المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
يقوم النظام السياسي الأمريكي بشكل أساسي على مبدأي الفصل بين السلطات والرقابة والتوازن. ويُفترض في السلطة القضائية الاستقلال عن السلطتين الأخريين حتى تتمكن من القيام بدورها في تحقيق العدالة وسيادة القانون. بعبارة أخرى، فإن السلطة القضائية هى رمانة الميزان. إلا أن القضاء الأمريكي لم ينجُ من انتقادات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” التي يصدرها بين حين وآخر، كما أنه لم ينجُ من سياسات “ترامب” المثيرة للجدل التي تبناها منذ وصوله لسدة الحكم. الأمر الذي أثار المخاوف والتساؤلات بشأن استقلال القضاء الأمريكي، وبالأخص مع تزايد التكهنات بشأن إعادة انتخاب “ترامب” في عام 2020.
انتقادات متجددة
أطلق الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” جملة من الانتقادات التي طالت السلطة القضائية، ليس فقط بعد وصوله للسلطة، وإنما خلال حملته الانتخابية أيضًا. وشهدت الساحة الأمريكية سابقة لم تشهدها من قبل تمثّلت في تبادل الانتقادات بين رأس السلطة التنفيذية الرئيس “ترامب” ورأس السلطة القضائية رئيس المحكمة العليا “جون روبرتس”. وخلال عام 2018، أعلن الرئيس “ترامب” عن قواعد جديدة تمنع الأشخاص الذين يعبرون الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وليس عبر منفذ دخول رسمي، من الحصول على حق اللجوء. لكن في 20 نوفمبر 2019 أمر القاضي “جون تيجر” (من محكمة الاستئناف الأمريكية- الدائرة التاسعة) الإدارة بقبول طلبات اللجوء بغض النظر عن مكان الدخول. وفي 9 يناير 2018، قام قاضي محكمة المقاطعة “وليام إلسوب” في سان فرانسيسكو بمنع إدارة ترامب مؤقتًا من إنهاء برنامج الإجراء المؤجل الخاص بالأطفال (DACA). الأمر الذي دفع الرئيس “ترامب” إلى التعبير عن استيائه مما أسماه بــــ”القضاء المسيس” في الولايات المتحدة. كما كتب “ترامب” في تغريدة عبر حسابه على تويتر: “آسف أيها الرئيس جون روبرتس، لكن هناك فعلًا قضاة موالون لأوباما”. وفي المقابل، رد رئيس المحكمة العليا “روبرتس”: “ليس لدينا قضاة موالون لأوباما أو ترامب أو بوش أو كلينتون”، مضيفًا: “لدينا مجموعة استثنائية من القضاة المتفانين الذين يفعلون ما بوسعهم ليحاكموا الذين يمثلون أمامهم بالعدل”.
ولم يكن هذا الانتقاد الذي طال القضاء هو الأول من نوعه، حيث سبقه سيل من الانتقادات بسبب عرقلة القرارات الذي يتخذها الرئيس “ترامب” والسياسات التي يسعى لتطبيقها. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في 31 أكتوبر 2017، عندما أدى هجوم إرهابي في مانهاتن إلى مقتل ثمانية أشخاص وإصابة العديدين إصابات خطيرة، حيث علّق الرئيس “ترامب” ردًّا على الحادث بعبارات مثّلت انتقاصًا من مكانة السلطة القضائية، واصفًا المحاكم بأنها “مزحة” و”مثيرة للتهكم”. مضيفًا أن الأمر بحاجة إلى عدالة سريعة وقوية، أسرع بكثير وأقوى بكثير من الموجود الآن. كما قال “ترامب” إنه “سيفكر بالتأكيد في إرسال المشتبه به إلى السجن العسكري الأمريكي في جوانتنامو.”
في 3 فبراير 2017، أصدر قاضي محكمة المقاطعة في واشنطن “جيمس روبرت” قرارًا مؤقتًا بوقف إنفاذ الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب في 27 يناير، والذي يوقف الهجرة من سبع دول ويوقف قبول اللاجئين من أي مكان. وفي 15 مارس 2017، قام قاضٍ اتحادي في هاواي بمنع تنفيذ الأمر التنفيذي في جميع أنحاء البلاد مؤقتًا. وردًّا على ذلك أصدر “ترامب” سلسلة من التغريدات والبيانات التي تهاجم القضاة الذين يتخذون قرارات شخصية، متسائلًا عن سلطة المحاكم الفيدرالية في مراجعة أوامره التنفيذية، مما يوحي بأن القضاة والنظام القضائي سيكونون السبب في الهجمات الإرهابية في المستقبل.
