكمة من أي نوع، فقط بشرط أن تكون محاكمة عادلة ونزيهة، لأنه لم يرتكب أي جرم يُحاسب عليه.
بعد المؤتمر الصحفي، وفي زخم الظهور الإعلامي المستمر لغصن، كان له لقاء أجراه مع شبكة “سي إن إن” (CNN)، وجّه المراسل له سؤالا عن “كيف كانت ساعاته التي قضاها داخل صندوق مغلق في قبو طائرة؟”، أجاب غصن ضاحكا بأنه: “لا تعليق”، ثم استدرك قائلا: