ورث دونالد ترامب عن رؤوساء أميركيين سبقوه في الحكم جملةً من الأزمات الدولية، لكن عوضاً عن النجاح في حلّ بعضها فإنّ الرئيس ترامب أضاف أزماتٍ دولية جديدة إلى سلّة الأزمات التي تتعامل معها الولايات المتحدة أو هي مسؤولةٌ الآن عن إحداثها.
فترامب هو المسؤول الآن عن التصعيد السلبي الحاصل في العلاقات التجارية الأميركية مع الصين والاتّحاد الأوروبي، وفي التأزّم بالعلاقات مع المكسيك وفنزويلا، ومع الحكومة العراقية مؤخّراً، إضافةً إلى مخاطر المواجهات العسكرية مع إيران بعد انسحاب ترامب من الاتّفاقية الدولية معها بشأن ملفهّا النووي، ثمّ ما يمكن أن يحدث من ردود فعل غاضبة على خطط وقرارات ترامب المجحفة والمتواصلة ضدّ حقوق الشعب الفلسطيني وتبنّيه الكامل لأجندة نتنياهو بشأن الملفّ الفلسطيني.
ولم يستطع ترامب حتّى الآن تحقيق حلمه بتوقيع اتفاقيات سلام مع كلٍّ من كوريا الشمالية وحركة “طالبان” بأفغانستان، بل على العكس، شهدنا مؤخّراً تزايداً في التصعيد السلبي مع واشنطن من قبل الزعيم الكوري الشمالي ومن “طالبان”، ولا يبدو في الأفق القريب إمكان عملية لإنهاء الصراع الأميركي مع كوريا الشمالية الممتدّ الآن لأكثر من ستّة عقود، ولا أيضاً للتورّط العسكري الأميركي المتواصل في أفغانستان على مدار عقدين من الزمن.
طبعاً، ليس لكوريا الشمالية في أزماتها المتكرّرة والمتصاعدة مع واشنطن ما تخسره، فهي تعاني من أوضاع سيّئة، ولن تنتظر قدوم حتفها إليها من خلال أسلوب الموت البطيء الذي يحصل من خلال الحصار والعقوبات الاقتصادية. وقد حاولت بيونغ يانغ، إلى أقصى الحدود، استخدام تهديداتها بما تملكه من صواريخ بالستية وقوّة نووية وعسكرية لكي تحصل على اعتراف أميركي بالنظام الحالي ووقف العقوبات المتراكمة عليه. ويبدو أنّ ذلك ما كان صعباً تنفيذه حتّى الآن من قبل الرئيس ترامب بسبب ضغوطات “البنتاغون” وأجهزة المخابرات والكونغرس، رغم حاجة الرئيس الأميركي لانتصار سياسي خارجي كهذا كان يأمل في الحصول عليه!.
أمّا بالنسبة لأفغانستان، فواضحٌ من المفاوضات الأميركية مع “طالبان”، بأنّ واشنطن قد فشلت في إنهاء هذه الجماعة بعد إسقاط حكمها في نهاية العام 2001، وبأنّ المراهنة الأميركية على إقامة “حكم بديل” يستقطب الأفغانيين ويعزل الحركة، لم ينجح رغم كل المحاولات والخسائر البشرية والمالية في حرب أفغانستان على مدار 18 سنة. وقد حاول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تخفيض عدد القوات الأميركية في أفغانستان وتحجيم دورها العسكري ووضع جدول زمني لانسحابها، لكنّه لم يستطع تحقيق ذلك بسبب ضغوطات “البنتاغون” والغالبية “الجمهورية” في الكونغرس. وهاهو الرئيس ترامب “الجمهوري” يدفع الآن بهذا الاتّجاه رغم امتعاض المؤسّسة العسكرية من هذا الأمر الرئاسي. فعملية اتّخاذ القرار لدى الإدارة الأميركية الحالية تخضع لاعتباراتٍ كثيرة أبرزها هو كيفية التوفيق الآن بين مصالح “الدولة الأميركية” وبين مصالح ترامب الذاتية.
أيضاً، ساهم فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016 بانتعاش التيّار العنصري داخل عددٍ من الدول الأوروبية، وبتأثّر بعض الأفراد العنصريين بالسياسة التي يتّبعها ترامب تجاه المهاجرين اللاتينيين والمسلمين، ممّا دفعهم للقيام بأعمال عنف وإرهاب ضدّ مراكز يتواجد فيها من ينتمون لهذه الجماعات الدينية والإثنية، كما حصل في نيوزيلندا مثلاً في العام الماضي من قتلٍ عشوائي في مسجدين إسلاميين.