أما خلال الحملة الرئاسية في عام 2016، فقد أدلت القاضية بالمحكمة العليا “روث بادر جينسبيرج” بتعليقات وصفت “ترامب”، المرشح الجمهوري للرئاسة آنذلك، بـ”الزائف”، مضيفة أنها “لا تستطيع أن تتخيل ما ستكون عليه البلاد مع وصول ترامب للحكم”. ورد “ترامب” عبر سلسلة من التغريدات التي تصف القاضية “جينسبرغ” بأنها “قاضية غير كفؤة”، ودعاها إلى الاستقالة.
الانحياز لليمين
لا يتوقف موقف الرئيس “ترامب” من القضاء عند حد شن حملة الانتقادات، لكنه اتبع سياسة التوسع في تعيين القضاة أصحاب الميول اليمينية المحافظة، مستغلًّا في ذلك الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ التي تتطلب موافقته على تعيين القضاة المرشحين من قبل الرئيس. وفقًا للفقرة الثانية من المادة الثانية من الدستور الأمريكي، للرئيس أن يُرشّح وأن يعيّن، بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته، سفراء ووزراء مفوضين آخرين وقناصل وقضاة للمحكمة العليا وسائر موظفي الولايات المتحدة الآخرين، الذين لا ينص الدستور على أحكام تعييناتهم والتي سيتم إحداثها بقانون. ولكن يمكن للكونجرس أن ينيط بواسطة قانون، حسبما يرى، تعيين مثل هؤلاء الموظفين الأدنى رتبة، بالرئيس وحده، أو بالمحاكم، أو بالوزارات. وللرئيس السلطة لشغل جميع المناصب الشاغرة التي قد تحدث أثناء عطلة مجلس الشيوخ، وذلك عن طريق منح تفويضات ينتهي أجلها بنهاية الدورة التالية للمجلس.
وفي هذا السياق، قام الرئيس “ترامب” بتعيين 187 قاضًيا خلال السنوات الثلاث الأولى من توليه منصبه، ووصل عدد من تم تعيينهم خلال عام 2019 فقط إلى 100 قاضٍ. يتشابه في ذلك مع الرئيس “جيمي كارتر” الذي عين أكبر عدد مما يعرف بـــــ”قضاة المادة الثالثة”.
وقبل أن يصبح رئيسًا، وعد “ترامب” بتفويض عملية الاختيار القضائي للجمعية الفيدرالية the Federalist Society، التي تأسست عام 1982 من جانب عدد من الطلاب المحافظين بأكبر ثلاث كليات للقانون بجامعات هارفارد ويال وشيكاغو، وتضم مجموعة قوية من المحامين المحافظين. وخلال حملته الانتخابية، تعهّد “ترامب” للناخبين المحافظين بتسمية قضاة تتوافق مواقفهم مع قيمهم.
وقد أوضح موقع Vox أن جمهوريي مجلس الشيوخ استطاعوا عرقلة بعض ترشيحات القضاة التي قدمها الرئيس “أوباما” خلال ولايته، وفقًا للتقليد غير الرسمي المعروف باسم “الزلة الزرقاءblue slip ” لأعضاء مجلس الشيوخ الذي يرتبط بموافقة السيناتور على القضاة الفيدراليين المرشحين داخل ولاياته، الأمر الذي أدى إلى شغر بعض المناصب لحين تولي الرئيس “ترامب” الحكم. كما أنهم لم يتعاملوا بالمثل بعد وصول الرئيس “ترامب” لسدة الحكم، حيث تم تجاوز الرفض الصادر عن بعض أعضاء مجلس الشيوخ من الديمقراطيين بشأن القضاة المرشحين، مثل تأكيد مرشحي محكمة الاستئناف مع تجاهل اعتراض أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين عن هذه الولاية. إلا أن الجمهوريين أبدوا بعض الالتزام بتقليد “الزلة الزرقاء” فيما يتعلق بمحاكم المقاطعات District Courts.
وفيما يتعلق بالمحكمة العليا، فإنها المحكمة الوحيدة المنصوص عليها صراحة في الدستور، ولها صلاحيات تمنحها رئاسة السلطة القضائية، وتتألف من 9 قضاة يتم تعيينهم مدى الحياة بقرار من رئيس الجمهورية وموافقة مجلس الشيوخ. وتفسر المحكمة العليا القوانين والقرارات الإدارية كما تحدد دستورية التشريعات فيما يعرف بـــــ”المراجعة القضائية أو الدستورية”. وقد لفت موقع Vox إلى عدد القضاة وتقسيماتهم، مشيرًا إلى قيام الرئيس “ترامب” بتعيين قاضيين في المحكمة العليا مثلما فعل الرئيس السابق “أوباما”. لكن تأثير “ترامب” على المحكمة العليا يتجاوز بكثير “أوباما”، لأن “ترامب” استبدل القاضي المحافظ المعتدل نسبيًّا “أنتوني كينيدي” بالمحافظ المتشدد “بريت كافانو”، حيث حافظت القاضيتان المعينتان من قبل “أوباما” (“سونيا سوتومايور” و”إيلينا كاجان”) إلى حد كبير على توازن القوى داخل المحكمة العليا، في حين دفع “ترامب” هذه المحكمة إلى أقصى اليمين، حيث تشير بعض التحليلات إلى وجود 5 قضاة محافظين بداخلها.
وفي محاكم الاستئناف، التي تصدر الكلمة الأخيرة في الغالبية العظمى من القضايا الفيدرالية، قام ترامب بتعيين أكثر من ربع القضاة العاملين بها. ففي أقل من ثلاث سنوات، عين ترامب 48 قاضيًا. وفي مرحلة مماثلة من رئاستهم، عين الرئيس جورج بوش 30 قاضيًا، وعين الرئيس كلينتون 27 قاضيًا، وعين الرئيس جورج بوش الابن 31 قاضيًا، وعين الرئيس ريجان 23 قاضيًا.
لافتًا إلى أنه بالنسبة إلى محاكم المقاطعاتDistrict Courts، وهي أدنى مستوى في المحاكم الفيدرالية، كان تأثير ترامب محدودًا نسبيًّا، حيث عين أوباما 268 قاضيًا، بينما عين ترامب 112 قاضيًا فقط حتى الآن. ويرجع السبب في ذلك إلى أن قضاة المقاطعات يتعاملون في كثير من الأحيان مع الأمور الروتينية مثل القضايا الجنائية الفردية. وأوضح تقرير حديث صادر عن جماعة “التحالف من أجل العدالة” التقدمية، عبر موقع نيوزويك، أن معظم القضاة المرشحين من الرئيس ترامب لمحاكم الاستئناف والمحاكم المحلية هم من الرجال البيض (76% منهم من الرجال، وأكثر من 85% من البيض).
وفي السياق ذاته، أكدت دورية “القانون الوطني” The National Law Journal عبر موقعها الإلكتروني بتاريخ 10 يناير 2020، أن التحرك السريع الذي يقوم به مجلس الشيوخ لقبول القضاة لم يلتفت إلى التصنيف الصادر عن نقابة المحامين الأمريكية ABA بشأن المرشحين “غير المؤهلين”. مبلورًا المثل الخاص بالتصنيف الذي حصل عليه “لورانس فاندايك”، الذي وصفه التصنيف بأنه “يفتقر للمعرفة بالممارسة اليومية”، وتم التساؤل عن حدود عدالته تجاه مجتمع المثليين، وعلى الرغم من ذلك تجاهل مجلس الشيوخ التصنيف ووافق عليه ومنحه المنصب. وبشكل عام، تم تأكيد تعيين 7 قضاة من بين 9 قضاة من الذين حصلوا على تصنيف “غير مؤهلين” من قبل مجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية. معتبرًا أن هذا الأمر يعبر عن تحرك مقصود من الجمهوريين لتمهيد الطريق أمام الرئيس ترامب لإعادة تشكيل القضاء الاتحادي. ولم يتوقف الأمر بالجمهوريين عند هذا الحد، وإنما بدأوا بالتساؤل عن أسباب تدخل نقابة المحامين في التعيينات القضائية. الأمر الذي دفع بعض المراقبين إلى اتهام نقابة المحامين بالعمل وفقًا لتحيزاتها الليبرالية.