ولم تسلم الطبيعة من سلبيات وجود ترامب على رأس صنع القرار في الولايات المتحدة، حيث تأثّرت سلباً الاتفاقيات الدولية التي جرت بشأن المناخ نتيجة قرار ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس في سنة حكمه الأولى، وعدم رغبته في تفعيل الإجراءات الدولية للحدّ من انبعاث ثاني أكسيد الكربون والمسؤول عن تغييراتٍ تحدث في حرارة الأرض والمياه وتؤدّي إلى كوارث طبيعية، كالتي شهدتها عدّة دول في السنوات القليلة الماضية.
ولعلّ أسوأ ما يفعله ترامب الآن في كيفية التعامل مع أزمات دولية معاصرة هو ما اتّخذه من قرارتٍ ذات صلة بالقضية الفلسطينية حيث خالف بسياسته ما كانت عليه الإدارات السابقة من سياسة ترفض الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل أو نقل السفارة الأميركية إليها، ومن “شرعنة” الإستيطان، ومن الاعتراف الأميركي بضمّ إسرائيل للجولان السوري المحتلّ، ومن وقف الدعم الأميركي للمؤسّسات الدولية الراعية لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، وهي قضايا تخضع كلّها أيضاً لمرجعية قرارات من مجلس الأمن الدولي والأمم المتّحدة، ويخالفها ترامب كما يخالف مواقف حلفاء أميركا في أوروبا وفي العالم كلّه!.
وأين هو الموقف الأميركي الآن من الحدّ الأدنى من المطالب العربية والفلسطينية التي تضمّنتها المبادرة العربية التي أقرّتها القمّة العربية في بيروت في العام 2002، حيث كان واضحاً في المبادرة ضرورة قيام “دولة فلسطينية” على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، وبأن تكون القدس عاصمتها، وبحلٍّ عادل لقضية اللاجئين، وبانسحاب إسرائيل من كلّ الأراضي العربية التي جرى احتلالها في حرب 1967.
إنّ “الوطن الفلسطيني”، بالمفهوم الإسرائيلي الذي يدعمه الآن فريق إدارة ترامب، ممرّه من خلال القبول ب”الإستيطان” و”التوطين” معاً. أي وطن فلسطيني ممزّق أرضاً وشعباً تنخر جسمه المستوطنات، وتوطين للفلسطينيين في الدول المقيمين بها الآن وإلغاء حقّ عودة اللاجئين.
إنّ “مصالح إسرائيل” ليست سائدة بالمنطقة العربية فقط، بل الأمر هو كذلك في الغرب عموماً وأميركا خصوصاً. فكثيرٌ من سياسات واشنطن وحروبها الأخيرة كانت مرجعيتها “المصالح الإسرائيلية” لا “المصالح الأميركية”، وحينما تحاول أي إدارة أميركية تحقيق مصالح “أميركا أولاً”، كما حاولت إدارة أوباما في الملفّ الفلسطيني، تضغط القوى الصهيونية داخل أميركا فيتمّ “تصحيح” الأولويات والقرارات لكي تتوافق مع الرؤى الإسرائيلية!.
لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش و”المحافظين الجدد” يقوم على فرض حروب و”فوضى خلاّقة” و”شرق أوسطي جديد”، وعلى الدعوة لديمقراطيات “فيدرالية” تُقسّم الواطن الواحد ثمّ تعيد تركيبته على شكلٍ “فيدرالي” يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته. ولا يخرج الحاكم الأميركي الآن، دونالد ترامب، عن هذه الرؤية للمصالح الأميركية، فما زال هدف “التغيير الجغرافي” في خرائط البلدان العربية أشدّ حضوراً للأسف من أمل “التغيير السياسي” الذي طمحت له بعض الشعوب العربية خلال العقد الماضي.
إنّ فلسطين كانت أوّلاً في “وعد بلفور”، قبل تقسيم المنطقة العربية في “سايكس بيكو” بمطلع القرن العشرين قبل مائة عام. وفلسطين كانت أوّلاً في حروب “الإفرنج” قبل ألف عام. وفلسطين كانت أوّلاً في هدف المستعمرين الجدد في القرن الماضي، وهي أيضاً كذلك في هذا القرن الجديد. وفلسطين كانت محور قضايا المنطقة قبل ترامب وستبقى كذلك بعد رحيله من “البيت الأبيض”. وستعود الحيويّة من جديد، إلى الشارعين العربي والفلسطيني، بشأن القضية الفلسطينية، عاجلاً أم آجلاً، حينما يجد الإنسان العربي أملاً في قياداتٍ تسير على طريقٍ سليم يجمع بين وضوحٍ في الرؤية، وبين أسلوبٍ سليم في التعامل مع الأصدقاء والخصوم والأعداء.
المصدر: مركز الحوار العربي