ملاحظات عامة
تذهب بعض التحليلات إلى وضع الاعتبارات السياسية والدينية ضمن أسس اختيار القضاة، وبالتالي فالرئيس يختار القضاة في الغالب من نفس تياره الفكري. ولكن جرت العادة على إحداث نوع من التوازن النسبي. على سبيل المثال، في المحكمة العليا جرت العادة على وجود عضو يهودي، بجانب إحداث نوع من الموازنة بين تمثيل كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وبالرغم من اعتبار مبدأ الفصل بين السلطات كمبدأ أساسي في النظام الأمريكي، إلا أن هناك مجالات واسعة للتقاطع تصعّب من وضع خطوط فاصلة بين تشابك السلطات الثلاث. الأمر الذي نجم عنه بلورة ما يُطلق عليه بـــــــ”الاختصاص السياسي” للمحكمة العليا، بطريقة جعلت لها اليد العليا في التشريعات والقرارات التنفيذية.
وتأسيسًا على ما سبق، يُمكن بلورة الملاحظات المرتبطة بموقف الرئيس “ترامب” من القضاء على النحو التالي:
– أن حدود تأثير الميول السياسية والحزبية لدى القضاة ليست هي المتغير الوحيد الذي يؤثر على هيكل العدالة. كون أحكام القضاة تستند في أغلب الأحوال –إن لم يكن كلها– إلى الدستور والقوانين القائمة بالفعل.
– أن الاختيار وفقًا لاعتبارات سياسية أو دينية ليست سابقة على الساحة الأمريكية، وإنما الأمر المقلق يكمن في الخوف من اتجاه القضاء نحو اليمين بطريقة تضر بحياديته وعدالته.
– يرتبط بما سبق، أن التأثير الأكبر للميول السياسية والحزبية لدى القضاة قد يؤثر في الأمور ذات الطابع السياسي والخلافي، أكبر من الأمور المرتبطة بالعدالة والإنصاف. على سبيل المثال، كتب أحد قضاة المحكمة العليا “نيومي راو”، المعين حديثًا من قبل “ترامب”، تعليقًا على إجراءات عملية مساءلة ترامب: “إن السماح للجنة بإصدار أمر الاستدعاء هذا لأغراض تشريعية سيحول الكونجرس إلى محاكم تفتيش متجولة على فرع مشترك من الحكومة”.
– أن ما يقوم به “ترامب” تجاه القضاء يمثل وفاءً بوعده الانتخابي، حيث تعهد خلال حملته للناخبين المحافظين بتسمية قضاة تتوافق مواقفهم مع قيمهم.
– فيما يتعلق بالانتقادات التي يطلقها “ترامب” تجاه القضاء، يمكن اعتبارها نتيجة مباشرة للاختصاص السياسي للقضاء، لكنها تعتبر في الوقت نفسه تعديًا على السلطة القضائية.
– تتجه بعض التحليلات إلى اعتبار أوراق الاعتماد القانونية بشأن القضاة المعينين من قبل “ترامب” موضوعية لحد كبير، حيث إن لديهم سيرة ذاتية زاخرة.
– يتميز القضاة المرشحون من قبل “ترامب” بصغر السن، حيث إن متوسط أعمارهم أقل من 50 عامًا، أي أصغر بعشر سنوات كاملة من متوسط عمر المرشحين من قبل “أوباما”.
– تشير بعض التحليلات إلى مكامن خطر في التغير الحالي الذي ينتاب القضاء، ذلك أن سيطرة المحافظين على الرئاسة ومجلس الشيوخ والقضاء تعني تهديدًا واضحًا للنموذج الديمقراطي الأمريكي، وبالأخص مع وصول “ترامب” مجددًا لسدة الحكم، حيث سيصبح رئيسًا ذا سلطات غير محدودة.
– قد يعرقل القضاء –بشكله الحالي– أي تحركات للرئيس القادم حال وصول رئيس ديمقراطي لسدة الحكم، بسبب الميول اليمينية المحافظة التي يستند إليها القضاء.
إجمالًا يمكن القول، إن ما يقوم به “ترامب” حيال القضاء لا ينفصل عن نهجه العام في الحكم، ولا عن سياساته المثيرة للجدل. ومن ثم، يمكن اعتبار تحركات الرئيس “ترامب” في اتجاه مزيد من توسيع ودعم سلطاته، وبالتالي فالأمر يرتبط باللعبة السياسية أكثر من ارتباطه بالعدالة الأمريكية في مضمونها.